مع باديو: سبع سنوات والشعب يريد..!

 


 

 

 

آلان باديو، إعادة ولادة التاريخ: عصر العصيان والانتفاضات، دار فرسو، ٢٠١١

آلان باديو، الفرضية الشيوعية، دار فرسو، ٢٠١٠
آلان باديو، الفكرة الشيوعية، ضمن الفكرة الشيوعية (تحرير كوستاس دوزيناس وسلافو جيجيك)، دار فرسو، ٢٠١٠
مصر وتناقضات الليبرالية: الصفوة جزافية الليبرالية والديمقراطية المصرية (تحرير داليا فهمي ودانيش فاروقي)، دار ون ورلد، ٢٠١٧

مجدي الجزولي


التقت لندا هريرا ودينا الشرنوبي بالفيلسوف الفرنسي آلان باديو في باريس بمناسبة الذكرى السابعة للثورة المصرية (يناير ٢٠١١) لتقصي رأيه حول مآلات الثورة في العالم والعصر الذي نحن فيه. قال باديو أن الثورة المصرية شهدت ولادة نوع جديد من الحركة السياسية شغل موقعا بين المادي والرمزي، حركة استنفذت الهدف السلبي منها، أي الإطاحة بمبارك، لكنها لم تطرح على نفسها أو تعقّد عليها أن تطرح سؤال الهدف الإيجابي. عدَّ باديو الثورة المصرية في مؤلفه عن القضية ”ولادة جديدة للتاريخ“، وقال أهميتها تتعدى مصر والشرق الأوسط إلى مجمل الحركة السياسية في العالم. قال باديو أن تعريف الهدف الإيجابي من الثورة كان معجزا لأن الإجابة الكلاسيكية، أي الاستيلاء على السلطة السياسية كما هي، لم تكن لتكفي الثوار ولم يكن ذلك هدفهم. بذا تطرح الثورة المصرية على العالم سؤال ”ما هي فكرة التغيير الحقيقي؟“ أو ”ما هي الثورة اليوم؟“، ”ما هي الرؤية السياسية اليوم؟“.

عند باديو، فيلسوف الحدث والحقيقة، هنالك وجهان للأزمة الكونية، وجه موضوعي هو أزمة الرأسمالية المتأخرة ووجه ذاتي هو انفلات أي نظم للحياة وللفكر و غلبة تصورات مشوشة وملتبسة للمستقبل. يواجه شابات وشباب اليوم مستقبلا غامضا، هل تستمر الأمور كما هي عليه أم هل بأمكاننا اجتراح حياة جديدة؟ هذا بينما يقدم السياسيون من كل الأصناف والتوجهات فكرة صمدية في صور شتى لا تعدو أن تكون الاستمرار في الذي سبق، أي تكرار الواقع. هذا بطبيعة الحال ليس المستقبل الذي ينشد شابات وشباب اليوم. أمام العجز عن التأثير الفعال في الوجه الموضوعي للأزمة الكونية يتبقى أن تقدم الفلسفة اليوم أفكارا جديدة، رؤى جديدة لتغيير العالم.

يقترح باديو أن يبدأ هذا المستقبل بتعريف جديد للحرية، فالحرية في الممارسة المعاصرة هي حرية الشراء، حرية الامتلاك، حرية أن تفعل ما تشاء وقتما تشاء متى تيسر لك المال. لذلك، يرى باديو ضرورة لتعريف جديد للحرية يصدر عن فعالية الخلق والإبداع لا فعالية الاستهلاك والاستمتاع في التخريج الرأسمالي. يشترط باديو للحرية الجديدة أدبا جديدا وفنونا جديدة ومخترعات جديدة وصيغ تنظيمية جديدة للعمل السياسي وفي خضم ذلك سياسة جديدة. وهو بذلك يبشر من موقع الفيلسوف المتفائل بدنيا جديدة وليس فقط بانتقال السلطة من فريق إلى فريق. لشرح مقصد باديو يجب إضافة التحذير الصحي أن باديو يرهن كل تجديد للحياة بما يسميه ”الفرضية الشيوعية“ وتعريفها الدقيق عنده القول بإمكانية تجاوز الملكية الفردية. ما عدا ذلك، كما يفصل في كتابه القصير بذات العنوان، استسلام لاقتصاد السوق والديمقراطية البرلمانية المرتبطة به كنهاية للتاريخ، أي تكرار للمكرر مع توقع نتائج مختلفة.

