مفهوم التنمية والاستثمار فى الخراب … بقلم: د. أحمد حموده حامد
1 May, 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم التنمية يعني استغلال الموارد المتاحة – الطبيعية والبشرية – لدفع التقدم الاقتصادي والاجتماعي إلى الأمام, لتحقيق النمو والثراء والرفاهية ولتمكين كل فرد في المجتمع من تحقيق ذاته وإشباع رغباته واستغلال إمكاناته ومواهبه بما يحقق سعادته كانسان. ليس غريبا أن جاءت هذه المعاني في صدر الأهداف في ميثاق الأمم المتحدة التي تبنتها وقامت من أجلها المنظمة الدولية. لكن أن تستغل الموارد الموهوبة في الخراب وتأخير النمو بدلا من دفعه للأمام, فهذا ما يثير ويربك ويدعوا للمراجعة والمساءلة. أنه لشيء غير طبيعي أن يستثمر الناس الموارد التي وهبها إياهم الله الخالق الكريم لنفعهم أن يستثمروها فى الخراب. هذه نظرية تنطبق على أوضاعنا الراهنة في السودان.
مظاهر استغلال موارد البلاد فى الخراب:
الحرب التى دارت زحاها في الجنوب (الحمد لله وقد وضعت الحرب في الجنوب أوزارها) كانت التقديرات تشير إلى أن تكلفة الحرب في الجنوب تقدر بحوالي 2 مليون دولار كل يوم (تقديرات في الثمانينات من القرن الماضي). استمرت هذه الحرب على مدى 21 عاما . لك أن تتصور كم من الثروات أهدرت فى هذه الحرب العبثية. هذا بالإضافة إلى التقديرات التي تشير على أن تكلفة الحرب البشرية حوالي 2 مليون شخص قتلوا, كلهم تقريبا من الفئات العمرية المنتجة – من الشباب الأقوياء المنتجين. يمكننا أن نتصور مدى الضرر الذي لحق بالإنتاج وعملية التنمية بفقدان هذه القوة البشرية المؤثرة في أتون الحرب. أضف إلى ذلك ملايين أخرى من فئات الكبار والنساء والأطفال الذين نزحوا إلى مناطق أخرى آمنة, توقف الإنتاج في ديارهم التي نزحوا منها وأصبحوا هؤلاء النازحون يمثلون فئات ضعيفة هشة يسكنون في مناطق عشوائية أو مخيمات يحتاجون الى العون والرعاية. أصبحت هذه المجموعات ليس فقط غير منتجة, بل أصبحت عالة على المنتجين من أهاليهم, وعلى الدولة وعلى المجتمع الدولي. لإعانتهم على مدى سنين طويلة تحت أوضاع النزوح. وتكون هذه المجموعات قد اكتسبت ما يمكن أن يطلق عليه " ثقافة المخيمات ": عدم العمل, العجز, التواكل والاعتماد على الهبات, بدلا من الاعتماد على النفس.
الحرب فى دار فور:
لا يعلم إلا الله كم من الموارد أهدرت في هذه الحروب إلا أن هناك مؤشرات تعطينا فكرة أن مبالغ ضخمة صرفت في تأجيج الصراع. ذلك لأن المجموعات العرقية التي تسكن إقليم دارفور كانت تعيش في وئام وسلام لقرون عددا, ساعدها في هذا التعايش السلمي أعراف راسخة في بنية المجتمع وتقاليده, يحترمها الناس وقد تواضعوا عليها وعلى الاحترام المتبادل بينهم. أن الانفجار لهذه الفتنة المستطيرة لابد وأن يكون وراءه شيئا خطيرا كان يتم التدبير له والاستثمار فيه في عملية الاستقطاب لتأجيج الفتنة. ويلات الحرب من الدمار والخراب الذي لحق بالإنسان, القرى, والزرع والضرع, وعلاقات الناس. هذه المبالغ لو كانت صرفت في أوجهها المشروعة في التنمية, التعليم. المياه, والصحة وتوفير الغذاء, لما رفع أبناء دار فور السلاح, ولما كان هناك متمردون على سلطة الدولة, ولما كانت هناك حرب لكن للأسف الشديد وجهت هذه الموارد كلها في الخراب والدمار.
