مصر المؤمنة.. بشباب التحرير
بسم الله الرحمن الرحيم
السوداني المسلم والعربي كونه يتحدث العربية (بالتعريف النبوي للعروبة) يجد نفسه لامحالة في كماشة مصر! ولعل هذا ما ساق كثيرين من قبل للهيام في مصر حد الوله وقول شاعرنا المخضرم محمد سعيد العباسي رحمه الله: الناس فيك اثنان من رآى حسنا فهام به وآخرى لا يرى! ثم قول الشيخ البرعي حديثا رحمه الله: يا صاح همنا لي زيارة أمنا.. مصر المؤمنة بأهل الله.
نعم كانت مصر دائما الأخت الكبرى التي نقتات منها الفكر حتى قيل القاهرة تكتب والخرطوم تقرأ. وكانت حادي إحدى حركاتنا الوطنية الهامة وهي ثورة 1924م، وكذلك ملهمة ومقصد جزء هام من الحركة الوطنية متمثل في التيارات الاتحادية المختلفة. أما الحكومات الشمولية في السودان فكانت دائما تتجه شمالا وتتحصن بمصر ضد شعبها فتجد فيها حضنا دافئا يحميها من (صقيع الحريات) ومطالبات السودانيين المتكررة بالانعتاق من العسكر. فعلها بصوت خفيض الحكم العسكري الأول حينما استجاب لضغوط مصر ووصل لاتفاقية مياه النيل معطيا مصر كل ما تطلب وسادا الآذان من مطالبات النوبيين السودانيين حول قلة الاهتمام بالآثار الغارقة، ونقص التعويضات عن المطلوب، وحتى تسمية بحيرة السد التي أغرقت للنوبة تراثهم، والتي التهمت من السودان أراضٍ ضخمة شمال وجنوب خط عرض 22 درجة الفاصل بين البلدين، ولكن البحيرة سميت بحيرة ناصر بدلا عن أن تسمى بحيرة النوبة. أما النظام العسكري الثاني فقد غرق في الحضن الاستبدادي المصري منذ قيامه وتقلب مع مصر شرقا وغربا، حتى حينما دكت عرشه انتفاضة شعبية بقيت مصر غير راضية عنها ثم رحبت بالانقلاب اليونيوي (1989م) ترحيبا شديدا ونفت كل ما أكدته المعارضة السودانية المتبصرة من (أن الرجال جبهة) إشارة للجبهة الإسلامية القومية. وقام الرئيس المصري المخلوع بتحركات مكوكية في الإقليم لتثبيت عرش الإنقاذ. مرت العلاقة بين حكومتي مصر والأنقاذ عبر ثلاثة مراحل: الأولى في الفترة 1989-1991م وهما سنتي العسل اللتان فيهما أخفت الإنقاذ هويتها واستفادت من الغفلة المصرية. وفي الفترة 1991-1997م كانت مرحلة المخاشنة والمواجهة المكشوفة التي عبرها أخرجت الإنقاذ (وجه الصندوق) وكان أول ذلك الموقف من غزو الكويت ثم حرب الخليج الثانية (أغسطس 1990م- فبراير 1991م)، ثم إعلان التوجه الإسلامي في يناير 1991م لأول مرة في خطاب الاستقلال، ثم الاندغام في محور ما سمي بدول الضد العربي. في هذه الفترة جرت محاولة اغتيال الرئيس المصري في أثيوبيا 1995م وما جرذلك وتلاه من عزلة دولية جرت رجل مجلس الأمن الدولي أول مرة لإدانات للسودان تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وهو الخاص بتهديد الأمن والسلم الدوليين. أما المرحلة الثالثة والتي انتهت حتى انتفاضة فبراير الميمونة والتي ستبدأ عهدا جديدا لم تتشكل معالمه بعد، فقد تميزت بتحالف (حلو- مر) حيث تستند الإنقاذ على النظام المصري في كل تحركاتها الدولية بل والداخلية إذ تتخذه يدا للضغط على الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) الذي بقي على علاقة الأخ الأصغر وربما المتسلط عليه من قبل أخيه الأكبر مع النظام الحاكم في مصر. أما المر في العلاقة فكان تاريخ سابقة محاولة الاغتيال، وككل صاحب سوابق، كان النظام السوداني يغض النظر عن تجاوزات مصر لسيادته في حلايب التي احتلتها رسميا في 1997م وصارت مؤخرا تهجر مصريين ليقيموا فيها ولا ينبس الإنقاذيون ببنت شفة، ويعطون النظام المصري اليد العليا في قضايا كثيرة منها مثلا مسألة مشروع الجزيرة. كانت الإنقاذ تدفع فاتورة التهور، وتثبت حسن السير والسلوك كأي صاحب سوابق بتنازلات مهينة شرقا وغربا، حتى شكرتها السي آي إيه على التعاون!
