مفكر فقدناه بلا أسف: سعد حمد البراك … بقلم: د. محمد وقيع الله
21 January, 2010
2-1
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]
قد يسعد أخي الدكتور سعد البراك مدير شركة (زين) أن أصفه بأنه التلميذ العملي التطبيقي للفيلسوف الاجتماعي النهضوي المهندس مالك بن نبي.
ذلك رغم أن سعدا كان في أيام حركيته الإسلامية المتزمتة يستخف كثيرا بأفكار هذا العبقري الجزائري، التي بدت له عبارة عن تركيبة ذهنية باردة معقدة، لا تشبه أقاويل وعاظ الحركة الإسلامية، وكتابات كتابها التربويين في شيئ.
وأذكر أنا كنا نختلف كثيرا حول هذا الأمر في أيام الطلب بجامعة أوهايو، وكان هو بطبيعته الفكاهية الصاخبة، يكتسح آرائي اكتساحا، ويعينه على ذلك وجودنا في وسط جمهرة من الإسلاميين، المعبأة بطبيعتها ضد الفكر، والمتحيزة سلفا لصالح آراء التربويين، والوعاظ، والخطباء، والقادة، والإداريين، الحركيين الإسلاميين.
حتى لا أقرأ هذا الكتاب:
وذات يوم كنا قد فرغنا من حلقة علم، أو أسرة، أو مأدبة - ما عدت أذكر- وسألني أخ كريم كان يجلس بقربي هامسا: في أي كتب يا ترى سجل مالك بن نبي آراءه تلك التي رد عليها بحنق سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق)؟
أخبرت الأخ بالمصدر هامسا، لأن سعدا كان يجلس قريبا منا.
ولكن سعدا لم يفته الأمر، إذ التقط طرفا من المحادثة، وقال بصوته المجلجل: إني لم أسمعك جيدا، خبرني ماذا قلت له؟ في أي كتاب دون مالك بن نبي أراءه تلك؟
قلت له: إن أمرا مثل هذا لا يعنيك ولا يستهويك، فعلام تسأل عنه؟
فقال ضاحكا: أريد أن أعرف هذا الكتاب بالذات حتى لا أقرأه إن وقع لي في طريق!
كانت تلك هي طبيعة الانغلاق الحركي التي رأيته عليها، بادي الرأي، إن كان يضخمها حينا متكلفا، ويزينها حينا آخر بالمزاح الحلو الذي جبل عليه.
ولكن انقلابا هائلا طرأ عليه، فانفتح ذهنه لتشرب الفكر الحضاري النظري الإسلامي، وأصبح من دعاة فكر مالك بن نبي ومحمد جلال كشك، رحمهما الله، وهما في نظري أهم أئمة الفكر الحضاري وسط الإسلاميين المعاصرين.
طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية:
وإن أنس لا أنس ابتهاجه العميق بقراءة كتاب محمد جلال كشك الذي أهديته أو أعرته إياه لا أذكر، وهو كتاب (طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية)، وأظنه الكتاب الذي أحدث الانقلاب الكبير في عقليته، حتى أصبح بمثابة المرشد الرائد له، يدافع عنه فخورا، ويقول هذه أول مرة أرى لتخصصي العلمي الهندسي صلة واضحة التحديد، بالعمل الإسلامي المستقبلي ذي الآفاق الواسعة.
وعندما كان صديقنا المشترك، المفكر والصحفي البحريني أستاذنا حافظ الشيخ، مساه الله بالخير والتعافي، يحاول أن يغض قليلا من قيمة زميله الصحفي محمد جلال كشك، الذي عاصره ببيروت، والمعاصرة حجاب كما يقولون، ما كان سعد يستمع إليه، بل ينصت أكثر إلى صوت الرائد الذي سبق الحركة الإسلامية، وسبق الفكر السياسي الإسلامي، بزمان طويل، إمامنا الراحل محمد جلال كشك، قدس الله تعالى روحه في عليين.
وكان كتاب كشك سالف الذكر خير تمهيد ساق المهندس سعد البراك إلى ارتياد عوالم فكر مالك بن نبي، فاستوعبها كأنها كتبت خصيصا من أجله، فأصبح يفكر تفكير إنسانيا عالميا حضاريا.
وهكذا أخرج فكر مالك بن نبي فكر سعد البراك واستنقذه من شرنقة (الإخوان المسلمين)، ولكن لم يكن ذلك بالطبع إلى حد أن لم يتنكر سعد للإخوان، أو ينكر فضائلهم الكثيرة، المتهاطلة كالقطر، وأهمها ما امتازوا به من تربية الجيل على الأخلاق الإسلامية القويمة.
وهنا أذكر ما سمعته من قول لسعد لآخر مرة القيته قبل ثلاثة أعوام عندما دعانا رفيق الدراسة بجامعة أوهايو فضيلة الأخ الحبيب المهندس الشيخ مصطفى الشيخ الأمين(عيدروس) إلى حفل عشاء في داره بالخرطوم، فقال سعد في معرض حديث له ذو عبرة: إنا لا نتحدث عن الإسلام ومبادئه، ولكنا نطبقها عمليا في صمت، لأننا لا نوظف في مؤسستنا إلا أشخاصا مشهود لهم بالأمانة، والاستقامة، والصدق، وعلو الهمة، وإتقان أداء الواجب إلى درجة الإحسان.
ولأن سعدا لم يكن في معرض وعظ أوتبشير، فإنه لم يشأ أن يقول إن مالك بن نبي كان من أوائل من دعوا (ربما سبقه إلى ذلك شيخ الإسلام الإمام محمد عبده) إلى إحياء أخلاق الإسلام الحضارية وتطبيقها في صمت ولو في أضيق نطاق.
من مهاتير إلى سعد:
وقد احتذى بدعوة بن نبي العملية هذه صاحب ماليزيا الدكتور مهاتير الذي بنى تلك الدولة العظيمة التي يفخر بها المسلمون جميعا اهتداء بفكر مالك بن نبي. وقد جاء ذلك ضمن نص أورده البروفسور عثمان أبو زيد عثمان في مقال حديث له.
وهنا أذكر أيضا لسعد البراك دوره في تجهيز بعض إطارات البناء التقني الماليزي من الناحية المفاهيمية، حين كان يتعهدهم بالتوجية والتربية بجامعة أوهايو، التي كانت تستقطب طائفة صالحة من حركييهم الإسلاميين، الذين أرسلهم الدكتور مهاتير محمد في الأفواج الأولى من المبتعثين الماليزيين لاقتباس علوم الغرب، وقد استمعت لسعد ذات نهار وهو يلقي محاضرة معمقة لجمع منهم، في فناء المسجد، ويجيب على أسئلتهم، وكنت أجلس في صف خلفي، جزلا بما أسمع وأرى.
وفجأة دوى صوت سعد الذي كان شيخنا ربيع حسن أحمد يصفه دائما بأنه
Out spoken
وخاطبني قائلا:
ماذا تقول يا محمد إني أراك تهمهم وكأنك تحدث نفسك بشيئ عني؟
ولعله ظن أني كنت على أهبة أن أطلق قفشة عنه، لأني كنت أسخر منه أحيانا، كما كان يسخر مني أحيانا كثيرة، ففاجأته قائلا: إني والله كنت أحدث نفسي وأقول إن هذه إجابات في غاية الجودة، فانفجر ضاحكا من تلك المفاجأة وأضحك معه بقية الندِي.