مصالح المؤسسة العسكرية من استدامة الحرب فى السودان (2)

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم


يمكن إجمال المنافع التي تجنيها المؤسسة العسكرية من استدامة الحرب في ناحيتين: منافع مباشرة تتمثل في تحقيق مكاسب وامتيازات خاصة, ومنافع غير مباشرة تتحقق بالمحافظة على موازين القوى في المجتمع the status-quo التي تكون فيه المؤسسة العسكرية هي ذراع من أذرع القوة للنخب القوية النافذة في المجتمع, أي الطبقة ذات الشوكة والهيمنة Hegemonic. ولنعرض بإيجاز لكل واحدة من المنفعتين:
منافع مباشرة تتحقق للعسكريين:
استيلاء المؤسسة العسكرية على الحكم يتيح للعسكريين وخاصة القادة والجنرالات - تحقيق مكاسب خاصة تتمثل في الامتيازات العسكرية الناجمة عن حالة الاستعدادات الحربية, والمخصصات والبدلات, والسفريات وغيرها من الفوائد. ولا يخفى أن ميزانيات الدفاع تحت نظم الحكم العسكرية هي ميزانيات مفتوحة بسبب الحرب, وذلك بتوجيه الاقتصاد إلى اقتصاد حرب, وهذا يفسر لماذا تذهب حوالي 80% من ميزانية السودان إلى الجيش والأمن.
كما أن العسكريين باستيلائهم على السلطة يتسلمون كرسي الحكم وصولجان السيادة وأبهة السلطان, وهذا ليس من حقهم. فقد أدوا اليمين على حماية تراب الوطن وصون وحدته والذود عنه بالنفس والنفيس, وليس الاستيلاء على الحكم والسلطان. مهمة العسكريين الطبيعية هي خدمة الوطن وحماية أرضه وترابه, وليس التسيد والتسلط على الناس. والغاية من تحريم استيلاء العسكريين على السلطة هي بديهية: اذا تسلم الحكم من بيده قوة السلاح الرادعة, فإنه بطبيعة الحال سيستخدم هذه القوة في كل حين يشعر باهتزاز أركان عرشه. والعسكريون- حين استيلائهم على الحكم والسلطان- وهو ليس بحقهم - يصابون بنوع من تضخم الذات maglomania الشعور بالعظمة والاستعلاء على الناس والغرور. لتوصيف هذه الحالة فى مبلغ الشعور بالزهو الذى ينتاب العسكريين حين يمسكون بالسلطة, لم أجد وصفا أبلغ وأدق من ذلك الذى رسمه يراع الدكتور على حمد ابراهيم فى مقاله الموسوم "حتى لاتعود ريما لقديمها":
القوة الفعلية فى امتلاك الطامع فى السلطة للسلاح, امتلاك القدرة على استخدامه حتى يقهر الناس الذين يحولون بينه وبين ما يطمع فيه. بمعنى أن يكون عسكريا محترفا تم تأهيله وتدريبه على حساب دافع الضريبة , وشحن ذهنه بأنه, من دون جميع البشر, صار مكلفا بحماية الحدود والثغور, ... وهذا السبب وحده كفيل بأن يملأ صدره بالغرور, ويجعل منه طاووسا غجريا, لا ينظر تحت قدميه أبدا, ويكبر هذا الشخص المعمدان ويكبر فى ذهنه الوهم الكبير ... (انتهى).
بالأستيلاء على الحكم, تتخلى المؤسسة العسكرية - التي يفترض أنها مؤسسة حرفية مقتدرة تمكنها حرفيتها واقتدارها على ردع أي عدوان يلحق بالوطن أو ترابه - تتخلى عن هذا الدور الوطنى الذى هو تاج شرفها العسكرى, وتتحول من المحافظة على هذا الشرف العسكري الصائن للوطن, إلى مؤسسة بداخلها كل موبقات وفساد الحكم بالقوة والجبروت. فتتحول إلى مؤسسة تباشر أنشطة كثيرة متشعبة لا صلة لها بتخصصها وشرفها العسكري الأصيل. كتب الكاتب المصري محمد غيث معلقاً على هذا التحول في المؤسسة العسكرية المصرية:
