مقاربات إدوارد سعيد ، صمويل هانتينغتون، ومحمود محمد شاكر! العلاقات الملتبسة بين الشرق والغرب وأثر ذلك علينا!

 


 

الخضر هارون
21 October, 2021

 

(١-٢)

maqamaat@hotmail.com

كنت قد كتبت مقالة قبل سنوات عديدة، عن غياب مثقفي العالم الثالث عن الساحة الدولية مقارنة بما كان عليه الحال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين بعنوان "مثقفو العالم الثالث.... وين. وين؟!" وجاء العنوان نسجاً علي منوال نشيد الحسناء اللبنانية جوليا بطرس الحماسي تستنهض به الشعوب العربية بعد خفوت صوتها و موات جذوة حماستها في الدفاع عن حقوقها المشروعة: "الشعب العربي وين... وين.. وين الملايين... وين .. وين؟!" أتبعتها بمقالة مشابهة في العام ٢٠١٠ بعنوان " جائزة نوبل ومثقفو العالم الثالث!".
و سبب عودتي مجدداً للبحث في شأن العلاقة بين الشمال الغني المترف (الغرب) والجنوب الفقير (العالم الثالث) الذي كان مستعمراً من قبل ذلك الشمال ، إحساس ربما رغبوي مع ورؤية لي تحتمل الصواب ونقيضه، لبصيص ضوء يلوح في الأفق البعيد كبوارق الغيث المنتظَر: شاهدت كما شاهدتم وشاهد كثيرون شباباً من إفريقيا السمراء يناقشون رئيس فرنسا الحساب بعزة أحرار يؤمنون بكمال إنسانيتهم كبشر كرمهم الله لا ينتقص من تلك الكرامة فقر مدقع ولا سحنات تختلف ومع ذلك يرغبون في التعاون مع إخوانهم في الإنسانية علي الخير لكن علي قدم المساواة وفي كنف الاحترام المتبادل. قالت له حسناء من بوركينا فاسو لقد بلغ عمر الوكالة الفرنسية للتنمية ثمانين عاماً ولم تحدث عندنا تنمية! أين التنمية؟ نحن نريد شراكة حقيقية تقوم علي الندية والمصالح المشتركة لا عطايا وهبات للجياع! وقالت أخري لولا إفريقيا لما كانت فرنسا، أي رفاهيتها وقوتها علي الساحة الدولية. ورسم فنان كاريكتير مغربي ديكا يحمل ألوان علم فرنسا الثلاثة يقتات فقط وينعم بالحياة من رأس القارة الإفريقية التي يعاني أهلها من المسغبة وضيق العيش!
لا أشك في أن مراكز البحوث وأجهزة المخابرات والرصد في الغرب ترصد هذه التحولات في جيل الشباب الإفريقي. أمر آخر أبهجني هو حصول التنزاني عبد الرزاق قرنح علي جائزة نوبل للآداب وبالإضافة لإفريقانية الرجل فهو من أصول عربية إسلامية إذ ينحدر من حضرموت وتلك حوائل كانت تحجب ، مجتمعة، الحصول علي الجائزة. أشارت اللجنة في حيثيات حصوله علي الجائزة بأن سرده في روايته ( برادايس- الفردوس) إ اتسم ب" التعاطف والذي يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات." وتلك