"التاريخ لا يدرس فقط للإلمام بالحوادث الماضية ،وإنما أيضا للاستهداء بما فيه من روايات وعبر" د.منصور خالد انشغلت الاوساط الفكرية والثقافية والسياسية في الخرطوم باحتفال من نوع فريد نظمته نخبة من اهل الفكر والثقافة والأعمال الحرة وعدد من الحادبين على هيبة الوطن وكينونته لتكريم الدكتور منصور خالد تقديرا واعترافا بفضل الرجل في مجالات الفكر والثقافة والسياسة والكتابة، باعتبار أن المحتفى به حامل شعلة وهاجة للحداثة والتفكير المستنير، ومساهما كبيرا في البحث عن الحقيقة، ما فتئ يعبر بصدق عن "عمارة العقل وجزالة الموهبة". ومما لفت نظر المراقبين أن التكريم الذي جرى يومي 12 و 13 مارس 2016، حظي باهتمام كبير في كثير من الاوساط، كما تميز برنامج التكريم بمساهمات فكرية متنوعة حول دور الدكتور منصور في الحياة العامة، باحثا\ن ومفكرا، وممارسا . وهكذا أفلحت اللجنة القومية التي تصدت لهذا التكريم (بمبادرة من الدكتور حسن عابدين وجهود مقدرة من اللجنة) في ترجمة الفكرة إلى واقع ملموس ومثير للإعجاب تعبيرا صادقا عن الوفاء والاحتفاء بأحد أعلام الفكر السوداني . وعلاوة على المساهمات البحثية المتنوعة التي جادت بها قرائح نفر كريم من المهتمين بضروب الفكر والسياسة والفن والقانون والدبلوماسية، جاءت ذروة برنامج التكريم في محاضرة ألقاها الدكتور منصور في "النادي الدبلوماسي" وعنوانها "شذرات من، وهوامش على، سيرة ذاتية". وتلك لعمري محاضرة سكب فيها الدكتور منصور عصارة فكره والكثير من تجاربه وتأملاته في الشأن السوداني منذ فجر الاستقلال وحتى الآن. ويمكن القول أن المحاضرة لم تكن نصا تتلقاه آذان الحاضرين وإنما كان بمثابة محاورة تتسم بالحيوية وروح التفاعل مع الظرف والحال في آن معا. ولذلك استهلها المتحدث بقوله "فقد ظللتُ أكتب منذ عهد الطلب حول القضايا العامة وأنعتُ أغلب ما أكتب للناس بالحوار لظني أن الحوار يهز الثوابت المستقرة ويوقظ العقول الخدرة." ومما يجدر ذكره ان المحاضرة المنصورية هذه، كان من المؤمل ان يلقيها المحتفى به متزامنة مع صدور سيرته الذاتية، غير أن بعض المتطلبات الفنية لم تسمح بصدورها في ذات الوقت. ومن هنا كان التركيز على المحاضرة باعتبارها، درة في تاج التكريم وبرنامجه. وأعتقد أن الحضور الذي تميزت به المحاضرة كان معبرا عن أصالة الجوهر ورشاقة المنظر.وقد عرض الدكتور منصور نص المحاضرة بكل ما يلزم من البلاغة والسلاسة في التعبير، والحاضرون يستمعون في تقدير واضح للجهد المبذول في صياغة تجربة كان معظمهم ممن عايشها أو قرأ عنها أو تناولها بنقد موضوعي إن تطلب الحال ذلك. وفحوى تجربة منصور في عالم السياسة كما أوجزها هو، أنه في كل المرات التي اقتحم فيها مجال السياسة الوطنية، كان محتفلا بأسلحة اربعة هي: الرؤية ، ومنهج العمل وأدواته، وأهل الشورى حتى وإن كانوا من الأبعدين. ومن اللافت للنظر أن حال السودان ومآ آل إليه، كان من النقاط البارزة في بدايات المحاضرة، عندما ورد فيها نصا "أين هو هذا الوطن الآن؟ يكفيك النظر إلى طرقاته لترى أهله، صغارا وكبارا، يهرولون فوقها جمعا وأفذاذا مشدوهين وكأنهم يهربون من الحياة، أو كأنهم ضلوا الطريق في فلاة سهب لا نهاية لها. تلك الغيبوبة الجماعية التي لحقت بالناس وهم يجوسون في الطرقات كادت أن تصبح استكانة مرضية لمآسي الماضي وبؤس الحاضر وضيمه". وفي ذات السياق، وتلخيصا للأزمة السودانية المتوارثة، أو ما أسماه منصور "تواتر الفشل السياسي"، نبهنا إلى حكمة منزلة نعرفها جيدا ولكننا لم نجعلها نبراسا لأفعالنا وهي أن الله لا يصلح أمر قوم إن لم يصلحوا ما بأنفسهم ... وهنا حمّل منصور القادة السياسيين وغيرهم من النافذين مسئولية ذلك الفشل المتواتر منذ استقلال السودان وظنونهم الكاذبة بأنهم قادرون على إعادة إنتاج أنفسهم إستحقارا للعقول، "خاصة عندما تكون إعادة إنتاج النفس هي دوما بأسوأ ما فيها"!! ودلّل الدكتور منصور على المتاهات التي أدخل السودانيون أنفسهم فيها مؤكدا أن ذلك يعود إلى "سيطرة شهوة إصلاح الكون بدلا من إصلاح السودان. فمنهم من جعل همه الأول هو توحيد العرب من المحيط إلى الخليج، ومنهم من جعل اهتمامه الأعلى توحيد أهل القبلة من غانا إلى فرغانه، ومنهم من نذر نفسه لمحاربة الاستعمار الجديد حتى يدفن. كل هذا دون وعي بأن إصلاح الكون لا يتحقق إلا بإصلاح الجزء من الكون الذي نعيش فيه". وإثر ذلك مضى الدكتور منصور فعدّد الكثير من النماذج التي تؤيد الحقائق المؤسفة التي تحيط بأحوال السودان في الماضي والحاضر. وخلص إلى أن مشاكل السودان السياسية الراهنة هي "نتاج لفقدان الرؤية". وانبرى بعد ذلك لتحليل وتشخيص القضايا النوعية والموضوعية والذاتية التي أدت بنا إلى ما نحن فيه من ضياع . أما عن المستقبل، فلم ينس المحاضر قيمة الشباب وقدراته الفذة في إحداث التغيير، وتحدث عن البيئة الدولية الفريدة لهذا الشباب في ظل الثورة الرقمية والتي أحدثت وستحدث تطورات كبرى في العالم. وحرصا منه على إشاعة الأمل في النفوس، وما يمكن أن يحمله المستقبل من تغيير على أيدي الشباب، أشار إلى مقولة لحكيم إفريقيا نيلسون مانديلا عندما قال: "كثيرا ما يبدو الأمر مستحيلا إلا عندما يقع ". ومما يجدر ذكره أن الدكتور منصور لم يعف نفسه وجيله من المسئولية ومارس النقد موضوعيا بحديثه عن "نكوص جيل الآباء وجيلنا الذي لحق به عن الاعتراف بكل الأخطاء التي ارتكب وارتكبنا وقادت إلى تهلكة، برغم أن الاعتراف بالخطأ هو أول الطريق لمعالجته". وفي إشارة لما يمكن تسميته بالعلة السيكولوجية عند العديد من قادتنا، لفت النظر إلى "تضخيم الذات للحد الذي قاد إلى طموح غير مشروع ثم إلى خيلاء فكرية. تلك الخيلاء جعلت أغلب هؤلاء، لاسيما العقائديين منهم يتظنّى عن يقين باطل بأنه مالك الحقيقة الأوحد..."!! - وأنا أزيد على ذلك بأن الإدعاء المطلق بامتلاك الحقيقة هو سبب جمود الفكر وتصلب شرايين الحضارة والانزلاق نحو الهاوية التي تبتلع الشعوب وتضعها في متحف المعاناة والكدر والنسيان. بعد إسهاب في العوامل والمسببات والمظاهر لتراكم الفشل السوداني، جاءت خاتمة المحاضرة إلى عرض نتائج ما فرضته المقدمات، إذ خلص الدكتور منصور إلى أن تراكم الفشل سيقود إلى واحد من شيئين: الأول هو الحساسية نحو النجاح والثاني هو "ذوبان الدولة". وأن "كلا الداءين سيسيران بنا لا محالة في طريق طراد نحو الهاوية". وعلى هذه النغمة المفزعة جاءت آخر جملة في محاضرة الدكتور منصور بما يمكن أن أسميه النقد الجماعي للذات والذي ينضح بالحقيقة المرّة وهو يقول لنا "كل هذا غرس زرعناه بأيدينا والآن جاء وقت حصاده. وعندما يجيء وقت الحصاد،علينا الاعتراف بأنا جميعا – إلا من عصم ربى - من وضع النبتة في مغرسها. إن كان ذلك هو الحال فمن واجبي على نفسي أن أقول: على من تعزف مزاميرك أيها الكاتب". ذلك ما كان من أمر محاضرة الدكتور منصور التي توّج بها احتفال تكريمه، وهي في تقديري بمثابة جسر يربط بين