مشاهدُ من يوميات حربٍ عبثية في السودان

 


 

 

(1)

صحوتُ على دويّ المدافع في الفجر، من قبل أن يصل أذان الصلاة إلى مسمعي. لكأنَّ المطلوب، ساعتها، أن نتهيّأ لتلبية دعوة عاجلة للموت، وليس لأداء الصلاة حين تبين خيوط الفجر الأولى. غير أن أزيز الطائرات القاتلة يشقّ الظلام الحالك، وهي طائراتٌ نعرف أنها من نوع مجهول الصلاحية، فكيف تُرى يُحسن قباطنتها تصويب قنابلها على أهدافها في الأرض والظلام دامس وسواد في سواد. ليس السودان من البلدان التي تمرّست على حرب المدن. تتمـدّد مساكن السودانيين على مساحاتٍ أفقيةٍ شاسعة المساحة، فليسـت في ثقافة معـمار المدن في السودان مخابئ تحفر تحت الأرض، ولا كهوف يتلمّسها الناس ملاذاتٍ ليختبئوا في حفرها. في المدن الراشدة، مثل بيروت التي جرّبت حروب الشوارع في المدن، تسمع صـافرات تنبّه السـكان الأبرياء فيهرعون للملاجئ الآمنة تحت الأرض نشداناً للسلامة.

(2)

في السودان، ليس لمقاتلات سلاح الطيران خبرات تُذكر في التصويب المحكم وقبل رمي قذائفها، ولا السكان الأبرياء في العاصمة الخرطوم مُهيأون لتفادي مثل تلك القذائف. أكثر من قتلوا بالقـذائف العشوائية، هم من دفعهم حب الاستطلاع البريء إلى الوقوف لتقصّي ما يحدُث من حولهم وما يسمعون من دويٍّ فتصادفهم زخّاتٌ من رصاص طائش، وشظايا من قتلةٍ لا يجيدون التصويب، فيقضي كثيرون نحبهم، وهم يتطلّعون لمعرفة ما يجري. القاتل، من جهله وسذاجته، لا يدرك أبعاد جريمته، بل قد لا يدرك أنه ارتكب جريمة أصلا. أما القتيل فيرحمه الله، وقد يرحمه بعض من يشهد مقتله، فيدعو الناس إلى ستر الجثمان في مقبرة، أو في ساعات الخطر، قد لا يمرّ على القتيل أحد، فتبقى جثته أياما مسجاة غارقة في دمائها.

(3)

حوصر طلبة في جامعة الخرطوم في كلية الهندسة في فصل دراسـي، فظـلوا منتظرين أن يخـفّ القصف. عجزوا عن اللحاق بزميلٍ لهم أصابته شظية في مقتل، وهـم محبوسون مع قتيلهم أياما عديدة أمام فصلهم الدراسي، فاضطرّوا آخر الأمر لستر جثمان زميلهم في باحة الكلية، ليس بعيداً عن القاعة التي تلقّى فيها الدرس الأخير قبل مقتله.

آسـيا عبد الماجد من رائدات المسرح السوداني، وأول من اعـتـتْ خشبة المسرح القومي السوداني في سنوات الستينيات الأولى من القرن العشرين، أنشأت، إثر تقاعدها واعتزالها التمثيل، مؤسّسة تربوية رعـتها بعرق جبينها. بلغت من الكبر مبلغاً، لكنها لـم تستسلم لموجبات التقاعد، فحملتْ بإرادة غلابة عبء أن تنشئ مشروعاً تربوياً لجيلٍ من فتيات السودان ليواصلن رسالة الإسهام في بناء وطن أحبته. لحقتها، والقتال العبثي في أوجه، شـظية عشوائية قاتلة أطلقها صبيٌّ من الصبيان المسلحين الذين سلّحهم القتلة، فأودتْ بحياتها. من شدّة احتدام الاشتباكات، فشـل الذين شهدوا المقتلة في القيام بواجب ستر جثمانها في مقبرة تليق، فستروا جثمانها الطاهر في أرض المؤسّسة التي أنشأتها ورعتها في حياتها.

