معاناة الحجيج بين المشقة والرهق: (خواطر حاج عام 1439ه): الجزء الثالث (3/3)

 


 

 

 

 

إن غياب البنية التحتية في جميع المناسك، ما عدا رمي الجمرات الذي تحسن بصورة مذهلة من أخر مره حججت فيها في عام 1995، يخلق إشكالية مؤسسية والأخيرة تخلق إشكالية سلوكية كما سنبين لاحقاً. سأقدم مقترحاتي بشأن منى وعرفة، لكنني أكرر فأقول أن المشكلة مشكلة إدارية لن تنتهي بتشييد مباني، إنما بغرس معاني وتوفير سبل إرشاد معنوي تجعل الحجاج علي صعيد واحد في مصاف التوحيد. تتكرر عبارة "حج يا حاج" لدرء فتنة وأحياناً للتعبير عن عجز المسلم في ايجاد قنوات يمرر شكواه من خلالها بشأن خطأ عام، فيلجأ الي التذمر الذي قد لا تكون دوافعه شخصية، إنما جماعية، أو حتي دعوية. 

 

مثلاً، لقد انقطعت المياه بعد ساعتين او ثلاثة من وصول الحجيج إلي منى، هذا المعسكر الروحي الضخم الذي لم يزود بعد بمرحاض حديث أو مياه صرف صحي إنما فيه مياه تجرف الفضلات فقط ولا تعمل على معالجتها. وما زالت مراحيض هذا المرفق تعمل بنظام الإدبخانه أو بيت الكنيف (Pit Latrine) دون أو تزود بمنافذ هوائية (Exhaust Pipe)،لا تتوفر فيه مبولة لمرضي السكر والعجزة الذين لا يتحملون الوقوف لساعات في الصفوف، لا تتوفر فيه مراحيض إفرنجيه للعجزة والمعوقين وأصحاب الحاجات، إلي آخره من المأخذ التي جعلتني اتفكر في شأن الصدمة التي ستصيب "الخواجة" يوم أن يتفكر في اعتناق الدين الذي يحث علي النظافة، ولا يجني أتباعه غير القذارة.


أحسست حال الانقطاع للمياه بأن حرجاً بيئياً سيحدث وكارثة صحيه قد تحل بهذا الجمع، فذهبت الي اقرب مصحة، طلبت التحدث الي الطبيب المسؤول، والححت عليه في الاتصال باللجنة العليا للطوارئ، رد علي ساخراً "لمن تعرف عن هذه اللجنة ابقي كلمني!" عندما لا تكون هناك خطة لتدارك مثل هذه الأمور الطارئة (Contingency Plan)، واستعداد مؤسسي للتنبؤ بالمخاطر (Speculative Measures)، فأعلم أن هنالك إشكالية وانعدام تام لنظم الحوكمة. إن زلزالاً وقع في هايتي عام 2010م بمقدار 7.5 ركتار حصد عدد 250,000 من الارواح، واخر وقع في في شيلي في نفس العام بمقدار 8.8 ركتار مات فيه فقط 1000 شخص. أتدري ما الفرق؟ الفرق الأساسي هو بين نظم الحوكمة في البلدين (Lina Abu Swarieh of the ISDR). إن دورة اتخاذ القرار محكمة وسديدة في شيلي، بينما هي متراخية وتتخللها شروخ في هايتي. سيما أنهم في الأخيرة لم يعملوا علي مراجعة مواصفات البناء، لم تتأهب فرق الإنذار، لم ترصد ميزانيات ولم تعتمد سياسات لمواجهة الخطر، بل انتظروا حتي ساعة وقوعه ولات حين مناص.


إن التدقيق في شأن الحوادث هو أخر ما يرجوه المسؤولون في منطقتنا عموماً، لأنهم لا يريدون أن يشيروا إلي معين أو ان يُحمِّلوا أحد زملائهم (أو أقسامهم) المسئولية. ولذا فأن الرقابة والمتابعة تعهدان الي اقل الناس كفاءة، بل يتم تجاوز هذه المحطة المهمة الي كتابة تقارير مبهمة، مغلوطة، او حتي ملفقة. تتوالي الكوارث علي الحجاج عام بعد عام، فلا نسمع عن تقرير نشر وأن جهة مسؤولة اوقفت او غرمت او حكمت بالسجن، ابتداء من حريق منى، مروراً بتدافع الحجاج في رمي الجمرات، انتهاء بالرافعة. طالبت جميع الجاليات بحق ضحاياها في حادثة الرافعة ما عدا السودانيين فقد احتسبوا موتاهم. ومع ذلك فهم يتلقون اسوأ المعاملة ويعهد اليهم بأبخس الادوار وما ذلك إلا لأن ممثليهم لا يحترمونهم ولا يحترمون أنفسهم.


