مقاربة حول مآلات واقع الحال !!

 


 

 

 

 

(القديم يحتضر والجديد لا يستطيع ان يولد بعد ، وفي هذا الفاصل تظهر أعراض مرضية كثيرة وعظيمة في تنوعها)
حينما اطلق المفكر الإيطالي انطونيو غرامشي تلك المقولة الملهمة الخالدة كانت إيطاليا تئن تحت وطأة الفاشية ، وكان قادرا بعبقريته النافذة النفاد الي آفاق المستقبل وان يقرأ راهن كفاح متناثر وآمال وسجون وآلة قمع تحاول جاهدة كبح جماح التغيير ولكن الظرف الثوري المتنامي يمنح القدرة لتفكيك ذلك الواقع الذي تتجلي فيه الكثير من الأعراض التي قد تنجم من آلية التغيير وأزمتها (الميكانيكية) الداخلية او الخارجية او حتي تلك المعضلات الموروثة من الماضي .
ورغم اختلاف الزمان والمكان وإبداعات العقل البشري وإنتاجه المادي والروحي الا اننا نستطيع ان نتكئ علي مقاربة تتيحها لنا تلك المقولة ونسترخي آمنين ونحن نحاول تفكيك لحظتنا التاريخية التي يمثلها قديم (اجتماعي وسياسي واقتصادي ) تحتشد بداخله كل التفاصيل المختلفة واراه الان يحتضر تحت ضربات ثورة ديسمبر ، وجديد يراوح بين الموت والحياة علي يدي قابلة تعوزها (الأدوات) وربما احترافية الطاقم في غرفة خانقة تزدحم ب (الوصفات ) غير التجريبية .
تركت الثلاثون عاما الماضية آثارها السالبة في البنية الاجتماعية السودانية ،فقد كان استهداف المجتمع من الأولويات القصوى لسلطة الهوس والاستبداد ، كان لعاب السلطة يسيل وهي تنشئ وزارة الشئون الاجتماعية وتعهد بها لاحد منظريها وقادتها غير السريين (علي عثمان محمد طه ) اذ ان ذلك المجتمع وفق تركيبته التاريخية وبكل اطيافه النوعية ومفاهيمه القائمة والموروثة لا ينال رضاء تلك العصبة ثم ان تحييده او تشويهه ، وقمع النمو الطبيعي لذلك المجتمع يشكل حجر الأساس لإنجاز مهمتهم التاريخية في إقامة النموذج المتخيل لديهم .
لذلك كانت طغمة الاستبداد تتباهي كثيرا سرا وعلانية بانها قد انجزت (الانقلاب الاجتماعي) وأنها ابدعت مجتمعا وشكلته كما يفعل الحداد (بنيران الكير )و آلة(المرذبة ) متجاهلة تماما ان ما تتعامل معه طاقة بشرية وليس معدن ساكن ومن المستحيل تشكيله بتلك الطريقة القصدية التي لا تجيد قراءة كتاب ذلك المجتمع .
ربما لحد ما استطاعت ان تشكل فئات اجتماعية استجابت لمشروعهم وهي في الأصل تمتلك الاستعداد لتلك الاستجابة نتيجة لهشاشة التكوين المعرفي او ضمور البنية الثقافية ، او غيرها من العوامل التي لا يمكن إجمالها في هذه العجالة ولكنها عجزت تماما في صياغة مجتمع يستجيب لفكرها المتورم .
اما الحقل السياسي فقد تمثل في محاولة إعدام كل الحراك السياسي بآلة القهر التي لا تبقي ولا تذر، وحل التنظيمات السياسية ،ومنظمات المجتمع المدني ،وتصفية (الأحزاب)، وفتح الباب لحلفائم من مشارق الارض ومغاربها والشروع في بناء دولة متوهمة تمتد من (C) الي (C)اي من CairoالىCape Town كما صورته أناشيدهم المريضة وكخطوة اولي لاكتساح العالم (ونفوق العالم اجمع) في تلك النزوات النابعة من الهيمنة والاستيلاء وإعادة الفتوحات الغابرة . غير ان تلك الصيغة الاحادية تتنافي تماما وذلك التراكم المعرفي والنضالي والنزوع نحو الحرية الذي طبع الحياة السياسية السودانية منذ بزوغ فجر الدولة السودانية والذي ظل يراوح بين مد وجزر في سعيه نحو الديمقراطية والتداول السلس والسلمي للسلطة.
اما اقتصاديا فقد انتهج ذلك النظام المأفون الانقاذي تمكين الحزب وإفقار الدولة والإنسان واتاح لمنسوبيه وفق قوانين جائرة احكام سيطرتهم علي الأنشطة الاقتصادية من مصارف وتجارة داخلية وخارجية و تصفية القطاع العام لصالح أفراد التنظيم والشركات متعددة الأنشطة ، وتقنين الفساد حتي اصبح الفساد الاقتصادي حالة سودانية خالصة تتمثل في تقارير رصد دوائر الشفافية العالمية، وأصبح السودان مستنقع آمن لعمليات غسيل الأموال ومافيات الاقتصاد العالمية الذين اصبحوا شركاء لزبانية النظام وأركانه .
كان كل ذلك مصحوبا بتشريد العاملين تحت مسميات مختلفة، الصالح العام او تصفية القطاع العام والاستغناء ، وغيرها من المسميات التي خلقت طبقات طفيلية مساندة للنظام وأصبحت تروسا تمكن عجلة النظام في ان تدور ، وان تخلق وبالمقابل ملايين الفقراء والعاطلين عن العمل ، وكنتونات للفقراء تحيط بمدن الإقطاع المدججة بفقه الضرورة وسلاح تغييب الوعي .
وهكذا تم انتاج تلك الطبقات الفقيرة والمنبوذة والمعطلة قسرا عن عملية البناء وهي تنتظر علي هامش التاريخ وعلي استعداد لاقتناص اللحظة التاريخية المناسبة لاستعادة ذاتها المنهوبة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا .
وبتبسيط آمل الا يكون مخلا نحن الان في مركزية تلك المقولة التي قال بها انطونيو غرامشي، واعتقد انه ليس من العقل ان لا نطلق رصاصات هي ليست للرحمة علي ذلك القديم الذي يحتضر ،كما انه ليس من الإيجابية انتظارنا خارج غرفة الولادة ،ونحن نري ذلك العسر البائن ونندب حظنا ،دون صيحات علي الأقل تعمل علي تسريع الطلق لدي تلك الام الوطن المسجاة علي قارعة تاريخنا الوطني .
تبدو المهمة شاقة ولكنها ليست مستحيلة في هذا الفاصل الذي يعج بالأعراض المرضية التي خلفها نظام سياسي سرق ثلاثون عاما من عمرنا ، وهو يحاول ان يسرق المزيد .
كما علينا ان نقر ونجزم ان ذلك المولود الديسمبري هو من لحمنا ودمنا ، وأنه من صلب معاناتنا واشواقنا ، وبشهادة تلك الليلة المطيرة العاصفة التي هي لحظة التكوين الأولي (ليلة فض الاعتصام ).

musahak@hotmail.com

 

آراء