الأجيال، لكونها ألقت الأضواء الكاشفة على قضايا أجيال متتابعة منذ استقلال السودان. وشخّصت علل السودان السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما أنها وضعت التحدي الأكبر أمام الشباب في عهد الثورة الرقمية لينهض بما عجز عنه آباؤهم وأجدادهم. وفي ذلك ربط محكم بين الماضي والحاضر والمستقبل تجلت فيه مهارات العرض والتحليل والنقد المجتمعي والنقد الذاتي أيضا. وهنا أستطيع القول أن بلادنا تربعت على عرش الفشل المتراكم أو أنها – في تعبيري - "بلاد الفرص الضائعة". لأننا لا نغتنم اللحظة المناسبة، ولا نعرف أن الفرص لها أجنحة، وإن لم يستثمرها الإنسان في حينها طارت منه وفقدها إلى الأبد!! أو كما عبر وليام شكسبير في مسرحيته يوليوس قيصر "تتعرض حياة الإنسان لكثير من تيارات المد والجزر، وعليه فإن اغتنام الفرص في حينها يقود الى النجاح والفلاح، وإذا ما أضاع الناس تلك الفرص فإن حياتهم ستكون حافلة بالمآسي" . أود كذلك الإشارة إلى أنني شاركت مشاركة متواضعة في التعقيب على ورقة أعدها زميلي وصديقي الدكتور نور الدين ساتي، حول الدكتور منصور والدبلوماسية المتعددة الأطراف. حيث أوكلت مهمة التعقيب لأستاذنا السفير عمر الشيخ ولشخصي. وكان تركيزنا على الجهد المؤسسي الذي بذله الدكتور منصور في مجال الدبلوماسية المتعددة الأطراف في المحافل الإقليمية والعالم-ثالثية والدولية إبان توليه منصب وزير الخارجية. ولا شك أن منصور لعب دورا تاريخيا في الارتقاء بالعمل الدبلوماسي السوداني إلى مدارج عليا جعلت من الدبلوماسية السودانية عنصرا فاعلا في المحافل الدولية من خلال التجويد والتفاعل وأخذ المبادرات والقدرة على طرح القضايا بما يعبر عن مصالح البلاد تناغما مع المجموعات الأخرى من الدول التي تتحاور في المنابر الدولية المختلفة. وقد حرص منصور على تدريب وتأهيل كادر مقتدر من الدبلوماسيين السودانيين على الإبداع في العمل الدبلوماسي المتعدد الأطراف، بحكم أن ذلك النوع من الدبلوماسية يستوجب متابعات ومواكبة مستمرة ومبادرات متلاحقة يقوم عليها ممثلو بلدانهم في مواقع دبلوماسية المؤتمرات مثلما هو الحال في نيويورك وجنيف وفيينا وبروكسل والقاهرة وأديس أبابا وغيرها من تلك المواقع. ويمكن القول أن الأسس التي بادر الدكتور منصور بوضعها في هذا المجال شكلت مدرسة ينهل منها الدبلوماسيون حتى بعد مغادرته لمنصب وزير الخارجية بسنوات عديدة. وبشكل عام، كانت لمنصور عقيدة راسخة بأن الدبلوماسية مهنة تتطلب إعمال قواعد الاحترافية والتخصص، علاوة على الاستعداد التام بالتأهيل والإمساك بأدوات تجويد تلك المهنة. وأذكر أنه لخص ذلك في محاضرة ألقاها بقاعة المحاضرات بوزارة الخارجية بالخرطوم بتاريخ 7 مارس 2012 حيث أكد بأن نجاح الدبلوماسية يتوقف على أدوات تنفيذ السياسات، بعد تحديد معالم تلك السياسات، موضحا أن أهم الأدوات تتمثل في راس المال البشري وتجويد اللغات والإلمام بطرائق التحليل والاستقراء، لأن الدبلوماسية أصبحت فرعا معرفيا ولا بد لمرتاده التزود من هذه المعارف والعلوم. سيظل اسم الدكتور منصور خالد معلما بارزا في سجل الفكر والسياسة والدبلوماسية والثقافة والفنون، سواء كان المطلعون على ذلك السجل من مناصريه أو من مخالفيه في الرأي ، ويكفي أنه نقل المساهمات من حيز التداول الشفهي الذي ابتلينا به في السودان، إلى مراقي الكتابة والتوثيق وإعمال الذهن والفكر في القضايا العامة التي تشغل الناس وتؤثر في حياتهم.