إن بعض الجاليات، الخليجية خاصة، لها مراحيض يتولى نظافتها عمال تحفزهم حملاتهم أو توفرهم الدولة المضيفة، ما عدا الأخرين، فقد خصصت لهم مراحيض هي للاستعمال العام والخاص. حتى هؤلاء يضطرون لعمل "ترتيبات خاصة" مع مسؤولي الحج في الدولة المضيفة قبل فترة، وإذا لم يفعلوا فتأكد أن حالهم سيكون مثل حال غيرهم. ـ وإذا لم يفعلوا لم يكن هناك إهمال بل أيضاً كان هناك احتقار لكل من هو دون فئة ال VIP ولم تنطبق عليه خصائص الشلة إياها. ولك أن تتخيل منظر طوابير النساء والرجال وهي تمتد من داخل معسكرهم إلي الشارع العام. أود أن أقول ان هناك مشكلة تتعلق بمعسكر منى التي لم تعمل جهة علي النظر في أمرها وتحديث مرافقها وهناك مشكلة تتعلق بشأن الجاليات المهملة داخل منى. الغريب أن الحاج الهندي يتلقى معاملة أفضل رغم أنه يدفع ثلث ما يدفعه الحاج الليبي، الشادي أو السوداني من قيمة مالية. وما ذلك إلا أن حكومته "العلمانية" تركز علي تجويد الحج الحكومي، وتفكر في راحة مواطنيها أكثر مما تفكر في سرقة مدخراتهم من العملة الصعبة.


لقد أذهلني الغياب التام لأي مسؤول إداري او فني، وانعدام إي لجان رقابية، في منشط (روحي) يتجاوز عدد رواده الخمسة مليون حاج، وذلك في طيلة ايام النسك. يوجد هناك بعض الكشّافيين، والذين كانوا في قمة الأريحية والمهنية والاخلاص، وبعض المجندين الذين عهد اليهم بتحويل المحابس من موقع إلي آخر، ولم تترك لهم حرية اتخاذ القرار في أكثر الأمور بداهة. مثلاً، بعد أن رمينا الجمرة الأولي، اضطررنا وانا رجل ستيني– عاني من الام الغضروف واجريت له عمليتان – اثناء توجهنا للرمي للترجل قاطعين مسافة 19كيلو متراً فلم نستطيع الوصول الي معسكرنا الاَّ بعد ثلاثة ساعات لم نخمد بعدها للراحة، لأن بعد الحجاج "الطيبين" استضافوا أقاربهم وأصحابهم، فاستحيينا من إيقاظهم.


هناك تداخل مريع بين السبهلليه كإشكال سلوكي لدي الحجاج، والعشوائية والفجائية كإشكال مؤسسي لمنظمي الحملة، والغياب التام للبنية التحتية المناسبة والتي من المفترض أن توفرها الدولة المضيفة والتي تجني 50 مليون ريال من منشأ لا تتجاوز أيامه 5 أيام (Reuters; September 4, 2017). وقد تتراكم كل هذه الاشكالات (سلوكية ومؤسسية وبنيوية)، فتعيق إمكانية التفاعل الحيوي بين الجهات الثلاث: الحاج، مسؤول الحملة والدولة المضيفة. إن الإشكال البنيوي ينتج عنه إشكال مؤسسي، والأخير يتسبب في خلق إشكالات سلوكية.


لابد أن تُوفر بنيات جديدة لمعسكري مني وعرفة بحيث تستوعب الأعداء المهولة والمتزايدة للمسلمين، تسهل إمكانية تفاعلهم الروحي والفكري، بحيث لا يستحيل "القيام بعرفة" الي "النيام بعرفة"، ولا تصبح ساحة منى خانة للضنك ومدعاة للسأم، ولا يكون الانتقال منها محمدة يدّخرها الحاج وصدقة يبذلها للنجاة من كارثة كادت تكون ماحقة. لقد تنقلت في منى، وايقنت بعد أن تفحصت خاناتها، نظرت في سعة التوصيلات الكهربائية وطبيعة التكييف، من أن كارثة وحريق أخر سيحدث هذا العام القادم إن لم يحدث في الأعوام القادمة. وذلك لمجرد معاينتي الأولية واستخدامي لحس هندسي خامل ومهنة لم ازوالها منذ عقود ولا تستهويني إلا إذا كان الأمر مستفحلاً.


