معنى أن تكون منتصراً..! … بقلم: كمال الدين بلال

 


 

 

 

                                                                                       

kamal.bilal@hotmail.com

وجهت الأسبوع الماضي رسالة بعنوان (معنى أن تكون عصامياً) إلى ابني البكر «منتصر» الذي بلغني في الغربة تراجع مستواه الأكاديمي، فقصصت عليه حكاية صديقي العصامي «حيدر موسى» الذي نجح رغم ظروفه المحبطة وذلك علها تحفزه. سأقص عليك اليوم يا بني قصص شخص أخر أسهم في تشكيل شخصية والدك مما جعله يسميك عليه، هو أبن المناقل البار الذي نحت أسمه بأحرف من نور في وجدان مواطني تلك البقعة الطيبة التي تحلق طموحات سكانها فوق القمم. هو صديقي الدكتور «منتصر محمد الأمين سر الختم» ذلك الشاب الوضيء الصبوح الوجه الذي كان رفيق دربي طوال مراحل حياتي، فقد كان منذ طفولته متدينا يقوم بواجب الرفادة في مسجد الشيخ يوسف ود بقوي (رحمه الله) حيث كان يقوم بكنس المسجد صباح أيام الجمع ويملأ (الأزيار) والأباريق حتى يجد المصلين ما يشربوه ويتوضئوا به، وكان يؤم أقرانه في الصلاة وذلك حتى حدوث واقعة طريفة وهي أن أحد المتفقهين في الدين أخبرنا ونحن في سن المراهقة بأنه لا يجوز للصبي أن يؤم الذين بلغوا الحلم، فعقد لي أصدقائي لواء الإمامة التي جاءتني طائعة كون الله حبانيّ ببسطة في الجسم مما غلب معه مظنة بلوغي الحلم آنذاك رغماً عن أنني لم أكن أعلمهم أو  أورعهم.

كان منتصر ذكياً بلا رياء ووسيماً بلا زهو.. وكان يأتي في الترتيب الأول أو الثاني في الدفعة فهى ماركة مسجلة باسمه منذ الصف الأول ، ولا أنسى أنه أحرز الدرجة الكاملة في الرياضيات في الشهادة السودانية في عام 1986 وذلك برغم وقوع لجنة الامتحانات في خطأ  في مسألة رياضية، وقد أخبرني أنه عدل السؤال حتى يكون قابلا للإجابة. وقد كان منتصر هادئا ومهذبا لم يترتب على غياب والده الطويل عن حياته بسبب الاعتقالات السياسية حدوث تشوه في شخصيته فقد كان والده مسؤول الحزب الشيوعي بغرب الجزيرة تحتفي بحضوره المجالس. وكان منتصر متوازن الشخصية بفضل تربية والدته الفاضلة «هدى» التي ملأت بشخصيتها الفريدة  فراغ غياب والده، وقد ساعدها منتصر في مهمة تربية إخوانه وأخواته. وكان منتصر قليل الكلام والمزاح وكنا إذا شغلتنا مناقشات كرة القدم التي لا يفهم فيها كثيراً ينصرف إلى القراءة حتى نفرغ من مهاتراتنا، وكان إذا دخل علينا فجأة ونحن نخوض في حديث تراهات المراهقة نصمت عن الكلام غير المباح احتراما له. هذا يا بني غيض من فيض ملامح شخصية منتصر التي يصعب سبر أغوارها إلا من قبل الراسخين في العلم.