تحول تلك المؤسسة العسكرية إلى مؤسسة تجارية وصناعية واستثمارية وبما يخالف طبيعة وجودها وتخصصها الدفاعي الأصيل... امتلاك تلك المؤسسة لمشروعات تجارية وصناعية واستثمارية ضخمة تقدر بمئات المليارات تم ضخها في استثمارات تجارية وصناعية, منها مصانع للمياه المعدنية ومصانع للإسمنت وصناعات أخرى عديدة جميعها مدنية لأتمت للصناعات العسكرية بأي صلة من قريب أو بعيد, ويتساءل الجميع عن الحجم الفعلي لتك الاستثمارات الضخمة. وأما السؤال الأهم... أين تذهب وتصب نتاج ومدخلات وأرباح تلك الصناعات والاستثمارات؟ بل ومن هو الرقيب عليها؟... ولماذا لا تدخل ضمن الرقابة المفترضة للأجهزة الرقابية للدولة والخزانة العامة المصرية؟... إلى أن يقول:
الكثيرون... المطالبة بشفافية وطرح أملاك وثروات هؤلاء القادة العسكريين... من أحاديث بدأت همساً ثم أضحت علانية عن تحول بعض رموز هذا المجلس العسكري وقياداته إلى أباطرة وباروتات يمتلكون من الثروات ربما أكثر من مبارك ورموزه (نكتفي بهذا القدر من مقال الأستاذ محمد غيث - صحيفة سودانيزا ونلاين بتاريخ 27/6/2011م).
لعل هذا ينطبق على المؤسسة العسكرية السودانية - صنو المصرية. ولأننا لا زلنا لا نعلم ما يدور داخل كواليس هذه المؤسسة العسكرية الحاكمة بالقهر فى السودان, ولأن هذه منطقة شديدة الخطورة على من يحاول "الاقتراب" والتنقيب عما يدور بداخلها خلف الأسوار, فلا أحد يجرؤ أن يقول "انظروا إلى ملكنا العريان" إلى حين أن تتاح لنا فرصة الحرية ان شاء الله - كما أتيحت للأستاذ غيث - للتنقيب والبحث والتقصي عن أنشطة جنرالات المؤسسة العسكرية السودانية. لكن ليس خافياً على أحد بالطبع تبعية بنك أمدرمان الوطني للمؤسسة العسكرية, وماصار معروفا عن ممارسات هذا البنك حتى للمؤسسات العالمية وأنشطة المؤسسة العسكرية في قطاع المواصلات وغيرها حسب معلوماتى المتواضعة فى هذا الشأن.
الشاهد في كل ذلك أن المؤسسة العسكرية - باستيلائها على الحكم - تستخدم سلطة الدولة والقوة العسكرية القاهرة لا لتحمي تراب الوطن, بل للدفاع عن مكاسبها الخاصة واستثماراتها وتجاراتها وصناعاتها والاستحواذ على الثروات التي هي حق أصيل للشعب أولاً وأخيراً. تحرم المؤسسة العسكرية الشعب من حقوقه, وتضربه بالبندقية إن هو تجرأ على المطالبة بها.
منافع غير مباشرة تتحقق للعسكريين:
الشق الثاني من الفوائد المتأتية للمؤسسة العسكرية تتمثل في منافع غير مباشرة - وهى الأخطر - تتحقق بالمحافظة على ميزان القوى داخل المجتمع the status-quo, تكون فيه المؤسسة العسكرية هي أحد الفاعلين الأصيلين ضمن منظومة النخبة المهيمنة على مقاليد الحكم والسلطة ومنابع الثروة والجاه في مقابل المجموعات المهضومة والمهمشة التي تشكل غالبية الشعب.
استيلاء العسكريين على الحكم يخلق منهم طبقة مميزة في المجتمع ترتبط وثيقاً بالنخب المهيمنة على الحكم والسيادة. تمتد هذه الصلات والعلائق حتى بعد التقاعد من الخدمة العسكرية فى تحالف وثيق مع فئات الرأسماليين وزعامات المجتمع الدينية والطائفية والقبلية, ذات التأثير القوي على القرارات العليا في البلاد. وهذا بالضبط ما تتكون منه النخبة السودانية الحاكمة منذ الاستقلال وحتى اليوم: تحديداً التحالف بين المؤسسة العسكرية والرأسمالية والزعامات الدينية والطائفية والقبلية. ترتبط هذه المؤسسات بمصالح مشتركة, والعامل المشترك الذي يربط بينها جميعا هو أنها تعمل في تناغم وتعاضد ضد بقية فئات المجتمع المستضعفة المهضومة والمهمشة والتي تشكل الغالبية العظمى من المجتمع السوداني بمن فيهم المثقفون المستقيمون, وليس الملتوون, والعلماء الأحناف, وليس علماء السلطان.