ما كان المرء ليلوم بعض الحجاج الذين ظلوا طيلة فتره مكوثهم يتلهّون بالموبايلات، يتنقلون بين الثكنات، ويتبارون في الاحاجي واختراع النكبات. لأن المناخ الحسي والمادي صراحة يثير الضجر والملل ولا يعين علي التفكر واستنظار العبر. هنالك جاليات تعاني من ظروف مماثلة، لكنها تقاوم السأم بالتهليل و التكبير وتطلب المفازة في التلبية ...... لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك. انتظم المسلمون في إداء شعيرة التلبية وترداد هذا النشيد الكوني العظيم الذي تردده جميع الخلائق ويشهده الأولياء والمقربون يمثلهم في عالم الشهادة الخضر وذا الكفل اللذان يلتقيان عند المشعر الحرام كل عام حسب أراء بعض المتصوفة (وقد أورد المريدون هذا الكلام عن الشيخ عبدالرحيم البرعي رضي الله عنه)؛ بالرغم عن الصعاب، ظلوا يتواصون بالحق، وينشدون الإبقاء علي هذه الشعائر، علَّ الاجيال القادمة تعمل علي استعادة القيم وتنشط في استرجاع الموروث بعد أن اندثر وكادت تغبره أتربة الحيف وتخفي آثاره غمائم الضلال.


لا أعتقد أننا نحتاج إلي لجنة دولية لإدارة النسك فهذا قد يعتبر تدخل في الحق السيادي للدولة المضيقة (علماً أن 80% من ميزانية الحج كانت تأتي من الخارج وذلك قبل اكتشاف البترول، بالتحديد من تركيا ومصر والسودان)، لكنني أجزم بأنه بات من الضروري الاستعانة بكفاءات ذات خبرة عالمية فتنظيم فاعلية ذات انشطة متعددة من أصعب المهام التي تتطلب وجود طاقم مقتدر لديه تفويض واضح من الجهات السيادية العليا بإنجاز العمل بأعلى مستويات الجودة، وأفضل مراتب السلامة. هذه اللجان تختلف في طبيعتها عن لجان الضيافة التي تسهر علي راحة وسلامة كبار الزوار . لان الاخيرين محدودي العدد، منسجمي الهوي والهوية، وغالباً ما يكون لديهم مستوي عالي من التعليم. أما الاخرين فقد تتفاوت مستويات تحضرهم، تختلف اهتماماتهم وغالباً ما لا تكون أهوائهم منسجمة. رغماً عن ذلك، فانه يجب أن لا يكون ذلك مدعاة لإهمالهم، والا تتخذ كثرتهم مبرراً للإخفاقات الإدارية التي ظلت تلاحق موسم الحج لأعوام.


فهنالك دولاً لا تكاد تصدق بأنها حظيت بدورة واحدة، لتنظيم كأس العالم، مثل جنوب أفريقيا، التي لم تدخر جهداً لإنجاحه، بل أبدعت في إخراجه بمستوي عالي أبهر اعظم الدول الصناعية. ما ظنك بموسم ظل يتكرر وسيظل حتي يرث الله الارض ومن عليها؟ وفي دولة تمتلك من القدرات المالية ما لا حد له ومن الموجهات من لا يغني عن الدربة في تسيير مثل هذه الانشطة؟ بل الاعظم من ذلك هو الرصيد البشري والمورد الإنسي المتمثل في سلوك المسلمين وخشيتهم من الله ورغبتهم في رضوانه، لا سيما في مثل هذه البقاع والأراضي الطاهرة التي خصها الله عز وجل بالبركة.