في تشخيص باديو تمثل مفاهيم ”التحديث“ و“الإصلاح“وكذا ”الديمقراطية“ و“الغرب“ و“المجتمع الدولي“ و“حقوق الإنسان“ و“العولمة“ بل حتى ”العلمانية“ كما تتجلى في الممارسة الملموسة محاولات شتى لفرض أوضاع يمكن فيها للرأسمالية الكونية ولسدنتها من السياسيين استعادة شروط نشأتها الأولى: عقيدة الليبرالية الاقتصادية في أصفى صورها من منتصف القرن التاسع عشر والسلطة غير القابلة للمسائلة لصفوة رجال المال وخدعة حكومة برلمانية تتكون غلابا من سدنة رأس المال كما في تقدير ماركس. في هذا السبيل تجتهد الرأسمالية الكونية للإطاحة بكل مكتشفات ومنجزات الحركة العمالية والشعوب المقهورة وما اتصل بها منذ ١٨٦٠ وحتى ١٩٨٠ واستبدال ذلك بسيادة قيم الامبريالية الصمدية. على هذا الأساس يقارن باديو بين الثورة المصرية، باعتبارها مفتاح سلسلة تاريخية جديدة، وبين اختلاجات الحركة العمالية الأولى في ثورات أوروبا ضد البطش والاستبداد عام ١٨٤٨. في كل، أفلتت اللحظة السياسية من يد الثوار على نبل قضيتهم ليفوز بالجولة من يسيطرون على التنظيمات التي تدعي تمثيل القوى الشعبية، أحزاب برلمانية أو نقابات فاسدة، ثم من بعدهم قادة الثورة المضادة.

في المقابل شدد باديو على بعث ”الفكرة“ بالتواز مع نهضة التاريخ في ميدان التحرير، الفكرة التي باستطاعتها مقارعة صيغة الديمقراطية الخالية من كل محتوى ذات الرايات الرأسمالية وكذلك العقائد العنصرية والقومية الشوفينية ذات الطابع الفاشي المبتذل التي احتلت مواقع اليسار القديم في الخارطة السياسية والاجتماعية. عند باديو، اسم هذه الفكرة ليس سوى ”الفرضية الشيوعية“. يقر تلميذ ماو أن فكرة ”الشيوعية“ التي يطرح تصور مثالي وليس برامجي، لكنها في تقديره لا غنى عنها لتغيير العالم، بل يدعي باديو أن كل محاولة للثورة على الظلم وبسط العدالة والمساواة تنهل بصورة أو أخرى من الفرضية الشيوعية. كما نشأت الماركسية ذات الإسم عشية ثورات ١٨٤٨ على يد ماركس وانجلز في مسعى الصراع السياسي من أجل تنظيم جديد للمجتمع على قاعدة المساواة يتفاءل باديو بإعادة ولادة الفكرة ”الشيوعية“ في عصرنا الملتبس.

باديو الفيلسوف منضبط العبارة كل الانضباط فالماركسية عنده معرفة، وكأي معرفة تتصدى لمصاعب لا بد على الدوام من تركيبها وإعادة تركيبها في كل تشكيل تاريخي وليس تكرار وصفاتها. باديو لا يرى الماركسية فرعا من فروع الاقتصاد باعتبارها نظرية لعلاقات الإنتاج أو فرعا من فروع علم الاجتماع باعتبارها تسعى لتوصيف موضوعي للأوضاع الاجتماعية كما أنها ليست فلسفة باعتبارها تطرح تصورا ديالكتيكيا للتناقضات بل هي في تعريفه معرفة منظمة بالوسائل السياسية اللازمة لتفكيك المجتمع القائم واجتراح تنظيم جديد للجماعة البشرية على أساس المساواة عنوانه ”الشيوعية“. يقرر باديو في أكثر من موقع في كتبه أن العالم الذي نعيش هو تحقق شبه حرفي لاستقراءات ماركس في منتصف القرن التاسع عشر حول الصيرورة الوحشية للرأسمالية فكأن العجوز كان يكتب رواية خيال علمي أصبحت واقعا. استسخف ماركس حكومات القرن التاسع عشر قائلا ما هي سوى إدارات لرأس المال ووصفه أصدق اليوم حيث تكاد تنعدم الفروقات بين اليسار واليمين في الحكم. يسأل باديو، ما الفرق ”يا جماعة“ بين ساركوزى وميركل في اليمين وزاباتيرو وأوباما في اليسار؟ بذا، يقول باديو، نحن شهود على تراجع مريع نحو جوهر الوحشية الرأسمالية بعد هزيمة آخر موجه للبعث الشيوعي الثوري يعتد بها في ستينات القرن العشرين. عند باديو، مثلت الثورة الثقافية في الصين (ويؤرخ لها بالنشاط الجماهيري بين نوفمبر ١٩٦٥ حتى يوليو ١٩٦٨) ختام السلسلة الثورية التي فتحت طريقها ماركسية لينين (لبيان حجج باديو في هذا الصدد أنظر مقالته ”الثورة الثقافية: آخر ثورة؟ في مجلة Positions ١٣:٣، ٢٠٠٥، دار جامعة ديوك للنشر).