حربٌ غير مسبوقة، ولم يعرف مثلها السودانيون، تستعر الآن بغير كوابح، ولا عقلاء سودانيين ذوي حكمة يوقفونها

الممثلة الفنانة آسيا عب دالماجد هي بالمناسبة أم إيهاب وأمّ صديقي العزيز تاج الدين نجل الشاعر الكبير الرّاحل محمد مفتاح الفيتوري، زوجها الأول.

(4)

مشهد ثالث من مشاهد الحرب العبثية، بل الحرب التي عبسـتْ في وجوه السّودانيين، وأيقظتْ في نفوس بعضهم شياطين الشرِّ، وقد كانت في سباتها منسية في قماقمها، فإذا هي حيَّات سعت إلى ابتلاع كل الذي شاع من دعاوى الأمانة الناكرة للذات، ومن غزل أهل الخليج في خصال الوفاء عند الملائكة السودانيين. نظرت حولي، وأنا غير مصـدّق ما رأيت أنه جرى في جامعة أم درمان أهلية. جيوش جرّارة من أناس عقلاء تحوّلوا فجأة إلى عصاباتٍ من نهّابين يسرقون الكحل من العين. رأيتهم صفوفاً من موتوسيكلات "التوك توك" وعربات تجرّها الجياد وأخرى تجرّها الحمير، حملوا كل ما ثقل وأيضاً ما خفَّ وزنه، وما كبرت قيمته أو قلّت، فلم يتركوا أثاثات تلك الجامعة من كراسي وطاولات، ومن حواسيب وأرفف كتب خشبية وحديدية. اقتلعوا أجهزة التكييف من جدران الفصول، ولم يتركوا مروحة كهربائية ولا مفاتيح إضاءة ولا نوافذ زجاجية، إلا اقتلعوها، ولم يسلم من نهش أيدي السرّاقين حتى السيراميك من أرضيّات قاعات الدراسة وفصولها. ذلك ما يسمونه بلغة الشركة الانفلات الامتياز، ولكن هل هنالك شرطة لتصبح جماحه؟

(5)

"أم درمان الأهلية" جامعة أنشأها نفرٌ كريم من أهل المدينة، ومن حرّ مالهم وجزيل تبرّعاتهم، ما انتظروا دعماً من حكومة أو عوناً من نظام سياسي. تدافعوا من دون منٍّ ولا أذى لنصرة التعليم الجامعي في مدينتهم، يوفرونه لأبنائها المحرومين، ولمن لم تتوفر لهم فرص لتلقي التعليم الحكومي المدعوم، فإذا بأولئك المحرومين وآبائهم هُم أول من تسوَّروا تلك الجامعة ونهشوا هياكلها ومقوّماتها وأثاثاتها فتركوها قاعاً صفصفاً وعرّوها من كلّ ما يذكر بأنها كانت يوماً جامعة تخرج على أيدي أساتذتها اقتصاديون ودبلوماسيون وأدباء وفنانون. شيء أشبه بأسطورة تحكى من أساطير الخيال. أصيب مدير تلك الجامعة بحالة من الذهول، إذ زارها ليجد مكتبه منهوباً، وقد عرّوه من كل شيء فيه، حتى من كرسي المكتب الذي يجلس عليه. أسرع الرجل النبيل، وهو برفسور ومعلم كبير، يطلب عون الشرطة، وهم في مركز قريب من جامعته، والقتال محتدم. ردّوه على عقبيه حزيناً كسيفاً، فقد أبلغوه أن منطقة جامعته خارج منطقة سيطرتهم. تلك هي الشرطة التي عرفت كيف تضع توصيفاً للانفلات الأمني. لعن الرجل حرباً قال عنها مشعلوها إنها عبثية، وابتعد عن خرائب كانت يوماً جامعة هي من بين أرقى الجامعات وأكثرها رصانة أكاديمية في العاصمة السودانية.

