معمر القذافي .. عقيداً دولياً وقرصاناً جوياً! (الحلقة الحادية عشر) .. حسن الجزولي

 


 

 


( القصة الكاملة لاختطاف طائرة الزعيمين السودانيين النور وحمدالله عام 1971 بواسطة معمر القذافي وإشرافه)
*حمد الله لأحد الضباط الموالين للنميري:- تعال عشان تشوف حمدالله بموت كيف وتكلم أصحابك!.
* جميع محاكمات الشجرة العسكرية خلت من أي حالة تتعلق بما يسمى “شاهد ملك”!.
* القسم الاعلامي بجهاز الأمن يلفق حواراً بين النميري وبابكر النور!.
* نظام مايو يلجأ للتشكيك في بطولات وثبات شهداء 19 يوليو عندما لم يستطع تسجيل أي حالة إنهيار في أوساطهم!.
كتاب جديد بالعنوان أعلاه، دفع به كاتبه د. حسن الجزولي إلى المطبعة، والكتاب يوثق لأحد أشهر عمليات القرصنة الجوية التي بدأ بها عقيد ليبيا معمر القذافي حياته السياسية في فضاء التدخل والتعدي على السلام الدولي، عندما أمر باختطاف طائرة الخطوط الجوية البريطانية التي كانت تقل كل من المقدم بابكر النور سوار الدهب، والرائد فاروق عثمان حمدالله، عند سفرهما من لندن في طريقهما إلى الخرطوم، كقيادات جديدة للنظام الذي أطاح بحكومة النميري في إنقلاب 19 يوليو عام 1971، ذالك الاختطاف الذي أدى إلى تسليم القذافي كل من بابكر وفاروق إلى النميري العائد إلى السلطة كالمسعور بعد إجهاض الانقلاب، ليبعث بهما إلى دروة الاعدام!،  الميدان تبدأ في تقديم مقتطفات من بعض فصول الكتاب في هذه الحلقات المتتالية، لتعريف الأجيال الجديدة، بتاريخ قديم لـ ” ملك ملوك أفريقيا) الذي يترنح نظامه الآن تحت ضربات الشعب الليبي البطل!.
د. حسن الجزولي