ماذا تمثل الثورة المصرية إذن؟، يرى باديو أنها افتتاح دورة جديدة للصراع الاجتماعي، ولا بد من دراسة كل تفاصيلها، الثورة والسلطة والثورة المضادة، لإدراك تركيب المصاعب التي يطرحها العصر على الماركسية أو قل علم الثورة. عد آصف بيات الثورة المصرية ثورة من غير ثوريين، والأدق إن اتبعنا قياس باديو أنها ”عصيان“ بغير رؤية، حققت هدفها السلبي، أي الإطاحة بمبارك واستنفذت نفسها. هذا عند باديو لا يقلل من أهميتها من حيث أنها بداية لنوع جديد من العصيان الجماعي، اخترقت أشكال التنظيم المعهودة وإن لم تخترع صيغا جديدا للتنظيم السياسي تمكن من ترجمة روحانيات الثورة إلى ممارسة سياسية تتصدى لمطالب الناس الذي اجتمعوا على وحي الميدان.

طرح الممثلون السياسيون للميدان، وهم، باستثناء الاشتراكيين الثوريين، من الصفوة الليبرالية المصرية، على جمهورهم مفاهيم ”الإصلاح“ و“التحديث“ و“الديمقراطية“ و“حقوق الإنسان“ كما في هي في تخريجها الامبريالي المعاصر بغير جرح وتعديل ثوري. لما جاءت أصبح الصبح وجد غالب الناس في المعاني البديلة التي استخرجها الأخوان المسلمون من صراعهم الطويل ضد السلطة في مصر مهربا أكثر أمنا من حدوتة ”التحديث“ التي طالما تغنى بها حتى الحزب الوطني. شاهد ذلك أن الناخبة المصرية فاقت لنفسها في صباح اليوم التالي للثورة بين اختيار أحمد شفيق، رئيس وزراء مبارك، وبين محمد مرسي، مرشح الأخوان المسلمين للرئاسة بينما انسحب الليبراليون المصريون من ساحة التنظيم السياسي في انتظار جودو الديمقراطية.

ماذا يعني انتصار الأخوان المسلمين الانتخابي إذن؟ التقدم نحو هذا السؤال يستدعي العودة إلى ساعة ولادة النسخة الثورية من الإسلام السياسي. زار ميشيل فوكو إيران عشية الثورة عامي ١٩٧٨ و١٩٧٩ وعاد منها شاهقا بما شهد، شغف عبر عنه في مقالات قصيرة منها المنشورة في لو نوفيل اوبزرفاتور ١٦-٢٢ أكتوبر ١٩٧٨. أعاد جانيت آفري وكيفن آندزسون نشر كلمة فوكو ”بماذا يحلم الإيرانيون؟“ في ملحق كتابهما الصادر في ٢٠٠٥ بعنوان ”فوكو والثورة الإيرانية: الجندر وإغواء الإسلام السياسي“. يطرح فوكو في كلمته القصيرة فحوى الإسلام السياسي بطريقة تستحق إعادة الاعتبار اليوم بعد أن كال له المثقفون الليبراليون التهم، فهو عند من أحسن الظن مغفل نافع لحس الملالي الإيرانيون عقله وعند من ساءه مسحور بفارس كثيفة اللذات كما كل مستشرق. لكن، لفوكو ملاحظات دقيقة حول إيران الثورة، منها أن فشل التنمية الاقتصادية، أو قل تناقضات الرأسمالية تحت شروط كولونيالية، حالت دون استقرار قواعد حكم ليبرالي غربي. منها كذلك أن الملايين الذين ثاروا ضد الشاه جمعهم هدف سالب، أي الإطاحة بنظام الحكم، وأن الصفوة الليبرالية في إيران إما فقدت كل مشروعية باصطفافها خلف الشاه أو استسهلت تحدي الإسلام كقوة سياسية ظنا منها أنه متى سقط الملك وعادت عجلات السياسة التقليدية للدوران سينحسر لا بد ظل الخميني الطويل.