(6)

هذه بعض مشاهد حربٍ عميتْ عيون من أشعلوها عن تاريخ بلاد شامخة المعالم والأثر، وهي بلادهم هم، لا بلد أعدائهم، فداسوا عليها ببنادق الجهل وصلف عسكرية خائرة القوى بلا قدرات. بلا تدريب. بلا نُبل. هكذا وقفتُ على أطلالٍ كانت يوماً لوطنٍ عشـنا، نحن السودانيين، في رحابه. علّمنا كبارنا أن نحبَّهُ لا أن نبغضه، أن نجلّهُ لا أن نستضعفه، أن نعتزّ بحمايته، لا أن ندفع به إلى ذئاب جائعة، ونلقمه لأفواه أسود متربّصة.

أكثر من قتلوا بالقذائف العشوائية هم من دفعهم حب الاستطلاع البريء إلى الوقوف لتقصّي ما يحدُث من حولهم وما يسمعون من دويٍّ

يذكُر مؤرّخونا أن قروناً خمسة قد انصرمتْ منذ نهوض سلطنة الفونج السودانية القوية في سنوات القرن السادس عشر الميلادي، والسودان في ســـنوات تكوينه الأولــى، ثــم شـهدت أرض السودانيين حروباً تباينت شدتها وقسوتها بين طوائفه ومجتمعاته سنوات طوال، فأضعفت تماســك تلــك السلطنة، فجاء إليها محمد علي باشا الكبير في القرن التاســع عشـر من الشـــمال، ليضــمــها لسلطنته، ثم جاءت الثورة المهدية فأرست حكماً وطنياً على أنقاض صلف الحكم التركي الذي ابتدره محمد علي باشا حاكم مصر فترة قاربت الستين عاماً في السودان. وحين تكالبت القوى العظمى لدحر الثورة المهدية أواخر القرن التاسع عشر، وقع السودان في براثن حكم استعماري نفد منه بشقّ الأنفس أواسـط ســنوات القرن العشـــرين، فـنال السودان استقلاله عام 1956. اختصرت لك تاريخاً مليئاً بالمواجهات، محتشداً بحرارة السياسة، وملتهباً بين كرِّ وفرٍّ. لكن وللحقيقة التي عرفناها وقـــرأناها في كتب تاريــخ بلادنا السودان، فإنّ حرباً مثل الحرب الماثلة الآن والتي أشعلها السودانيون بأيديهم قبل أن يلهب فتيلها الآخرون، هي حربٌ غير مسبوقة، ولم يعرف مثلها السودانيون، تستعر الآن بغير كوابح، ولا عقلاء سودانيين ذوي حكمة يوقفونها.

(7)

إن كانت معركة كرري التي أنهى اللورد كيتشنر حكم المهدية الوطني في السـودان عبرها في عام 1899، وأزهق أرواح ما يربو على عشرة ألف سوداني، فقــد كانت علــى قسوتها حرباً أشعل أوارها أجنبيٌّ غازٍ ضدّ نظام وطني قائم. إذا انتقم البحر للشهداء الذين قضى عليهم كيتشنر، بموته غرقا في بحر الشمال، فمن، يا ترى، سينتقم للقتلى السودانيين الذين أزهقتْ أرواحهم في حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا بعير، بل أشعلها جنرالان من أبناء السودان، لا غرباء عنه مثل الجنرال كيتشنر، ولا أجانب جاءوه من وراء البحار.

تُرى من يتحرّك قلبه لنجــدة السودان، ولقد أريح لي أن أنصتُ لكلّ خطابات مـن تداعوا إلى القــمّة العربية في جدّة، فرصدت، ويا للأسف، من بين الزعماء العرب من تجاهل حتى ذكر اسم السودان في خطابه في دورة لجامعة الدول العربية، دعا لها من نظمها لمناقشة بنـدها الرئيسي الأول هو الأزمة الطاحنة التي قد تفضي، لولا لطف الله، إلى فناء دولة عربية من خريطة الشرق الأوسط والشمال الأفريقي.

 

آراء