حسنة تحسب للجنة وقيل إن روايته لم تتواني كما يفهم من قول اللجنة في قرع الاستعمار قرعاً محكماً جعل بعض البريطانيين يحتجون علي منحه الجائزة! ومؤشرات أخري بأن فرنسا قد اعترفت واعتذرت عن دور لها في الإبادة الجماعية في رواندا وأن ألمانيا قد اعترفت أو قد تعترف بجرائم فظيعة ارتكبتها في مستعمرتها السابقة، ناميبيا.
تري هل نبالغ في التفاؤل بما كان قد أسماه توفيق الحكيم ب "عودة الوعي!" أم نمسك قليلا فنقيض ذلك لا يزال يسعي في القارة بساقين في جرأة لا تعرف الحياء! لكن التفاؤل حسن.
وأورد فيما يلي مقتبساً فيما كتبته عن الجائزة ومثقفي العالم الثالث في العام العاشر من عمر هذه الألفية الثالثة لميلاد السيد المسيح عليه السلام:
"وقد رشح للجائزة لهذا العام الكينى " ناقوجى وا ثيونقو" وهو من طراز من تساءلت قبل أعوام قلائل عن وجودهم فى العالم الثالث يحملون أوجاعه وشكاياته للإنسانية فى مقالة بعنوان " مثقفو العالم الثالث وين....وين؟!" وكنت أشير لكثيرين فى حقبة الحرب الباردة ينافحون ويصارعون، جمعهم الجاحظ كملونين في صعيد واحد وأطلق عليهم، محقاً، اسم السودان، يحثون نظراءهم فى الغرب للتخلص من نظرة الاستعلاء للشعوب الملونة . وقد احتج الطلاب غير البيض في جامعة استانفورد المرموقة فيما أوردته صحيفة التعليم العالي" الأمريكية (ستانفورد تأتي بعد هارفارد في المرتبة الثانية والثالثة أحيانا يسبقها معهد ام آي تي) أواخر القرن العشرين علي مادة إجبارية علي جميع التخصصات تتناول بالتعريف عمالقة الفكر الغربي من لدن سقراط وأرسطو وافلاطون مروراً إلي فلاسفة القرون المتأخرة حتي القرن العشرين وليس بين أولئك ملون واحد. احتج الطلاب علي قصر الاسهام في تطور الفكر الإنساني علي عرق بعينه (الاوروبي) وحده وتجاهل حقيقة أن العديد من الحضارات في وادي النيل والصين والشرق الأوسط والمايا في أمريكا الوسطي قد أسهمت جميعاً فيما بلغته الحضارة الإنسانية المعاصرة وأن إغفال ذلك يعد نوعاً من التحيز الواضح للمركزية الإثنوية الأوروبية. استجابت الجامعة فأضافت إلي القائمة قلائل من أمثال غاندي ومارتن لوثر كينق جونير. وقصر الإسهام في صنع الحضارة علي المرحلة الأخيرة منها، تحيز مقيت يغفل دور الديانات الكبرى في الشرق الأوسط التي شعت بأنوارها من هناك علي ظلام أوروبا و يغفل ما أورثته تلك الديانات من قيم وما خلفته من آثار فلسفية وإبداعية وعلمية لا تنكر وقبل ذلك حضارات بابل وآشور وحضارات وادي النيل في السودان ومصر."