لا يمكن أن نفشل في تنظيم منسك تغشاه الرهبة وتتنزل عليه السكينة فيما تنجح شركات متواضعة في إدارة مهرجانات للبيرة في المانيا يجتمع فيه قرابة 4 مليون كل عام، فلا يختنق أحدهم من انعدام الاكسجين، ولا يضل سَكَّاري واحد طريقه الي منزلته فكل الطرقات مضاءة ومراقبة بالكاميرات، ولا تنتظر الجهات المعنية إخطار، بل تتحرك متما رأت أحدهم يترنح. ما بالك بالحجيج الذين يضل بعضهم الطريق إلي منزلته فلا يجد من يرشده؟ الأدهى، أن منظمو الحملة قد لا يفتقدوهم ولا يدرون عن غيابهم إلا بعد رجوعهم.


أبلغني أحد زملائي المهندسين (جامس كوشني)، امريكي من أصل هندي ، المسؤول الاول عن نظم السلامة في (ديزني لاند/فلوريدا)، بأنهم طبقوا نظام البطاقة الالكترونية (سوار بلاستيكي يربط في اليد ويفعل بالبصمة) بكفاءة فائقة. حتي أن المرء يسعه الدخول والخروج من المعسكر بواسطته، طلب الأكل، ركوب البص، التعرف علي مواقع أفراد الاسرة الاخرين، واستخدام الألعاب والاستفادة من كل المنافع مثل ركوب القطار مستخدماً السوار . هذا النوع من الكفاءة الإدارية يتطلب توفر بنية تحتيه، كادر مهني مؤهل، والاهم من هذا وذاك اهتمام الجهة المنظمة توفير الخدمات لكل المستفيدين دونما تمييز إلاَّ ما يقتضيه ظرف صحي أو إعاقة بدنية. بالرغم من ضخامة المبني وفاعلية التشغيل لرمي الجمرات إلاَّ أن هناك تقصير اساسي، يتمثل في عدم وجود مصاعد تستخدم لتنقل اصحاب العجلات (Wheel Chair). كما لم تخصص لهم مسارات تنأى بهم عن الزحام وتجنبهم الاصطدام بالحجيج.


لعلنا نتخذ العبرة ممّا ذكرت آنفاً بشأن الشاب الخليجي الذي اراد دفع عجلة والده المقعد في السلم الكهربائي، لولا ان الجندي لحقه وأعانه علي إنزال والده بسلامة. لا يسمح في الولايات المتحدة لأصحاب العجلات باستخدام السلم الكهربائي، فيما تتوفر لهم الاصعدة من كل جانب. يعاني هؤلاء المعاقين أو محدودي الحركة حتي في التنقل داخل الحرمين وبين المنازل في مختلف اطوار النسك لأنه لا توجد مباني، خاصة في مني وعرفة، تراعي المواصفات الحديثة للمباني المدنية وهذه امور وملاحظات يمكن تداركها متما قررت الدولة المضيفة تصميم مباني تؤدي وظيفة الاسكان، الأمِن والمريح، وتحافظ علي هيئة المعسكر الروحي. هنالك خيارات عديدة، منها استيراد حاويات مجهزة، بيوت متحركة أو بناء هياكل حديدية تصل سعتها الي اربع طوابق تجعل من السهل استيعاب الكل بكرامة وافساح المجال لتجهيز صالات للعبادة والذكر، سيما تسهيل التفاكر والتواصل بين المسلمين.


هنالك جماعات دينية كثيرة برعت عبر التاريخ في تنظيم أنشطة روحية هادفة، من أخلصها وأوفاها "جماعة التبليغ"، التي ابتدعت "سنة الخروج" (او أحيتها)، واجتهدت في تنظيمها بأسلوب حفظا للمنشط روحه. يخرجون فتية، كهول وشباب بنية صادقه، يتقاسمون الخدمة فيما بينهم فلا ينظرون الي خلفية من تعهد اليه وظيفة، إنما تصير العُهدة الي من ينشد الاخلاص فيها: قد توكل مهمة "نظافة الحمامات" الي جراح عظيم لا يقل دخله المالي من 1.5 مليون دولار في السنة، وقد تسند مهمة نظافة المسجد إلي سائق تاكسي، والطبخ إلي استاذ جامعي، والموعظة الي فَرَاش، الي آخره من الوظائف التي يتوخى التدرج بمؤديها سلم التربية والترقي به في مدارج السالكين.