قال فوكو أن السؤال الذي يظل يشغله طوال إقامته في إيران كان ”ماذا تريدون؟“ وظلت الإجابة التي يتلقاها هي ”حكومة إسلامية“ في تكرار للشعار الذي طرحه الخميني للثوار من منفاه في إحدى ضواحي باريس. لم ينشغل فوكو بالتعريف الوظيفي للحكومة الإسلامية المنتظره فقد كفاه بعض من التقاهم بأنهم يقصدون ”اليوتوبيا“ أو ”المثال“، ثم شرح له شارح الممارسة التي تغذي المثال المنشود. برواية فوكو، ألمت بمدينة فردوس الإيرانية حوالي عشرة أعوام قبل الثورة فاجعة مريعة. حطم زلزال قاهر كامل المدينة فلم يبق منها شيئا على عَمَد. أعدت السلطات خطة لإعادة الإعمار دون استشارة أهل البلد من الفلاحين وصغار الصناع لكن لم توافق طموحاتهم فرفضوها. بدلا عن الخطة الحكومية تآزر هؤلاء تحت قيادة رجل دين محلي فأنشأوا بلدة بديلة في موقع قريب. جمع المواطنون التبرعات وأقاموا بالعون الذاتي شبكة مياه وأنشأوا مجموعات تعاونية للبناء وللمواد الاستهلاكية. أطلق مواطنو فردوس السابقين على بلدتهم الجديدة إسم ”إسلامية“ في احتفاء بالقيم الجماعية التي مكنتهم من حشد قواهم لهذا العمل.

في تقدير فوكو كان الزلزال الذي أصاب فردوس مناسبة للاستفادة من البنى الدينية كبؤر للمقاومة وكموارد للإبداع السياسي. هذا إذن ما يحلم به غمار الناس، ومنهم قتلى كثر في رابعة العدوية، حين يحدثون أنفسهم بالحكومة الإسلامية. على هذا الأساس قضى فوكو أن الحكومة الإسلامية ليست فكرة بالمعني الدقيق وليست مثالا بل هي ”إرادة سياسية“ كمثل الإرادة التي ساقت المئات في رابعة والنهضة إلى عزيز كريم. جاء المرحوم عبد الخالق محجوب على معنى مماثل في كتابه ”آراء وأفكار حول فلسفة الأخوان المسلمين“ حيث أشار إلى أن المساواة وعدالة توزيع عائدات الإنتاج شكلتا روح الدعوة الإسلامية في نهضتها الأولى. ”هذه المساواة وتلك العدالة تلحان في التطبيق في ظروف نمت فيها الثروة الاجتماعية وتزايدت قدرات الناس على انتزاع طيبات الحياة وخيراتها من مادتها الخام“. نبّه المرحوم عبد الخالق محجوب إلى ضرورة أن تمتد اليد المنافحة عن العلمانية إلى جوهر القضية الدينية لدرء التواء السياسة بالدين لا أن تكتفي بالمدافعة عن مواقعها.

لا عجب إذن إن كان الإسم الثاني الذي عبأ الفضاء الثوري في إيران بعد الخميني هو ”علي شريعتي“. كانت رسالة شريعتي الرئيسة أن المعني العميق للإسلام ليس في التفاسير الدينية الموروثة والمحنطة منذ قرون بل في تعاليم المساواة والعدالة الاجتماعية التي بشر بها النبي الكريم والإمام الأول علي. نهل شريعتي من موارد عدة وزاوج بينها فخصص جل جهده للملائمة بين الإسلام الشيعي وبين النداء الثوري للماركسية. اهتم شريعتي كذلك بالعلاقة الديالكتيكية بين النظرية والممارسة، وهي قضية همّ لها من باب تمحيصه لميلاد وصعود ثم جمود وتدهور الحركات الدينية الثورية. بهذا المدخل اعتقد شريعتي المؤمن جازما أن الإسلام الشيعي لجوهر ثوري فيه لن يقع عليه قانون الجمود والتدهور كسواه.