تخرج منتصر في كلية الطب بجامعة الجزيرة وعمل طبيبا لعدة سنوات في السودان عانى خلالها من ضعف العائد المادي، وأغترب إلى المملكة العربية السعودية ليتحمل مسؤولية أسرته بعد وفاة والده (عليه رحمة الله) خاصة وأنه كان أكبر إخوته. ولم تمكنه ظروف العمل من الحضور للسودان لإتمام عرسه ممن اختار قلبه، وقد لحقت زوجته المصون به في المملكة. ولكن للأسف لم يهنئا بعرسه طويلاً فقد عاجلته يد المنون حيث توفى في حادث سير وهو عريس لم يكمل يومه الأربعين، فأختلط دمه الطاهر بخضاب حناء العرس، فرحل عنا ولم يترك ورائه أبن صالح يدعو له بل أصدقاء أحبوه في الله وفارقوه على حبه. وقد فجعت أسرته المكلومة بهذا الفقد الجلل وبكته المناقل كما لم تبك احد من قبل. وعلى المستوى الشخصي نتج عن وفاته المأساوية تلك تفجر ينبوع من مقلتي لم تجففه السنين بعد، فقد كانت تلك أول مرة في حياتي أتعرف فيها على الموت عن قرب ، وزاد ألمي أن المرحوم لم يدفن في السودان حتى أتمكن من زيارة قبره والوقوف على رأسه للسلام والترحم عليه، ولكن عزائي أنه دفن في خير أرض الله قاطبة أرض الحرمين الشريفين.

تذكرت بعد سماعي لخبر وفاته من شقيقي جلال موقف كنت والمرحوم ضمن أبطاله، حيث كنا ندير ومعنا أربعة من أصدقائنا مناقشات فكرية وفلسفية أسهمت في تشكيل بواكير وعينا المعرفي، وقد كان منتصر رائد تلك المساجلات وملهمها وحادي ركبها. وفي ذات يوم كان حديثنا عن فلسفة الموت، وختم النقاش أحدنا وأظنه «عبد الرحمن محمد عبد الرحيم» خال منتصر أو «عاطف مصطفى» بالسؤال عن توقعاتنا عن من سيموت منا أولاً، فكان رأي «التجاني موسى» بأن «إبراهيم مامون» سيكون أول المغادرين لهذه الفانية وبرر ذلك بأنه شقي وكثير الحركة مما سيورده موارد التهلكة، وكان رأي إبراهيم أنني سأكون أول (المراحيم) بسبب ضخامة جسمي وعلاقة ذلك بالأمراض القاتلة. وكان رأيي أن منتصر سيكون أول المودعين وقلت لهم أن أهلنا يقولون أن الموت كالجزار يختار أفضل الذبائح ومنتصر أفضلنا. ادعوا الله في هذا الشهر الكريم أن يرحمه رحمة واسعة ويسكنه فسيح جناته، فحسن ظني في ربي بأن الجنة لمثله خلقت.

تلك يابني قصة منتصر الذي أسميتك عليه تيمناً بأن تحمل بعض صفاته ومآثره وأن تكون خلفاً له في تحقيق الانتصارات، وقديماً قيل أن لكل شخص من أسمه نصيب. وأنصحك بأن تتخذ لك رفقاء درب من حاملي المسك حتى تحقق ذلك المراد، فقد كانت (شلة) منتصر الكبير أشخاص يمتازون بدماثة الأخلاق وكان فاعل اللمم منهم يستغفر الله في سره وعلنه، كما كانوا متفرغين لدراستهم بعيدين عن معاقرة السياسة ليقينهم بأنها تمارس في بلادهم كلعبة (الدافوري) التي لا تحكمها قوانين ولا أخلاق، وعندما شذ دكتور منتصر عن هذه القاعدة في المرحلة الجامعية لم يرض بالدنيئة في فن الممكن فكان له الصدر دون العالمين فأنتخب ليشغل منصب رئيس اتحاد طلاب جامعة الجزيرة في أصعب سنوات الإنقاذ.

رحم الله  الدكتور منتصر محمد الأمين سر الختم ..لا أجد من الأدب والشعر ما يجسد مسيره ومصيره الأخير إلا قول صلاح احمد إبراهيم:

يا منايا حوّمي حول الحمى واستعرضينا واصطفي

كل سمح النفس بسام العشيات الوفي

الحليم العف كالأنسام روحا وسجايا

أريحي الوجه والكف إفتراراً وعطايا

فإذا لاقاك بالباب بشوشا وحفي

بضمير ككتاب الله طاهر

انشبي الأظفار في أكتافه واختطفي

وأمان الله منا يا منايا

كلما اشتقت لميمون المحيا ذي البشائر .. شرّفي

تجدينا مثلا في الناس سائر

نقهر الموت حياة ومصائر

 

آراء