مصطفي سعيد ، وقصة العمل الأهلي/ وجه آخر
لم نكُن لنتجرأ على الدخولبلا استئذان ، في سيرة بطل الرواية " مصطفى سعيد "، لولا أننا نكاد نجزم أن الرواية بالذات ، هي لازمة من لوازم حياة المُتعلمين في السودان. معظمهم قرأها . بها تدرّبت عند مُطالعتها عيونهم على قراءة القص . نمتْ حواسّهم الأخرى على حساب قراءة تلك الأيقونة الروائية المتضخمة مع الزمن .
كثير منا ربما يسأل : " أنحن في حاجة لفض سيرة بطلٍ، في رواية كُتبت في مطلع ستينات القرن الماضي " ؟.
نعم نحن الآن ومنذ ماضينا البعيد ،نبحث عن أساس لعمل أهلي مُشترك ، يذرع بذرة اشتراكية في مجتمع ما بعد الاستعمار ، أسهمت التنظيمات الحزبية بسهم متواضع في مسألة النُهوض والتطور . تلك البذرة التي تهتم بالعمل الجماعي الأهلي و الإنساني ، التي أراد دفنها من يُريد مع انهيار الاتحاد السوفيتي السابق ، فكادت أن تكون من قضايا الماضي ! .و ليس الأمر كذلك كما أعتقد ، بل وليس وحده النظام الرأسمالي هو مُبتدِع محاولة التقليل من جفوَّته وغلظته، بتوفير حرية ممارسة منظمات العمل الأهلي لنشاطها ، رغم أنها تضخمت أكبر مما كان يتصور الرأسمال العالمي وديمقراطيته .
(1)
قال الراوي في صفحتي (105 – 106 ) من رواية "موسم الهجرة إلى الشمال " للكاتب الروائي " الطيب صالح " :
وسألت "محجوب" عن "مصطفى سعيد "، فقال :
{ رحمه الله . كان يحترمني وكنت أحترمه . لم تكُن الصلة بيننا وثيقة أول الأمر . ولكن عملنا معاً في لجنة المشروع قرّب بيننا . موته كان خسارة لا تُعوض . هل تعلم ، لقد ساعدنا مساعدة قيّمة في تنظيم المشروع . كان يتولى الحسابات . خبرته في التجارة افادتنا كثيراً. وهو الذي أشار علينا باستغلال أرباح المشروع في إقامة طاحونة الدقيق . لقد وفّرت علينا أتعابَ كثيرة ، وأصبح الناس اليوم يجيئونها من أطراف البلد . وهو الذي أشار علينا أيضاً بفتح دكان تعاوني . الأسعار عندنا الآن لا تزيد عن الأسعار في الخرطوم . زمان كما تعلم ، كانت البضائع تأتي مرة أو مرتين في الشهر بالباخرة . كان التُجّار يخزنونها حتى تنقطع كلية من السوق ، ثم يبيعونها بأضعاف مُضاعفة . المشروع يملك اليوم عشرة لواري، تجلب لنا البضائع كل يوم والآخر، مباشرة من الخرطوم و أم درمان . ورجوّته أكثر من مرة أن يتولى الرئاسة ، ولكنه كان يرفض ويقول إنني أجّدر منه . العُمدة والتُجار كانوا يكرهونه كراهية شديدة ،لأنه فتّح عيون أهل البلد وأفسد عليهم أمرهم . بعد موته قامت شائعات بأنهم دبّروا قتله . مُجرد كلام . لقد مات غرقاً . عشرات الرجال ماتوا غرقاً ذلك العام . كان عقلية واسعة . ذلك هو الرجُل الذي كان يستحق أن يكون وزيراً في الحكومة لو كان يوجد عدل في الدُنيا }
(2)
يبدو أن لـ " مصطفى سعيد " أكثر من شخصية ، بل أكثر من مَلكة وموهبة . وكما كان يعيش تجاربه الأكاديمية في الاقتصاد ، أو حين انتمى للحركة الفابية التي يمثلها " برنارد شو" و "وليم كلارك" و "سيدني اوليفييه" و"غراهم ولاس" و"آني بيزانت" و "هيوبرت للاند " وغيرهم .كان كتابه عن اقتصاد الاستعمار جزء من توثيق رؤاه العامة في انكلترا . وجاء سلوكه الشخصي مُحاولة للاقتصاص من الاستعمار لنهبه ثروات موطنه ، كما كان يظُن . وممثلة تلك ،في الفتوحات عند الفراش ، حتى خضَّبت سيرته بالدماء . واستغلها كثير من الدارسين والمُنقبين في سيرة بطل الرواية " مصطفى سعيد " . وحولوه لآلة هدم جنسي ، استغل العلاقات الإنسانية ، وضمَّنها أغراضه في الانتقام .