الحرب العامة على العناصر الوطنية:
هناك حرب أخرى ليست أقل فداحة لكنها أقل زخما تجري رحاها في المدن والقرى الأرياف تشن على من يسمونهم بالمناوئين والمعارضين والمعوقين تحت مسميات معروفة وملاحقتهم, وفصلهم, وطردهم واذلالهم وكسر هيبتهم وتجفيف منابع أرزاقهم. هؤلاء الذين تشن عليهم الدولة هذه الحرب غير المقدسة هم من العناصر المشهود لها بالوطنية من سياسيين, وأحزاب وطنية وصحفيين, رأسماليين وطنيين, أساتذة جامعات موظفى خدمة مدنية, عسكريين وغيرهم من الوطنيين الذين يمثلون أصول وطنية, يلعبون دورا هاما في عملية التنمية وقيادتها. تكلفة الحرب على هؤلاء تمثل ضربا من الاستثمار المزدوج في الخراب – بإهدار مبالغ طائلة وبنود مفتوحة كانت يمكن أن تذهب إلى التنمية والدفع بها إلى الأمام. كما أن تغييب دور هذه الكوادر الوطنية حرم عملية التنمية من العنصر البشرى الضرورى لقيادتها ومن إسهام هذه العناصر لما لهم من إمكانات وخبرات متراكمة ومقدرات كان يمكن أن تسهم كثيرا في تسريع عملية التنمية.
مشرروعات التنمية الزائفة:
أن تتحدث حكومة الإنقاذ عن مشروعات التنمية التى أقامتها والنمو الاقتصادى المطرد فهو حديث لايعدو أن يكون نوعا من التهريج السياسى المقصود لتعميش الآبصار عن رؤية الحقائق الماثلة. الآموال الضخمة التى صرفت على بناء السدود لانتاج الكهرباء يعلم الكل أنها أموال راحت هدرا حين ترى المدن مظلمة والناس يستجيرون من الحر اللافح باخراج عناقريبهم الى الحوش فى الهواء الطلق بدلا عن انتظار تيار الكهرباء الذى لايأتى أو لأنهم لايستطيعون دفع فاتوزة "الجمرة الخبيثة". كما يعلم المتنفذون من الانقاذيين قبل غيرهم أنهم حين يتحدثون عن آلاف الكيلومترات من الطرق المعبدة أنها تذوب مع السيول فى أول أمطار تغشى المدينة, فتكون هناك آلآف المليارات من أموال المواطنين قد أهدرت, لكنها قطعا وجدت طريقها لحسابات الشركات والمقاولين الذين هم متنفذى الحكومة وكوادرها المنتفعة من هدار الاموال العامة. كما يتحدث مهرجو السلطان عن وفرة السلع فى الأسواق, وماذا يعنى توفر السلع فى الأسواق اذا كان 95% من السودانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر لايستطيعون شراء هذه السلع, بل ينصب كل جهدهم لتأمين الكفاف من لقمة العيش لأسرهم. ان الحديث عن وفرة السلع availability دون الحديث فى المقابل عن القوة الشرائية purchasing power للمواطنين هو نوع من النفاق والغش والتجهيل المتعمد. ثم ان وفرة السلع فى الاسواق دون القدرة الشرائية للسواد الأعظم من المواطنين تعنى من الناحية الاجتماعية مزيدا من تعميق الشرخ والهوة الاجتماعية التى تفصل بين الأغنياء الذين يمتلكون كل شئ وبين الفقراء المعدمين (the haves vs the have-nots) ما يشحن الشعور بالغبن الاجتماعى نتيجة للظلم والحرمان ويزيد من التوتر الطبقى ويهيئ الظروف الموضوعية "لثورة الجياع". تخصص الدولة مايقرب من 80% (77% هذا العام) من الموازنة العامة للانفاق على الأمن والجيش وشراء العتاد الحربى والتصنيع العسكرى على مدى سنى حكم الإنقاذ العجاف. فماجدوى انفاق البلايين من اموال الشعب فى تطوير ترسانة من الأسلحة هى الثالثة على مستوى القارة الافريقية وصنع طائرات من دون طيار بينما تنتهك حرمات الوطن وتقتطع أجزاء عزيزة من ترابه شمالا وشرقا وجنوبا, بينما الأسلحة التى أنفق عليها من مال الشعب توجه لضرب الشعب فى الجنوب والغرب والشرق واستعراض القوة لارهاب المواطنين فى المدن. السودان هو البلد الوحيد من بين أمم الأرض الذى يستثمر ثرواته الوفيرة فى تقتيل وحرمان بنيه وتخريب دياره.