لا ادعو إلي استنساخ هذه التجربة، رغم إعجابي بها، لكنني أقول بأنها أحدي التجارب التي تبين إمكانية التوفيق بين تلبيه الحاجات الفيزيولوجية والايفاء بموجهات الذات الربانية. لا يكتفي "أمراء جماعة التبليغ" بإقامة الندوات وبذل المواعظ، إنما يركزون علي انعكاس كل ذلك في سلوكهم. فلا تمر بجماعة منهم في ساعة من ليل أو نهار إلاَّ وفيهم رجل ذاكر او امرأة قائمة. كما لا يمكن أن يمكثوا في اي مركز اسلامي بعرض الولايات المتحدة وطولها، ولو شهوراً، فيُخلِّفوا وراءهم أوساخ او فوضي. ولذا فالكل ظل مرحباً دوماً بهم ومستبشراً بقدومهم.


لا يمكن أن نترك مسؤولية تأهيل الحجيج علي عاتق الدولة المضيفة، إنما يجب أن تعقد للحجيج ندوات ذات مغزي تربوي ولا تقتصر فقط علي الجوانب الاجرائية. تشمل مهمة الدولة المضيفة بل ويجب ان تتضمن تصميم نظم ووضع اطر وسياسات عادلة (ليس فقط صارمة)، يكون من الصعب تخطيها. قد لا يحس الحاج حاجة لتجاوزها لأن الامتثال بها أيسر ويجلب مصلحة افضل. وهذه هي صفه السياسات الرصينة. لذلك، فقد يكون تحقق المصلحة في الامتثال بها وليس تجاوزها. وهذه هي سمة السياسات المدروسة، أنها تدفع الشخص دفعاً وتستحثه للامتثال بها. أما إذا كانت الرسوم التي تفرضها الدولة المضيفة (او وزارة الأوقاف ببعض الدول الإسلامية) اعتباطية والسياسات غير منطقية، فإن الحاج سيكون نهباً للمطوفين وسيسعي الكل للتكسب من وراء الحجيج واستغلال حاجتهم او لهفتهم للرجوع الي بلادهم في اقرب فرصة مستنفدين كل الحيل ومستغلين كل الثغرات الإدارية التي قد لا تكون مقصودة. هذا من الناحية القانونية، أما من الناحية التنظيمية الميدانية، فإن توفير مواصلات مجانية في شكل باصات سريعة (Shuttles)، للحجاج تنقلهم بعد فراغهم من رمي الجمرات إلي مكة إن ارادوا أداء الطواف، او تُرْجعَهم إلي مني إن ارادوا الرجوع الي ثكناتهم، فحتماً سَيُفعِّل وييسر مهمة توجيه الحجاج الذين قد يسعي بعضهم للرجوع من ذات الطريق الذي اتوا منهم مما قد يسبب في اصطداماً بالأفواج القادمة من الاتجاه المغاير/المعاكس.


يقطع الحاج مسافات من الحرم ماراً بنفق الملك فهد فلا يجد عربة تُقِله أو تعيده إلى معسكره، بل يمضي مترجلاً فيتأذى من رائحة مياه الصرف التي تأذي منها الكثيرون خاصة القابعون على قارعة الطريق، فلم يجدوا مفراً من التعايش معها، لأنها تفوح من كل ناحية من نواحي المناسك. المؤسف أن هنالك أعداداً هائلة من المسلمين تقطن الشوارع ولا تجد منافعاً تستخدمها، مما يضطرها إلي استئذان بعض موظفي الحملات المعتمدة. وإذ يعلم أكثرنا الفارق الحضاري بيننا وبين البلدان الغربية، التي تعمل علي تهيئة المرافق العامة، سيما أماكن التنزه، فإنا نوقن بأن ذلك لا يمنع الدولة المضيفة من تهيئة محطات تخصص لأصحاب البيوت المتحركة، والذين لا يلزمهم غير التوقف في الأماكن المتخصصة لتمرير مياه الصرف في محطات خصصت لذاك الغرض. هذا الامر يمكن أن يتم إدراجه في قائمة الاولويات للحجيج. خاصة أن مزدلفة لم يعد فيها مكاناً للبيت، أو حتي فسحة لأداء الصلوات.