هذا التحالف إذ يضم في منظومته المؤسسة العسكرية كعنصر حاسم في حلبة الصراع على السلطة بين النخبة المهيمنة وبين بقية مكونات المجتمع, فكلما شعرت النخب المهيمنة بخطورة الموقف وإختلال ميزان القوة لغير صالحها وفي صالح قوى الهامش المستضعفة, سعت بالإستقواء بالمؤسسة العسكرية في حسم الصراع لصالحها, وفي أحايين أخرى تسلم مقاليد الحكم للجيش. وهذا بدوره يفسر لماذا الحلقة الدائرية بين الحكم العسكري/المدني/ العسكري في تداول السلطة في السودان- دون أن يخرج الحكم عن ذات دائرة النفوذ المهيمنة منذ الاستقلال- عسكرياً كان أم مدنياً. فالانقلابات العسكرية للإستيلاء على السلطة في السودان تأتي في سياق كون المؤسسة العسكرية هى مكون وعنصر أصيل في تحالف النخبة المهيمنة المتحكمة في مصائر الأمور بالبلاد, وهي بذلك حين تقوم بالانقلابات العسكرية إنما تفعل ذلك من باب المحافظة على مصالحها ومكاسبها كونها شريكاً في منظومة النخبة والهيمنة والمتحكمة hegemonic group بالقوة القاهرة المتوفرة لديها للحفاظ على موازين القوى واستدامة تفوقها وتفوق حلفائها في النخبة المتحكمة وإقصاء المجموعات الأخرى المنافسة. وهذا بدوره يفسر لماذا أن حلفاء المؤسسة العسكرية من الرأسماليين والقيادات القبلية والدينية يغضون الطرف بل يباركون الانتهاكات الشنيعة التي ترتكبها المؤسسة العسكرية الحاكمة في حق الوطن والمواطنين وان جاءت اداناتهم هزيلة فى المبنى والمعنى فهى لاتعدو كونها ذرا للرماد فى العيون. وهذا يعطينا درساً بليغاً في مدى حرص تلك القيادات على الوطن ومدى ايمانهم بالممارسة الديمقراطية وحقوق المواطنة وإفشاء الحريات وإقامة العدل.
خاتمة:
نستخلص من ذلك أن الانقلابات العسكرية وتقويض الحكم المدني النيابي الشرعي واستدامة الحرب في السودان ليس كل ذلك من مصلحة الوطن, بل يصب في مصلحة المؤسسة العسكرية ذاتها وجنرالاتها بما يتأتى لهم من مكاسب مباشرة وغير مباشرة. المكاسب غير المباشرة - وهي الأخطر- تتمثل في الحفاظ على موازين القوى داخل المجتمع السوداني, بهيمنة النخب المتحكمة في السلطة والثروة, ومن بين مكونات هذه النخبة تأتي المؤسسة العسكرية كعنصر حاسم في الصراع لصالح هذه النخبة. واستدامة الحرب في السودان ما هو إلا عرض ظاهرى لهذا الصراع السرمدى بين النخب المتحكمة المهيمنة فى المركز - بما فيها المؤسسة العسكرية - وبين القوى العريضة المستضعفة والمهشمة فى الأطراف بمن فيهم المثقفون والعلماء. وبانحياز المؤسسة العسكرية للنخبة المهيمنة, تكون قد فقدت خاصيتها الاحترافية وحيدتها وقوميتها كمؤسسة عسكرية تستند على الشرف العسكري في الدفاع عن كل الوطن بكل مكوناته وأقاليمه وأطيافه وترابه وأهله دون الارتماء في احضان مجموعة بعينها من مكونات المجتمع. نرى أنه للخروج من هذه الدائرة الخبيثة - التى سوف لن تفضى أبدا فى منوالها الحالى الى خلاص يرتجى -, لا بد من رجوع المؤسسة العسكرية إلى طبيعتها القومية ورسالتها الوطنية النبيلة وحيدتها وحرفيتها العسكرية وشرفها البطولي الذي عليه أدت اليمين في الذود عن تراب الوطن بالنفس والنفيس, وبذلك تكون هي محط محبة واعتزاز وفخر كل سوداني. ولتحقيق ذلك, يجب على المؤسسة العسكرية الابتعاد عن اللعب في ميدان السياسة والانقلابات العسكرية والامتثال التام للقرار المدني. وليكن ذلك ميثاق شرف يوثق في صلب دستور السودان الدائم, يحرم على المؤسسة العسكرية الاستيلاء على السلطة تحت أي ذريعة من الذرائع. (يتبع إن شاء الله).
والله ولي التوفيق

fadl8alla@yahoo.com  
السبت 1 شعبان 1432ه  الموافق 2 يوليو 2011م

 

آراء