وفيما يخص محاكمة الرائد فاروق حمد الله، فقد حاكمه العميد أحمد عبد الحليم، رغم صداقته لفاروق، وكان قد أبعد من الجيش معه، فى اواسط الستينات فى حادثة حجز وزير الدفاع والقائد العام، فى مدينة جوبا، وأعيد للخدمة فى صبيحة يوم 25 مايو. فخف لإنجاز ما كلف به على عجل، دون إعتذار أو إبداء أي تحفظ  بل “وامعاناً فى الاستفزاز كان يرتدي بيجامه الجيش المصري التي تحمل رتبة العميد”!.
ويشير العقيد حقوقي (م) عبد المنعم أنه، عندما التقى الرائد فاروق حمدالله وبعد أن قرأ عليه حكم الاعدام الصادر بحقه، قال له فاروق” يا عبد المنعم لا وصية خاصة، ولكن يا عبد المنعم اذهب اليهم وقابلهم وقل لهم أنا الذي جمعتهم وأنا الذي صنعت بهم مايو”!. ويواصل العقيد عبد المنعم إفادته ذاكراً بأن فاروقاً وأثناء تقدمه بثبات نحو الدروة، ظل ينادي بصوت عال الضابط محمد إبراهيم قائلاً له:- تعال يا محمد وشوف كيف يموت فاروق حمد الله وأخبر أصحابك!. ويضيف شاهد العيان بأنه لم يشاهد ذاك الضابط قط، إلا في لحظة خاطفة عندما كان “فاروق ينادي عليه وهو يتوارى خلف العربات”!. علماً بأن الضابط محمد إبراهيم  – الذي كانت له مواقف غريبة الأطوار تجاه كل المتهمين في إنقلاب 19 يوليو وشهد عليه الكثيرون بتلك المواقف المعادية – قد شوهد وهو يجهز بمسدسة على الرائد فاروق حمد الله!، وكما يؤكد المصدر بأن “ممارساته ومن هم على شاكلته أحد الأسباب فى اقصاء بابكر وفاروق وهاشم فى 16 نوفمبر، ومن ثم أحد الأسباب أيضاً فى قيام حركة 19 يوليو”!.
وهكذا، وبالوقائع التي شهد عليها الكثيرون، وأكدوها بالكثير من الأدلة، في عدم حيادية جميع تلك المحاكمات، وافتقادها لأبسط ما كان يجب أن توفره، من حقوق لكل المتهمين الذين وقفوا أمامها، من ناحية، وللثبات الذي سجلته كافة  حالات الذين نزلت بحقهم مختلف الأحكام، سواء الاعدام أو السنوات طويلة المدى ، وخلو الافادات من الاشارة لأي حالة تتعلق بما يسمى  شهادة ملك (التي يتحول فيها المتهم أمام المحكمة إلى واشي بزملائه الآخرين، في سبيل تخفيف الحكم عنه، والذي يلزم قانونياً المحاكم بالعمل به كقاعدة قانونية)، بسبب كل ذلك، فقد عمد النظام، إلى محاولات تشويه كل هذه المواقف التي تحسب لهؤلاء النفر من الرجال، بالتلفيق تارة، ولي عنق الحقائق ثانية، ونعتهم بما ليس فيهم أصلاً!. تماماً كما ظلت تفعل مثل ذلك جميع الأنظمة الباطشة، والتي تلجأ لمثل تلك الأفعال في ظل التعتيم والتكتم وسرية المحاكمات، وإقصاء الاعلام والصحافة، وغياب الشفافية وحكم القانون ونزاهته.
فقد لجأ  القسم الاعلامي، لجهاز أمن النظام فيما بعد إلى تلفيق حوار جرى بين النميري والمقدم بابكر، في أعقاب تسليم الليبيين له مع رفيقه فاروق حمدالله بمعسكر الشجرة جنوب الخرطوم، وتنسب في الحوار إجابات لبابكر تتعارض جملة وتفصيلاً مع مواقفه المعلنة منذ واقعة إختطافه مع فاروق بمطار بنينة ببني غازي، وهو ما يشهد عليه كثير من شهود العيان، كمستر ستيوارت كابتن طائرة الخطوط البريطانية، الذي أكد لسعادة سيد احمد الحردلو القنصل الثاني بالسفارة السودانية بلندن” إنهما شجاعان جداً لقد كانا يدردشان معي ومع الركاب حتى آخر لحظة”!. ضف لذلك تلك الافادات التي أدلى بها بعض شهود العيان، الذين كانوا على متن نفس السفرية من لندن إلى الخرطوم، وشهدوا ثبات الرجلين، فعندما كان لابد من مغادرتهما للطائرة في رفقة الضباط الليبيين ” عند ذلك الحد طلب بابكر من الركاب السودانيين، بصوت هادئ ونبرات قاطعة، أن يبلغوا الرائد هاشم العطا ، عند وصولهم الخرطوم، بألا يساوم النظام الليبي مطلقاً، في أمر إطلاق سراحهما، وأنهما على استعداد لمواجهة الموقف إلى حد الموت، كما أوصى، في حالة عودة الطائرة إلى لندن، بإبلاغ نفس الرسالة إلى عابدين إسماعيل سفير السودان ببريطانيا، ثم قاما بوداعنا، وكانت روحهما المعنوية عالية، ونزلا مع الضابط الليبي من الطائرة!”. وأما بالنسبة للراكب عثمان بلول الذي ذكر لسيداحمد الحردلو: حاولت الخروج معهم إلاّ أن فاروق منعني وحمّلني إليك الوصية التالية “قول للحردلو أن يبرقوا هاشم العطا بألاّ يقبلوا أية مساومة بنا، حياتنا فانية والمهم أن تستمر الثورة” وليس آخراً، شهادة العميد حقوقي عبد المنعم، حول صلابة حمدالله التي واجه بها الموت، عندما نادى أحد أعداءه العسكريين، مقترحاً عليه أن يشهد كيف سيموت الرجال، لكي يحدث بقية زملاءه العسكريين!، إن كل تلك الافادات والشهادات، تؤكد المواقف البطولية لهذين القائدين وبقية رفاقهما، في مواجهة مصيرهم، وهو ما يتناقض مع إدعاءات إعلام النميري ومحاولاته المكشوفة – وقد هزته شجاعة أولئك السودانيين في الصميم-  فلجأ إلى مثل هذه الحيلة التي اعتقد أنها يمكن أن تنطلى على التاريخ!