مع الاتفاقية الإطارية: الجنجويد وأذيال النظام الساقط

 


 

محمد عتيق
12 December, 2022

 

خارج المتاهة
ما أجمل أن تتحقق الدولة المدنية الديمقراطية في بلادنا بقيادة رأس دولة ورئيس وزراء وحكومة كفاءات مدنية بالكامل ، وأن يعود الجيش إلى ثكناته تاركاً خلف ظهره كل نشاط آخر غير مهنته ، وتتوحد كل القوى المسلحة في ذلك الجيش بعقيدةٍ وطنيةٍ وعصريةٍ واحدة ، وتنتظم البلاد حركة تنموية دائبة ويعود إليها الاستقرار أمنياً واجتماعياً بفضل شرطةٍ وأجهزة عدلٍ وأمنٍ مقتدرةٍ وصديقةٍ للمواطن ، وغيرها من الأمنيات العِذاب الواردة في "الإتفاق الإطاري" الذي تم التوقيع عليه قبل أيام بين بعض القوى والتنظيمات السياسية والمدنية بقيادة أحزاب من المجلس المركزي لقحت وبين العسكريين بقيادة البرهان وحميدتي ..
ما أجمل كل ذلك ، ولكن (حتى لو افترضنا حسن النية والأمانة) هل ذلك يكفي والخطر الحقيقي على واقع ومستقبل البلاد باقٍ ، الجنجويد ، تحت اسم الدعم السريع لا زال قائماً متنفذاً ؟ رئيسه في حقيقته يؤسس لمشيخة/إمارة/مملكة عائلية قوامها ثروات البلاد من الذهب وغير الذهب في غرب الوطن : احتكاراً بوضع اليد المسلحة ، واستقطاباً لعقول سودانية في مجالات التخطيط والاعلام والدعاية استشارةً وتنفيذاً ، مستنداً على مراجع قبلية وإدارات أهلية وبعض الطرق الصوفية ، وفي نفس الوقت بعلاقات إقليمية ودولية وثيقة (الكيان الإسرائيلي ليس بعيداً عنها) ؛ أطنان الذهب المنهوبة والمهرَّبة من البلاد مقابل التدريب والدعم في كافة المواقف للاعتماد عليها(على الدعم السريع) موطِأ قدمٍ لها في البلاد لتنفذ عبْرها إلى أطماعها في أراضي السودان ، أو موقعه الجغرافي سواءاً المُطل على البحر الأحمر أو الوسيط بين أجزاء افريقيا وبينه وبين دول الشرق الأوسط وممكناتها الزراعية ..

ثم هل يمكن تحقيق تلك الأهداف النبيلة للثورة في وجود "الخازوق" الآخر المتمثل في الفريق البرهان وبقية جنرالات مجلسه ؟ وهم تربية عهد البشير ونظامه الساقط ، الكذب والاستهبال جزء أساسي من الثقافة التي نشأوا عليها في أحضان(الكيزان) ، مرتبطون بهم سواء بالايديولوجيا أو بالمصالح والامتيازات ، يناورون(بلا إجادة) فيتلقُّون الإرشاد والتوجيه من مراكزهم .. يعلن البرهان تمسُّكه بأن تتوحد القوى السياسية ليُسلِّمهم السلطة ، وينادي بحوارٍ لا يستثني إلا "المؤتمر الوطني" الذي يعرف أهله كيف يعودون عَبْرَ تِرِك - مبارك الفاضل - السيسي وكل الذين سقطوا معه ، وقد حاول البرهان ذلك كثيراً وكانت آخر محاولاته هو انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ وقراراته بإلغاء كافة إجراءات لجنة التفكيك واعادته أموال ومؤسسات ومنهوبات رموز النظام الساقط لهم والافراج عن بعضهم من المعتقلات ..
هؤلاء(البرهان وحميدتي) هم الطرف الهام المُمسك بزمام السلطة باسم المكون العسكري ، في هذه الاتفاقية ، المطلوب من قوى الثورة في الحركة السياسية ولجان المقاومة و..و..إلخ أن توقع عليها وتسلمها القياد مرةً أخرى كما حدث عام ٢٠١٩ تحت مظلة "الوثيقة الدستورية" !! ، وكلنا يذكر ما حدث بعد ذلك من هيمنةٍ وتسلُّط حتى يومنا هذا مروراً بانقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ...
وإذا كان هذا (المكون العسكري) قد التفَّ - ولو التفافاً مكشوفاً - حول أهداف ثورة ديسمبر إلًّا أنه فشل في إخفاء نوايا "الدعم السريع" أن يمضي مستقلاً في مشروعه ، فجاءت الإشارات مضطربةً متناقضةً في متن الاتفاقية الإدارية :
** مرةً تذكر "الدعم السريع" مع القوات المسلحة والشرطة والمخابرات كأربعة جيوش تمثل الأجهزة النظامية في البلاد ..
** وفي فقرة لاحقة تقول أن "الدعم السريع" قوة عسكرية تتبع للقوات المسلحة ويكون رأس الدولة قائداً أعلى لها ..
** ثم تشير إلى أنه سيتم دمجها في القوات المسلحة "وفق الجداول الزمنية المُتَّفَق عليها" .. وهي إشارةُ تطمين تخفي حتمية المواجهة بين القوات المسلحة و "الدعم السريع"..