يجازف الحجاج بأنفسهم عندما يصلون علي قارعة الطريق، ينامون هم وأولادهم وأزواجهم في الرصيف، حتي إذا انتصف الليل رجعوا الي منى، بعد أن يكونوا قد اعدوا العدة التي تشمل عد الحصي في مزدلفة وعقدوا العزم لمواجهة الشيطان معنوياً ومادياً. لا عذر إذن لمن استهان بهذه الشعوب العظيمة ولا بصيرة لمن لم يتعرف على كبريائهم. تُمنع الباصات من دخول مزدلفة بعد وقت معين ومن نقطة محددة فيضطر الحجيج إلي الترجل مسافة 7 كيلو من مزدلفة الي منى، ومن عاد عليك بفضل ظهر من أهل المركبات الخاصة، فإنه ربما يطرحك في وجهة غير التي تطلب، وقد يمن عليك بأخذ ولدك ويترك زوجتك لأنها "حُرمة". أما القطار فقد خصص لأجناس بعينها، ولم يفتح بعد للعوام! تخيل أنك بمجرد وصولك مطار أورلاندو/فلوريدا، يقال لك احمل متاعك وترجل أنت وزوجك واولادك لأن القطار اليوم مخصص للأمريكان من اصل ايرلندي وانجليزي، دون الأخرين. قطعاً لا يمكن أن يحدث هذا الأمر في دولة متقدمة. ما بالك بأمة تنشد الريادة وتدعي الاصطفاء؟


كلما انتهت مرحلة وشارفت اخري تأكدت من مرتكزي الأول في التنظير لهذه المقالة والذي مفاده ان مسؤول الحملة يتحمل 10% تلك المتعلقة بالإخفاق السلوكي، وزارة الاوقاف تتحمل 25% تلك المتعلقة بالإخفاق السلوكي والمؤسسي،60% تتحملها الدولة المضيفة، تلك المتعلقة بالإخفاقات السلوكية والمؤسسية والبنيوية. ففي عرفة مثلاً، قرر مسؤول الحملة التكفل بنقل كل المتأخرين كما أسلفنا (يعني الولد جدع)، فكان أن زادت حمولة البص بصورة تسببت في عطله لساعات، حتي أن كبار السن كاد أن يدركهم الفجر في الباص فيفوت عليهم هذا الركن العظيم. لو أن الدولة المضيفة طبقت خطة علمية للمواصلات لتم الاستغناء عن الباصات ولأنعدم العناء منذ زمن بعيد، الذي يسببه الازدحام حال الخروج من عرفة إلي مزدلفة؛ لو أنها– أي الدولة المضيفة – استحدثت خطة طوارئ لاستطاعت توفير ونشات تزيح العربات المعطلة من الطرقات، وأخريات توفر خدمات بنشر وخدمات أولية سريعة فتخفف الضغط على سائقي الحافلات(وهذا إشكال بنيوي، بمعنى إعدام البنية هو الذي تسبب في المشكلة)؛لو أن سفراء الدولة المضيفة هيئوا دورات تدريبية واعتمدوا كورسات تأهليه بالتنسيق مع وزارة الاوقاف في الدولة المعنية، عوض عن انشغالهم بالبزنس أو تنزههم في حفلات الاستقبال (receptions)، لم يصعد امثال هؤلاء المطوفين/المطففين وزملائهم من مسؤولي حملات الحجيج، لأنهم ليسوا إداريين إنما جهلاء متنزهين. عدم توفير مثل هذه الخدمات يعتبر في حد ذاته إخفاق مؤسسي نتج عنه إخفاق سلوكي يمكن التعرف عليه بيسر من خلال التتبع للخطاب الذي بعثه مسؤول حملتنا لمجموعتنا عبر الواتسب في اليوم الأخير . النص أدناه كما يلي:
"أحبتي الكرام .. حمدا لله على سلامه الوصول . ونسأل الله تعالى أن يتقبل حجكم... اود ان اقول لكم بان هذه السنه التاسعة لوكالتنا في تنظيم وتفويج حجاج القطاع السياحي ولكن للأمانة هذه السنه رغم التعقيدات والإجراءات في ترتيبات هذا العام من دولة المقر والسودان إلا إنني وجدت نفسى متميز تماما عن باقي الوكالات في الترتيب للسفر والعودة والإقامة وقد حرصت أن اشرف بنفسي رغم الرهق والعناء على حجاج مجموعتي...وانوه الى ان بعض القصور الذى لازم السكن في مكة فرضته علينا التأخير في إصدار التأشيرات وتكليف بعض الزملاء في ذلك حسب ضوابط الهيئة العامة للحج والعمرة بالخرطوم في التشابك والانضمام لأكثر من 127 وكالة في40 منظم فقط .. وقد سعدت بانضمام كوكبه مميزة من الحجاج لمجموعتي لم أجد منهم غير التقدير والاحترام والتعاون والصبر .. كل منكم له في نفسى وقع خاص و أمنيات قلبية بان نبنى علاقة خاصة بكم.. فكنتم معي طيلة 14 يوم اخوه وأخوات كرام .. ولو علمتم بما عاناه كثير من حجاج بعض الوكالات حمتم الله على أن كل شيء او معظمه كان افضل بكثير رغم قناعتي بان الكمال لذي الذى تمنيناه لم يكتمل" ( يونس شلبي، مكة المكرمة،29 اغسطس 2018م). انتهي الاقتباس. هذا الخطاب الملتبس والمختلط والمتشابه لم يشأ أن يتعرض صاحبه بصورة منهجية للإخفاقات إنما أراد تغطيتها بالعبارات. دأبه دأب غيره من المسؤولين العرب والمسؤولين السودانيين. الأدهى، أنه سبنا من حيث أراد تعزيتنا بقولٍ مفاده أن "الأمور كان يمكن أن تكون أسوأ"! ومع ذلك فأنا أعتبره ضحية فالجاني الحقيقي هو تلك الجهة في الإخفاقات المؤسسية والبنيوية والسلوكية دون أن تعترف بذلك أو تسعى لتغيير سلوكها غير الحضاري وغير الإنساني.