هذه السيرة السئية للنظم الحاكمة في مصر، مع السيرة السيئة منذ مقولة فاروق أنه ملك لمصر والسودان بحق الفتح! أي ليس بحق الإخاء والمواطنة! تضافرت لتخلق نفورا من سودانيين كثيرين لم يرضوا أن تكون علاقتهم بمصر مع أزليتها قائمة على فتح أي إكراه وإجبار ومذلة.. هؤلاء عبروا عن رفض المذلة في جملة (حق الفتح) التي يريد أن يستنسخها البعض الآن في العلاقة بالجنوب، بنفور من مصر الرسمية.
لكن نستطيع القول إن أبلغ النافرين من الاستعلاء المصري المذكور ما كان ينفك كما قلنا من الكماشة المصرية بين السودانيين المسلمين الناطقين بالعربية.. فكلهم كانوا على أجراس مصر ينامون ويصحون فلو سألت أي قارئ سوداني لوجدت بين كتابه المفضلين جزءا كبيرا من المصريين بحسب ذوقه واتجاهه وفكره أكان إسلاميا أم علمانيا أم قوميا عربيا.. وبالرغم من ذلك بقي حاجز (الكرامة السودانية) حائلا دون الاندغام في الحالة العباسية (إشارة لشاعرنا العباسي) بل واستنكار قوله إن مصر قد جعلت له عن كره قرى السودان منازلا.. وحينما عشنا في مصر أوان المنفى الاختياري لعامين ونصف، وعدنا للسودان استنكرنا أن كل حافلات وأماكن الوطن العامة حينها (2000م) تمدح مع الشيخ البرعي: يا صاح همنا لي زيارة أمنا.. مصر المؤمنة بأهل الله! وكتبنا حول ذلك الاستنكار وقلنا إن في السودان الاتجاه الأصدق نحو الدين، وفيه رجال الله المخلصين ما لا يعد عادٌ! بعض ذلك وما استندنا عليه في قراءة مصر والمصريين دكه ثوار التحرير دكا دكا!
إن مصر الآن ليست فقط تغيرنظاما ثبت أركانه بالحديد والنار وقدح معارضيه وقهرهم بالسلاسل والشنار، بل إنها ترسم وجها جديدا في العالم.. قال باراك أوباما إننا يجب أن نربي أبناءنا ليكونوا مثل شباب مصر. وقال رئيس الوزراء البريطاني إن الثورة يجب أن تدرس في المدارس، وقال رئيس وزراء النمساء إن شعب مصر يستحق جائزة نوبل للسلام، وقالت السي إن إن إنها لأول مرة في التاريخ يقوم شعب بثورة ثم ينظف الشوارع! لا شك إنه شعب عظيم، حد العظمة البشرية! إن الشعوب التي كانت تسخر من المصريين وتتحدث عن تعودهم على السخرة والذل، بل إن كاتبا مصريا -أستاذ جامعي- كتب بعنوان (تراث العبيد في حكم مصرالمعاصرة) رصد وذكر وأسس للصورة السلبية التي كنا نحملها للمصريين ونستخف بعزمهم ونظنهم من الشعوب الخائرة التي تعلمت الركوع للفرعون منذ سبعة آلاف من السنين، هذه الشعوب أو هذه الجماعات بان الآن كم كانت تنظر للقشورفقط، وفاتها جوهر هذا الشعب الأبي المتحضر العظيم..
إننا اليوم كلنا مصريون أو نتمنى أن نكون كذلك كما قال الإمام الصادق المهدي وكما قال ستولتنبرج رئيس وزراء النرويج. قال رئيس وزراء إيطاليا تعليقا: لا جديد في مصر فقد صنع المصريون التاريخ كالعادة.
ربما، كان شعب مصر دائما محط أنظار العالم. ولكن حادثة يرويها التاريخ الديني المدون في الكتب السماوية تجعلنا نفتح آذاننا لأن ما في مصر جديد قديم، وجديد جديد!