، ولم ينتبه إلى أن مجرد مجانبته لتوفير العدالة، وعقده للمحاكمات بعيداً عن الشفافية وتحت أضواء المراقبة العلنية للرأي العام المحلي والاقليمي والدولي، داخل ذلك المعسكر الكئيب ووسط جنود، دججهم بالأسلحة والدعاية المسعورة ضد المتهمين، وهي محاولات رخيصة ظل يلجأ لها إعلام الجهاز الأمني للنميري في كل منعطف، كتلفيقه لصورة فوتوغرافية لجهاز تلفزيون تم تصوير خلفيته لحظة اعتقال التيجاني الطيب بابكر عضو قيادة الحزب عندما ظل مختفياً، ونشر تلك الصورة مع خبر الاعتقال في الصفحات الأولى لصحف الاتحاد الاشتراكي حينها وقد كتب بالبنط العريض تحت الصورة”  جهاز إتصال للحزب الشيوعي  تم ضبته مع المتهم لحظة إعتقاله!”، وبالطبع  لم ينتبه نظام مايو إلى أن كل ذلك قد زاد من الشكوك حول مصداقيته وعدم نزاهته، فبائت محاولات دمغ الضحايا بما ليس فيهم بالفشل والخذلان!.
وفي أمر العجلة، التي تمت بها المحاكمت دون إتاحة الفرصة للمتهمين، لترتيبات تتعلق بالدفاع عن أنفسهم، مما أراق كثيراً من الدماء التي سالت أنهراً، ولم يغل من أيادي السلطة في بطشها سوى منظمات حقوق الانسان الاقليمية والدولية، التي أدانت ما يحدث من مجازر حقيقية، كان تبرير النظام أن ذلك كان لابد أن يحدث (لتهدئة الخواطر)!، فقد عبر عن ذلك أحد مسئولي النظام في حوار صحفي أجري معه، حيث ذكر المقدم بشير مختار المقبول بأنه كان ” لابد أن يحدث رد فعل سريع جداً لتهدئة الناس، وبدأت محاكمات فورية، وتم اعدام عدد من الضباط، بعد محاكمات ميدانية سريعة، وطبعا هدأت الاحوال فعلا، فاعدام بعض الضباط هدأ من ثورة الغضب”!.فضلاً عن أنه برر مثل هكذا تصرف حينما ادعى بأنه ” رأيت بعيني كتيب مكتوب بالرونيو، مجموعة تعليمات وخطة التنفيذ ومن ضمن التوجيهات، أن يتم إعدام كل أطقم كتيبة جعفر ليكون هناك أطقم بديلة لها”!. وهو نفسه الذي أفاد في ذلك الحوار،  بمجموعة من المعلومات غير الصحيحة، من نوع  أن محاكمة عبد الخالق محجوب – سكرتير الحزب الشيوعي السوداني الذي حكم عليه بالاعدام شنقاً ونفذ فيه الحكم بسجن كوبر- قد تمت بواسطة محكمة (مدنية)! علماً بأن هذا الضابط قد تم تعيينة قبل بدء المحاكمات، بمعسكر الشجرة بالخرطوم، رئيساً لوحدة حراسة العميد أحمد محمد الحسن، رئيس فرع القضاء العسكري والذي أشرف على معظم الأحكام العسكرية، في تلك الفترة، فضلاً عن رئاسته بنفسه (للمحمكة العسكرية الايجازية) التي حكمت على عبد الخالق بالاعدام، والتي يشهد  سعادة المقدم بشير مختار بأنها – للتاريخ – كانت مدنية!.
وفي هذا المقام فإن الاجتهادات في تشويه معاني ثبات هؤلاء الرجال كثيرة ومتعددة، وهو مسلك مارسه حتى أولئك الذين، كانت لهم علاقات زمالة ورفقه وصداقة، بشكل أو آخر مع هؤلاء الضحايا، فها هو مثلاً الرائد الراحل زين العابدين محمد أحمد عبد القادر، عضو مجلس قيادة الثورة والمعاصر للمقدم بابكر النور، يجتهد في القدح والمساس بموقف وشجاعة الرجل، في إحدى المراحل، معبراً عن مرارات ظل يلعقها، رغم كل السنوات الطويلة التي فصلت بين الأحداث، ورغم أن النور كان على الأقل زميلاً له و هو الآن قد أُحتسب بين رحاب ربه! حيث أشار الرائد الراحل في مذكراته، أن المقدم بابكر النور، عندما علم باختياره عضواً في مجلس قيادة الثورة، في الخامس والعشرين من مايو 1969، حرص على أن يرتدي زيه العسكري في صبيحة ذلك اليوم،  وذهب الى منزل جاره “العقيد مهندس صلاح الدين إبراهيم أحمد. لماذا يذهب المقدم بابكر النور الى منزل جاره ذلك الصباح بدلاً من أن يهرع الى القيادة العامة؟ التفسير عند زين العابدين هو، لعل بابكر قد تحوط للأمر بإيجاد شاهد على عدم اشتراكه في الانقلاب، فيما لو فشلت الحركة”!.  وهو ما نفاه الكاتب مصطفى عبد العزيز البطل في مقال له بخصوص مذكرات زين العابدين عندما دلل بقرائن الأحوال أن الواقعة لم تكن صحيحة بنفي العقيد صلاح لها عندما سأله عنها الكاتب، الذي أوضح في مقاله المشار إليه، بأن المراد من الرواية المفبركة برمتها هو أن يستدل القارئ إلى أن المقدم بابكر النور ” كان يفتقر إلى الشجاعة الكاملة وروح الإقدام ويرتقي بمعيار سلامته الشخصية فوق كل معيار“!.(مدارج السالكين في مذكرات الرائد زين العابدين،مصطفى عبد العزيز البطل، مقال،ج1،موقع sudanile.com)

وهذا أيضاً باب في النيل من الخصوم السياسيين ومحاولات تشويه مواقفهم والتشكيك في “بطولاتهم” التي أثبتتها الأحداث والوقائع، قبل أن يثبتوها هم!.
hassan elgizuli [elgizuli@hotmail.com]

 

آراء