ورغم التقدم الهائل في علم الجينات الذي أكد وحدة النوع الإنساني الجينية، ورغم التطور في عالم الاتصال الذي قارب بين المجتمعات البشرية بما كان لا يخطر علي بال والذي يفترض أنه قد زاد من معرفة الأعراق بعضها ببعض أكثر بالتساكن والتجاور والأسفار وعبر وسائل التواصل المسموعة والمرئية، إلا أن شعبوية قبيحة تطل برأسها في الغرب توشك أن تعيد العنصرية والكراهية الدينية والعرقية. وهذا أمر ينبغي أن تتحسب الله شعوب الدول النامية فلا تزال المواد الأولية التي تقوم عليها الصناعات في الدول المتقدمة، توجد لديها في العالم الثالث وتوشك حاجة العالم المتطور في طور معين وعند مسيس الحاجة أن تبحث عن ذرائع للحصول عليها في سعار العنصرية والكراهية. وحديث الرئيس الفرنسي ووصفه لدولة مهمة كالجزائر بأنها ليست دولة ، شارة انذار حمراء يمكن أن تتبعها مثيلات لها. والتحسب لمنع حدوث ذلك يكون بإسهام المثقفين والحكومات بالتواصل مع الأحرار في الغرب لإعلاء قيم التسامح وفضح مؤامرات الهيمنة وبالعمل الدؤوب علي إصلاح الحال البئيس في عوالمنا .
وهذه المقالة محاولة لسبر أغوار العلاقة المعقدة بين الغرب والشرق بمراجعة ما كتبه إدوارد سعيد وصمويل هانتينغتون ومحمود محمد شاكر في تفسير هذه العلاقة بتشخيص الاستشراق والتحذير من مغبة أن يفضي تفشي الشعبوية والعنصرية والكراهية والاستعلاء مع عجز مجتمعاتنا عن الارتقاء بنفسها، إلي انبعاث الصور السالبة للشرق كله التي تبرر السيطرة عليه. وسنتناول بإيجاز تحذيرات صمويل هانتنقتون للغرب من اصطفاف الشرق ضد الحضارة الغربية متأثرا فيما نري، بثقافة الاستشراق التي يؤكد ادوارد سعيد أنها متجذرة في الغرب. والاستشراق علي نحو ما سنري رغم التعاطي القديم والدائم بين الشرق والغرب ورغم القرب الجغرافي ،وضع لبناته مجمع الكنائس في مدينة ( فيين) Vienne في فرنسا فيما عرف بمجمع فيين في (١٣١١-١٣١٢) الذي قرر إنشاء كراسي لدراسة اللغات العربية والآرامية واليونانية والعبرية في جامعات فرنسا وفي بولونيا في ايطاليا وأكسفورد في انقلترا. تبعده بعد حين، تدفق رجال الدين علي بلدان العالم الإسلامي. يقول إدوارد سعيد إنه وحتي منتصف القرن الثامن عشر كانت غالبية المستشرقين من علماء اللاهوت وتلامذة اللغات السامية والمختصين في الدراسات الإسلامية ، أي أن بؤرة الاهتمام كانت هي العالم الإسلامي. إلا أن اليسوعيين Jesueits (مجموعة تبشيرية في إطار المذهب الكاثوليك) قد وسعوا مفهوم الشرق ليشمل الصين فنشأ مختصون في شأن الصين Sinologists .تدفق المغامرون وكذلك الرحالة علي بلاد العرب والمسلمين والهند والصين وبدأ أولئك جميعاً في تدوين مدونات اختلطت فيها المبالغات والأساطير بالكراهية الدينية والعرقية التي أججت نيرانها الحروب الصليبية من قبل و التي استمرت زهاء قرنين من الزمان و في المقابل جاء احتلال المسلمين لشبه جزيرة آيبريا علي مدي ثمانية قرون ثم احتلال الدولة العثمانية لأجزاء واسعة من أوروبا الشرقية والبلقان وإسقاط عاصمة الإمبراطورية الرومانية المسيحية الشرقية وضمها للدولة العثمانية) استنبول الآن- قسطنطينية، سابقاً) تبعه احتلال الغرب عير الاستعمار لجل بلاد المسلمين في آسيا وإفريقيا ليزداد البغض عمقاً في نفوس الطرفين. والآن ترعب تدفقات المسلمين علي أوروبا وأمريكا بعض الأوربيين وبعض الأمريكيين فيزداد التوجس وبالمثل تريب بلاد المسلمين، تدخلات الغرب الدائمة المباشرة أو عبر المؤسسات الدولية في شؤونهم الداخلية والسعي إلي فرض قيم وممارسات تتصادم مع ميراث وثقافة شعوب هذا الجزء من العالم عبر الترغيب والترهيب. وهكذا يستمر هذا السعار المحموم الذي لا يكاد يدع فرصاً للفهم المتبادل المفضي للاحترام المتبادل الذي تقوم عليه قيم التعايش بين الحضارات والثقافات علي قاعدة(أرغب في أن أعيش وأدع الآخر يعيش) في وئام وسلام وفق ما يتخذ
كل طرف لنفسه من وسائل العيش التي يرتضيها لنفسه.