حجبت سيرته تلك في بريطانيا ، الوجه المُشرق الآخر ، عندما عاد لقرية في الشماليّة ليحيا فيها بقية عُمره . وكان عندها غريباً عن أهلها . وتلك مُحاولة منه للانتماء لبيئة في موطنه المُتسع ، لعله يُمكن أن يُشارك حياة الناس بإيجابية . لم ينتبه كثيرون لشخصيته الأخرى ، أي الداعية الناهضة بالعمل الأهلي بِصَمت .و حين وجد نفسه مُتفاعلا مع شذرات العمل الاشتراكي في المجتمع الجديد ، تلوّنت ابداعاته في القرية ، ووضح ذلك على لسان شخصية أُخرى متوطّنة في مجتمع القرية وهو " محجوب " حين تحدث عنه بعد رحيله بصدق.
(3)
يجتمع قلّة من الناس ، يهمهم العمل الأهلي العام ، رغم مُستجدات الحياة وانهيارات الأحلام . وصفحة التاريخ السوداني مليئة بالتجارب ، و"النفير " هو خير وسيلة للتضامن الاجتماعي الاقتصادي الأهلي في كل أطراف السودان ، ومدائنه أيضاً . وعلى سبيل المثال ، فقد تنادى كثيرون لنُصرة التعليم الأهلي ، منذ تاريخ قصة " مدرسة المُبشر " المشهورة في أم درمان ، عند بداية ثلاثينيات القرن الماضي .وقد فرضت المدرسة التبشيرية في أم درمان ، على المواطنين السودانيين جميعاً أن يدرُس أبناؤهم فيها المنهاج الديني المسيحي ، إن كانوا مسيحيين أو مُسلمين . وفرضت المدرسة التبشيرية أيضاً موافقة رب الأسرة المُسلمة كتابةً على هذا الشرط عند قبول التلاميذ للدراسة .
ومناهضة أهلية لمنهاج المدرسة التبشيرية ، تداعى المُتعلمون والتُجار و المَيسورون لتقديم البديل غير الحكومي . وكانت تلك بداية العمل الخيري الأهلي في قيامه بتأسيس سلسلة من " المدارس الأهلية "، و دعم "مدارس الأحفاد" ، أُقيمت " الأسواق الخيرية " في العُطلات من أيام الجُمع، لإقامة يوم للأسواق الخيرية ، مفتوح في الحدائق والمتنزهات العامة, لمُساندة توفير المال للمدارس الأهلية .
للرائد الصحافي " عرفات محمد عبد الله " دورٌ مُميَّز ، في تقديم مسرحيات من التُراث ، خلال تلك "الأسواق الخيرية " .ويكون ريعها لصالح "تشييد المدراس الأهلية" . وهو دور غير معروف عن "عرفات " الذي شارك في ثورة ( 1924 ) ، وهرب لمصر بعدها ، ثم عمِل في قناة السويس ، ثم هاجر إلى المملكة السعودية ، قبل أن يعود للسودان ويعمل في الصحافة ، وبعدها أسس "مجلة الفجر " ، قبل أن يرحل في العام 1937 . وهذه الشخصية لم تجد التكريم اللازم من أجيالنا السابقة واللاحقة . ونذكِّر هنا أن علم السودان آنذاك قد لفَّ نعشه قبل أن يوارى الثرى .
لاحقاً في التاريخ مدارس أهلية متنوعة : مدرسة سوميت و مدرسة علي عبد اللطيف بحي الضباط والموردة ، مدرسة أبوعنجة في حي أبوكدوك و مدرسة بيت الأمانة في حي العباسية ومدرسة المهدي في حي الثورة بأم درمان...الخ .وهي نماذج لمُبادرات أهلية في نهضة التعليم في أم درمان. وغيرها كذلك في مدائن وأرياف السودان ، وأشهرها مدارس رفاعة .