فقد كان الفرعون كالرئيس المخلوع مبارك لا يري أهل مصر إلا ما يرى، وحينما انفلق البحر أمامه لم يصدق أنه مغرق فدخل فيه بكل صلفه، وهكذا فعل مبارك، من منا صدق كلماته في خطاباته الثلاثة وكل واحد منها كان يستخف بالعقل ويشحتف الروح لدرجة العذاب، ورويت بعض المواقع إن ابنه علاء كان يتابع الفضائيات العربية (على عكس أخيه الأصغر الذي كان يتابع قنوات مصر وإذا جاءت بغير ما يشتهي يتلفن لوزيرالإعلام شاتما ومتوعدا) قالوا إن علاء قال بغضب بعد الخطاب الثالث والأخير: مين الحمار اللي كتب الخطاب دة؟
ومن أوجه التشابه أن موسى كان مدركا لأنه مستضعف في قوم مستضعفين وكانت بلسانه عقدة وقيل إنها تأتأة، فطلب من ربه أن يرسل معه أخوه هارون ليفقهوا قوله.. وقيادة الثورة المصرية كانت من شباب مستضعف ومستخف به لدرجة لاتصدق حتى أن نائب الرئيس عمر سليمان قال إنه سوف ينهي الثورة بأن يوجه آباءهم ليطلبوا منهم العودة لمنازلهم! ومن غرائب الصدف أن الشخص الذي ثارحديث كثير حول أنه مرشح الشباب للرئاسة –البرادعي- كذلك يحتاج (لهارون أخي)، ففي لسانه عقدة، مع صفاء الرؤية! ولعل هارونا هنا كان شبكة تخيلية أثيرية ضخمة (أو فيس بوك منيّل على حد تعبير مبارك في إحدى النكت).
في الحقيقة فإن التأملات في الثورة المصرية كثيرة ومثيرة، ولكننا نرجئها إذ لن نغادر محطتها الآن.. ولكنا نريد أن نختم بالحديث حول مسألة محورية وهي أن الثورة المصرية ليست كما كتب البعض تغييرا شكليا وإن كان بعض الحرس القديم سوف يسعى لجعلها كذلك.
تواجه الثورة المصرية تحديات ضخمة تتركز في ثلاثة عناوين عريضة:
- كيف تتم تصفية كاملة للنظام المفسد العميل برغم تمكنه من مقدرات البلد الاقتصادية عبر زواج المحارم بين السلطة والمال وإمبراطورية رجال الأعمال الذين أمسكوا بخناق مصروتوزعوا أراضيها وخيراتها؟
- كيف الوصول لمعادلة تأصيل محدث بحيث تكون أسماء مطروحة كالبرادعي وأيمن نور محتاجة لجرعات تأصيلية، وتكون أسماء أخوانية كثيرة أمثال محمد بديع المرشد العام محتاجة لجرعات تحديثية.. (ذكرت صحيفة الوول استريت جورنال الأمريكية في عدد الأربعاء 16/12 إن الظروف تهيئ الجماعة للعب دورأكبر ولكن الجماعة فيها اختلافات بين تقليديين ومرنين ومتشددين وحداثيين شباب شاركوا في الثورة وكان أحدهم معاذ عبد الكريم من بين بضع شباب خططوا لها).. هناك أسماء كثيرة خطت في الآونة الأخيرة خطا يشبه مصرالتي نعرفها وشعبها الذي كان يصلي في ميدان التحرير بمئات الآلاف شبابا يقفون بجانب والشابات بجانب آخر ومنهن من تلبس الخمار على البنطلون.. فهو شباب متدين وعصري، حتى الذقون الشعثة المنفرة التي كانت كاميرا الجزيرة تركز عليها لم تلحق بالركب إلا بعد أن أثبتت الثورة جدواها. أسماء مثل المستشار طارق البشري الذي قلد الآن لجنة الدستور، ومثل محمد سليم العوا وغيرهما هي الخلطة المطلوبة ولكنها خلطة وجدت أكثر بين المفكرين ولم تتقلد قيادة العمل الحركي بعد.. ذلك العمل الذي في رأسه إما علمانيون أقحاح أو إسلاميون مطبولون في شعارات التشدد، وكلاهما لا يعبر عن روح ثورة مصر وشعب مصر.
- كيف تدير مصر علاقاتها الدولية والإقليمية بعيدا عن التبعية الذليلة، واستعادة لدورها الرائد فيكون رائدا الآن في التحرر من ربقة الاستعمار الداخلي الذي لا زال يعشعش في دول المنطقة.. وأن تقود ذلك الدور بشكل لا يجر عليها المؤامرات التي سوف يشرع فيها الجيران الغارقون في عهود الظلام والذين لن يعجبهم أن رات مصر النور وسوف يحاولون جرها من جديد لدوائر العشي والسواد والرماد؟
اللهم احفظ مصر واجعلها بلدا مباركا بأهلها الذين كنا نعلم أنهم طيبون فأعلمتنا أنهم عظيمون وأن شبابها سيد وحصور.. فأمنها يا إلهي بذلك الشباب الذي لو قلنا نحصي مزاياه حتى يئن من تحت أيدينا هذا الكيبورد ما أحصيناه!
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]