ختاماً، إن كثيرين منا مؤمنون بعقيدة الاسلام، وإلا لما تكبدوا المشاق وذهبوا إلى الحج، لكنني واثق من ان ما يحدث او ما حدث في المناسك هذا العام ليس له صلة بحكمة مشروعية الحج. ليس فقط من باب الاعتراض على الجوانب الإجرائية، لكنني أيضاً الحظ غياب الرؤية المفاهيمية التي لها صلة بالبعد الرمزوي للمناسك. نحن وِرْطنا لأننا لم نستطع الفكاك من اعتقاد ابائنا لكنني اتمني الا يحذو ابنائنا حذونا فيتبعوا منهاجاً دون تفكر أو تدبر، لأنهم ان فعلوا نفروا وكفروا وهذا ما اخشاه عليهم فقد زادت نسبة الإلحاد والزندقة مؤخرا لدواعي مفهومة لكنها غير مبررة – عجزنا عن تجديد منظومتنا الفقهية، وأخري غير مفهومة وغير مبررة – فهم الإخفاق على أنه إخفاق فقهي ديني وليس إخفاق سياسي تنموي في المقام الأول والأخير.


لا أظن ان الدين هو سبب تقهقرنا، إنما أعتقد أن التكلس الذي أصاب همتنا والعجز الذي أصبح سمة ملازمة لمنهجيتنا في التعاطي مع كافة شؤون حياتنا هما هو السبب في تدهور أحوالنا. وإذا شئت فأنظر في شأن طفيف، لكنه لفيف (يحيط بالأمر من جميع نواحيه)، وموجز (يختصر كثيراً من العبارة)، ألا وهو شأن الهدي، فالذبائح ذات الأرقام المهولة التي يمكن أن تغني شعوباً يتم التعامل معها بصورة عشوائية لا تتوافق مع ابسط قواعد الاصحاح البيئي ولا تتماشي مع المواصفات العالمية للذبح (راجع شريط الفيديو الدائر هذه الأيام عبر الواتسب عن الذبح في مسلخ المعيصم المركزي أول أيام العيد). النتيجة فقدان الدولة المضيفة 60% من قيمة الهدي من جراء التعامل غير العلمي وغير المهني مع الفضلات، عدم توفر مبردات ذات سعه مناسبة، تؤهل الدولة المضيفة لمعالجة المخلفات وإعادة تصديرها، إن لم يكن بدافع الربح فبدافع الامتثال للتوجيه الرباني الذي مثلت البُدن والأنعام محوراً أساسياً في خطابه الذي تضمنته صورة الحج التي ربطت الهداية كأعظم نعمة بالشكر والشكر بالتسخير والتسخير بالإحسان (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (سورة الحج – الآية 37).


auwaab@gmail.com

 

آراء