ذلك محور واحد من الاتفاقية اختصرنا في عرضه مخاطر الإعتراف بمليشيات حميدتي كقوة عسكرية تتحايل على شعارات الثورة ومطلب الثوار بحلِّها ، وكيف أن التحايل على الأمر في باب "الأجهزة النظامية" في الاتفاقية ستؤجل المواجهة بينها وبين القوات المسلحة دون أن تنفي حتميتها .. ومن ناحيةٍ أخرى ؛ لتحفيز السؤال الهام أن يبرز إلى السطح مجلجلاً :
- ولماذا كانت الثورة ؟ لماذا وضد من ؟ إذا كان بقايا النظام الساقط سيسودون ويعتلون ظهرها ..
أذيال النظام الساقط في القوات النظامية (لجنته الأمنية وجنجويده) قفزوا إلى السطح عَبْرَ كذبة الانحياز للشعب ، فرضوا أنفسهم قيادةً للثورة ، وأخذوا يواجهون شباب الثورة في مظاهراتهم السلمية بالقتل والفتك ، وبالفض المزلزل لاعتصامهم التاريخي .. تمكنوا من خداع بعض قوى الثورة لقبول التعامل معهم وتوقيع الاتفاقيات ، وظلت قوى الثورة الشابة لهم بالمرصاد ؛ كلما خانوا عهداً تَعَمَّمُوا بالشهادة والسلميَّةِ سلاحاً وخرجوا في سبيل الوطن ويفرضوا عليهم العودة ، ولكنهم يعودون تكتيكاً وهم يُضمرون ما يُضمرون ، بينما بعض القوى السياسية تستثمر ذلك الانتصار فتدخل في مفاوضات ولقاءات مع ذلك المكون العسكري . وفي ذلك من الواضح أن تلك القوى السياسية مختلفة في مواقفها وارتباطاتها الخفِيَّة : بعضهم استعذب "أعطِية" الجنرال حميدتي من أموالٍ وسيارات ، منه ومن القوى الإقليمية الداعمة له ، والبعض (مدعوماً من دول الإقليم الأخرى التي تساند القوات المسلحة أن تكون لها السلطة) راح يلتقي بالفريق البرهان ويتعاطى معه سراً ويُبحر . والبعض الثالث ارتباطاته بعيدة ، هناااك.... التقت كلها حول (الاتفاق الاطاري) تدافع عنه وهي تقول أن البلاد لا تحتمل المزيد من التنازع و"العبث" ، وأن العسكريين لن يتوانوا عن سفك الدماء ، فمن الخير أن نتوافق معهم لحين استلام السلطة منهم وتحقيق التحول المدني الديمقراطي كاملاً . وفي هذا يسهل الرد عليهم أنه لا قوة تستطيع هزيمة الإرادة الشعبية ، وأن هذا الشعب بشيبه وشبابه هو الذي قاد ثورته في مواجهة البشير بقواته العسكرية والشرطية ومليشياته ودفاعه الشعبي وهزمته واسقطته ، وهو قادر على تقديم المزيد من الشهداء على طريق إسقاط قوات البرهان وحميدتي ..

والتساؤلات الأخرى هنا ؛ أن الثورة ، وفي مواجهة انقلاب البرهان/حميدتي في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ قد اتخذت قرارات أبدعت لها شعارات واهازيج خالدة ، منها :
** لا تفاوض لا شرعية ولا اعتراف ، واشتركت كل قوى الثورة في ترديدها ، ومع ذلك ذهب البعض منها مذهب التمسك النظري بتلك اللاءات وتدخل في تفاوض مع المكون العسكري سراً . وتنكر ذلك في العلن ..
** "السلطة سلطة شعب ، العسكر للثكنات والجنجويد ينحل" وفي الواقع اتفقوا ووقعوا على استمرار الجنجويد جيشاً موازياً للقوات المسلحة ، وفي أسوأ الظروف مندمجاً فيها !! ..

وأسئلة أخرى تتعلق بما ورد في الاتفاقية حول الفترة الانتقالية ، الانتخابات وغيرها نتعرض لها في الجزء الثاني من هذا المقال ..
atieg@hotmail.com

 

آراء