(4)
نعود للأدبيات التي تُمجّد العمل الأهلي في ثلاثينات القرن الماضي . ونذكر بكثير من الامتنان ، قصيدة الشاعر والسفير لاحقاً " يوسف مصطفى التّني " ، وقد كتبها في تداعيات قصة " مدرسة المُبشر " التي بدأنا سيرتها سابقاً ، وكلها تعمل كرافعة وجدانية من أجل العمل الأهلي في التعليم ،وهي من تراث أغنيات الثلاثينات والأربعينات في العاصمة السودانية ، و نورد بعض أبيات من القصيدة :
بديني بعتّز وافخّر وابشِّر ... ما بهاب الموت المكشِّر
ما بخش مدرسة المبشِّر ... عندي معهد وطني العزيز
عندي وطني بقضيلي حاجة ... كيف اسيبهُ واروح لي خواجة
يغني وطنه ويحيجني حاجة ... في هواك يا وطني العزيز
نحن للقومية النبيلة ... ما بندور عصبية القبيلة
تربي فينا ضغائن وبيلة ... تزيد مصايب الوطن العزيز
(5)
في السنوات الأولى بعد انقلاب (25) مايو . تبنّت الدولة " الجمعيات التعاونية " وكانت تتبع وزارة التجارة ، وهي توفر السلع التموينية ، بهامش ربحي ضئيل . كانت تجربة ناجحة بكل المقاييس ، ثم تراجعت الدولة عنها بعد ذلك ، نتيجة الفشل في تنظيمها وإدارتها ، وغياب الرؤيا ، مطلع السبعينات .
تاريخ " منظمات المجتمع المدني في السودان"، نما وتطور عبر السنوات . مثلاً : تأسس "مركز الخادم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية " في يوليو 2007م و تم إغلاقه و مصادرة أصوله في 31 ديسمبر 2012 بعد صدور قرار من مفوضية العون الإنساني الحكومية ، بحجة الاستفادة من تمويل أجنبي و قد لقي هذا القرار انتقادات واسعة. و اغلقت الحكومة السودانية كذلك عام 2012 "مركز الدراسات السودانية"، التابع للمفكر السوداني حيدر إبراهيم، بتهمة استلام أموال من جهات أجنبية لإسقاط النظام !
تراجع دور منظمات المجتمع المدني ولا سيما الثقافي . ونهضت مكانها أكثر من ألفي منظمة تتبع للدولة الحاكمة في السودان ،و بمسميات مختلفة .
(6)
من مرجعية ويكبيديا " :
يضم المجتمع المدني مجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجودٌ في الحياة العامة .وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية.
و من ثم يشير مصطلح منظمات المجتمع المدني إلى جمعيات ينشئها أشخاص تعمل لنصرة قضية مشتركة. وهي تشمل المنظمات غير الحكومية، والنقابات العمالية، وجماعات السكان الأصليين، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات المهنية، ومؤسسات العمل الخيري. أما الميّزة المشتركة التي تجمع بين منظمات المجتمع المدني كافة، على شدة تنوعها، تتمثل باستقلالها عن الحكومة والقطاع الخاص أقله من حيث المبدأ. ولعل هذا الطابع الاستقلالي هو ما يسمح لهذه المنظمات بأن تعمل على الأرض وتضطلع بدور هام في أي نظام ديمقراطي. والسودان ليس بنظام ديمقراطي .
(7)
ها هي آلة التفكير الناهض و الفعّال ، الذي قاد الروائي " الطيب صالح " ، أن يُميّز بطل روايته " موسم الهجرة إلى الشمال " بشخوص ، رغم كل شيء ، مملوءة بحُب العمل الخيري الأهلي ، والذي تم تطبيقه في الحُلم الروائي ، عند قرية قرب شاطئ النيل الشمالي.
يبدو أن للبطل في الرواية " مصطفى سعيد " أكثر من شخصية ، تذوب في بُحيرة الحياة ، وتعمل ناهضة بالقرية التي تخيّرها لبقية حياته ، ثم ترحل في تراجيدية رهيبة، لها آثارها الارتدادية عند ختام الرواية .
عبدالله الشقليني
29 أغسطس 2017
alshiglini@gmail.com