قال شوقي متحسراً يصور قسوة الاستعمار عند شنق الشيخ السبعيني المجاهد عمر المختار
علي يد المستعمرين الطليان:
ركزوا رفاتك في الرمال لواء يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويحهم ركزوا منارا من دم يوحي إلي جيل الغد البغضاء
ما ضر لو جعلوا العلاقة في غد بين الشعوب مودة وإخاء

لكنهم اختاروا ما يحي تلك البغضاء في النفوس كلما سنحت السوانح . في أم درمان حصدت مدافع المكسيم نحو عشرة آلاف قتيل من السودانيين في جبل كرري في ساعة أو ساعات قليلة ونبش اللورد( المتحضر) كتشنر رفات الإمام المهدي فاستبشعت ملكة بلاده تلك الفعلة بقولها فيما رواه آلان مورهيد ": هذا فعل من العصور المظلمة!" رغم أنها ابتهجت بنصره في كرري بالقول " لقد أُقتص له" تعني أن كتشنر قد انتقم لمقتل غردون وهو عين ما قاله وينستون تشرشل الذي جاء مراسلاً حربياً مع الجيش الغازي، فيما معناه، وإن كان ما قاله يستبطن الاعتراف بشجاعة السودانيين: لقد قتلناهم ولم ننتصر عليهم! وتشتم من ذلك كله رائحة الدم والانتقام لكبرياء الإمبراطورية الجريح. ولعل بعض ذلك مما جعل مورهيد يعنون للباب الرابع في "النيل الأبيض" واصفاً سقوط دولة المهدية ب "انتصار المسيحية"!
حقاً ما ضر لو جعلوا العلاقة بين الشعوب مودة وإخاء. ذلك النبل يحدث بقناعة لا يطرقها الشك ولا يتطرق إليها، بأن البشر متساوون في الإنسانية كأسنان المشط لا يميز بينهم لون ولا جهة. لكن ذلك يظل في زمرة الأماني العذبة العصية علي التحقق، تحول دون تحقيقها ذرائع واهية بغرض التسلط ونهب الثروات.
تأمل بأدناه كيف يبرر الإنقليزي مارلو ، أحد شخصيات، رواية الروائي جوزيف لونار (انقليزي من أصل بولندي توفي في ١٩٢٤ ) التي عنوانها " قلب الظُلمة" ،استعمار الشعوب المختلفة عن الشعوب الأوروبية بالقول:
" إن الفتح يعني في معظم الأحيان أخذ الأرض من أولئك الذين تختلف ألوان بشرتهم عن ألوان بشرتنا وتحمل وجوههم أنوفاً فطساً قليلا بالمقارنة مع أنوفنا، ليس فيها ذات الشمم. ذلك ليس عملاً منصفاً وجميلاً إذا أمعنت النظر فيه، لكن الذي يجعلها مقبولة هي الفكرة من ورائها، مجرد الفكرة وليس مجرد إحساس عاطفي زائف، لكنها الفكرة من ورائها وليس مجرد اعتقاد أناني. شيء تقيمه أنت وتنحني إجلالاً له وتضحي من أجله...."يبرر حكم الامبريالية لأولئك المختلفين الذين ذكرهم ربما جعلهم الاستعمار بشراً!
ورغم أن ما ورد جاء علي لسان أحد شخصيات الرواية والتي احتفي بها النقاد باعتبارها نقداً للاستعمار، سيما وأن المؤلف من أصل بولندي وأن بلاده نفسها قد خضعت للاستعمار، إلا أن المثقف النيجيري( شينوا آبشي) اعتبر الرواية في جملتها مسيئة للإنسان الإفريقي. وقد اقتبس العبارة
إدوارد سعيد في مقدمة الفصل الثالث من كتابه "الاستشراق في الفصل المعنون ب " الاستشراق حالياً أو الآنOrientalism Now
باعتبارها تعبر عن نظرة الأوروبي للآخر المختلف خَلقاً، لوناً وقسمات!
.

 

آراء