مديونية السودان الخارجية:
مديونية السودان الضخمة التي بلغت 37 مليار دولار, لا يعرف أحد أين ذهبت هذه الأموال التي أستدانتها حكومة السودان من مؤسسات التمويل العالمية. لم ير الإنسان العادي في السودان لهذه الديون أثرا في حياته, لكنه مكبل بدفع استحقاقاتها. الديون التي تمت استدانتها باسم ولأغراض التنمية, أصبحت قيدا ثقيلا يكبل عملية التنمية والإنتاج بسبب استحقاقات أصولها وفوائدها التي ظل المواطن السوداني يرزح تحت وطأتها منذ السبعينيات من القرن الماضي ولا زالت تزداد وتتراكم ويثقل حملها يوما بعد يوم.
تقويض المؤسسات واعادة بنائها:
مؤسسات الدولة التي كانت تقوم على ارث متعارف عليه عالميا, الذي تقوم عليه الدولة الحديثة, تم تفويضها بصورة منهجية منتظمة في عهد الإنقاذ. فمؤسسات الدولة القضائية, والتعليمية, والاقتصادية والخدمية, والخدمة المدنية وحقوق المواطنين في العمل والكسب كلها ثم تقويضها تحت شعارات ايديولوجية ثم بناء مؤسسات موازية تمت قولبتها تحت منهجية معينة اتبعتها الإنقاذ تقوم على الولاء والانتماء, بدلا من أسس الحق والعدالة الاجتماعية وحقوق المواطنة والمساواة بين الناس. هذا الوضع قاد الى تكريس السلطة والقوة والمال لدى الفئات ذات الولاء للسلطة. وأصبح هؤلاء يديرون أمور العباد والبلاد من هذا المنظور الجائر, بقدر كبير من الاستعلاء على عامة الناس وبكثير من الحيف, دون اعتبار لأسس الحق والعدالة ودون مراعاة لآداب اللياقة والاحترام التي عرفها السودانيون. أصبح يتصرف كل مسؤول في دائرته وكأنه نيرون مطلق السلطان وما ذلك إلا لأنه يعلم تمام العلم أنه لا أحد يحاسبه مهما جنح في سلوكه وأشتط وأجحف في حقوق المواطنين. خلق هذا الوضع شعورا عاما بالغبن لدى عامة المواطنين, فمن الناحية السياسية والاجتماعية نلحظ هناك شرخا واضحا في بنية المجتمع بين الموالين للسلطة وغير الموالين لها. إن التقويض المتعمد لمؤسسات الدولة ثم إعادة بنائها فى قالب النهب والانتهازية يعطينا مثالا آخر لمظاهر الاستثمار في الخراب.
الاستثمار في الخراب يضعف العباد والبلاد, وهو قبل هذا وذاك يضعف الحاكم والرعية, وتصبح البلاد نهشا للطامعين. وحينئذ لا يقدر الحاكم ولا تقدر الأمة عن الدفاع بسبب ما أصابها من ضعف ووهن. لماذا إذا يستثمر الناس في الخراب؟ هل ليظلوا في كراسي الحكم, وينفقوا في سبيل ذلك كل ثروات البلاد وحقوق العباد حتى يمسكوا بصولجان السلطان؟ أم يا ترى أنهم يعملون لمصالح قوى خارجية تسعى لامتصاص ثروات البلاد وإضعاف مقدرات الأمة؟ إذا كان الأول, فهذا تفكير تجانبه الحكمة والحصافة, لأن الذي يفكر في البقاء على كراسي الحكم بإضعاف حميته, يكون بذلك قد أضعف دعائم حكمه ويكون كمن يسعى لحتفه بظلفه. حيث لا يجد حمية تحميه حين تدور الدوائر. ولا أظن أن عاقلا يمكن أن يفكر هكذا. مبلغ الظن أن الذين يهدرون موارد أوطانهم في الخراب إنما يفعلون ذلك لمصالح قوى خارجية ذات مصلحة في إضعاف الأمة, وربما يقومون بهذا الدور بوعى أو بغير وعى منهم.
د. أحمد حموده حامد.
30/04/2010 الجمعة
fadl8alla@yahoo.com