لكن، لم ينعقد لواء للإخوان المسلمين في مصر كما انعقد للخميني المنتصر وتسارعت دورة الثورة المضادة التي نشد الأخوان المسلمون حلف قادتها أملا أوتقية أو قلة حيلة أو بأي دافع كان حتى اكتملت بانقلاب السيسي في ٣ يوليو ٢٠١٣. يدعو باديو إلى تدبر هذه الصيرورة واستخلاص دروسها باعتبارها مثال أول للمعضلات التي ستواجه أي نهوض ثوري في المستقبل، مشت الديمقراطية أو جات! بعض ذلك مما يجده القارئ في فصول ”مصر وتناقضات الليبرالية“. يتصدي الباحثون في هذ الكتاب للإجابة على سؤال ربما عَنَّ لباديو: لماذا وكيف وأدارت الصفوة الليبرالية المصرية ظهرها للديمقراطية الوليدة واستقبلت السيسي بطل الثورة المضادة استقبال الفاتحين.

الحجة المركزية في الكتاب تتصل برأي بانكاج ميشرا أن الليبرالية الغربية شُقَّت من ضلع امبريالي ومن تناقضاتها العقيدة المنشرة بين الليبراليين أن الشعوب ”المتخلفة“ خارج الفضاء الأوروبي متى ما اختارت ديمقراطيا أخطأت كمثل ما أخطأ المصريون باختيار الأخوان المسلمين وأخطأ الإيرانيون قبلهم بجذب الخميني ولا بد أن تساق إلى الليبرالية الحقَّة بالحديد والنار. يذهب ميشرا أبعد من ذلك فيقول أن هذه التناقضات تتعدى المشروع الامبريالي واستمرت فاعلة خلال الحرب الباردة وبعدها. يقرر ميشرا أن ذات اليبراليين الغربيين الذين ينادون بالسوق الحرة والمساواة بين الناس هم المستفيدون الأول من تاريخ طويل من الحمائية التجارية ومن العنصرية المتجذرة في بلدانهم. إلى ذلك كانت الحمى المضادة للشيوعية عرضا لجزافية الليبرالية الغربية وتحورت مجددا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في هيئة الليبرالية الجديدة ذات الأنياب الحادة. عند ميشرا لا تمثل هذه التناقضات سمات عرضية لليبرالية الغربية بل هي نتاج مباشر لافتراضات عقيدة التقدم االتاريخي من القرن التاسع عشر.

أخذ خالد أبو الفضل في الفصل الثامن من الكتاب بجانب من حجة ميشرا في تحليله لعلاقة الصفوة المصرية بجهاز الدولة. يشرح أبو الفضل كيف نصَّبَت الصفوة الليبرالية المصرية نفسها طليعة لشعبها منذ العهد الاستعماري مُسلحة حصرا بأطر معرفية غربية واختارت أن تكون خادما لجهاز الدولة القابض. لذلك قال أصبح أغلب اعتمادها على آلة الدولة القهرية للحفاظ على موقعها المتميز في المجتمع المصري ولدفع أي تهديد شعبوي محتمل بما في ذلك النمس الإسلامي. عند أبو الفضل، يمثل احتماء الصفوة الليبرالية المصرية بالسيسي إلا من رحم ربي ساعة أتاهم الأخوان عبر الصندوق الذي طالما بشروا به شاهد جديد على هذا القانون الثابت، قانون الثورة المضادة!

لم تهد سنين من العسف العسكري في السودان بعض أصفى الليبراليين فيه، مخضرمين ومحدثين، إلى هذا القانون، سمعنا منهم شماتة فظة حين حصد السيسي أرواح ”الغلابة“ في النهضة ورابعة، طارت الديمقراطية من رؤوسهم ببعبع الإسلاميين كما طارت من رؤوس أقرانهم المصريين. نسألهم مع باديو. ”ما هي فكرة التغيير الحقيقي؟“ أو ”ما هي الثورة اليوم؟“ وأي مفهوم للحرية ينشدون؟ ونسألهم مع لينين ”حرية من ولفعل ماذا؟“

m.elgizouli@gmail.com

 

آراء