( المنايا على البلايا ) مثلٌ يقال عن القوم الرديئة أحوالهم، الشديدة شوكتهم. والبليّة: الناقة يُغطَى وجهها، وتُشدّ على قبر صاحبها إذا مات، لا تُسقى ولا تُعلّف حتى تموت، وكانوا يقولون إذا فعلوا ذلك: يركبها صاحبها في عرصة القيامة.
(1) ولعل ثمرة هذه الأقصوصة والعِبر التي نأخذها منها، أن الإخوان المسلمين في حاضرنا، نهضوا من بعد أن ألغى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية عام 1924، أي في عام 1928 على يد المصري حسن البنا، ليؤسس للحركة التي وإلى تاريخ اليوم، تروّج لعودة الخلافة في باطن الدعوة، وظاهرها إن تمّتْ لها أقدار الظهور، كما هو الحال في السودان. ترفع القرآن على أسنّة الرماح. وهو خلط بيّن يربط العقيدة بنظام الحكم. وتصبح العقيدة مطيّة يركبها الراغبون في السلطة بأي ثمن، رغم أن العقائد اليوم هي من الحريات الإنسانية، ومن غير المشروع أن تعبئ جماهير ديّن مُحدد، ليكون هدفاً ضمن بنود حزب سياسي يهدف السلطة.
(2) لعل مقتل مالك بن نويرة، يشبه شيئاً من الزبد الذي طفح على نهر الحكم، بعد بيعة الخلافة للصحابي أبي بكر الصدّيق، عند استقامته ليحتّل مكانه بين الناس. في خلافة انعقدت لها سقيفة بني ساعدة مكاناً، واشتدّ فيها الحوار والتنافس، بل الخناق والشجّار بين زعماء الأنصار وزعماء المهاجرين. لم يتحدث الذكر الحكيم عن الخلافة. وجاء بها المسلمون لتسوس العلاقة بينهم في قضايا دنياهم قبل أن يوارى النبي الأكرم الثرى. ثم كانت الحروب على المارقين عن السلطة الجديدة، بدعوى أنهم قد ارتدّوا عن الإسلام، إن ارتدّوا بحق أو بغيره. لم يكونوا كلهم ارتدّوا عن الدّين، فبطل أقصوصتنا لم يرتّد. * إن رسالة النبي الأكرم، ما هي إلا رسالة روحيّة ليس فيها إلا البلاغ، لوجود آيات متضافرة على أن عمله الديني لم يتجاوز حدود البلاغ المجرّد من كل معاني السلطان. فهي رسالة لا تتضمن سلطة حكم، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم، رسولاً لدعوة دينية خالصة للدّين، لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة، وإنما أحدث ذلك المسلمون من بعده، وكانت الحكومة التي أقامها الصحابة من بعده حكومة دنيوية ليست من الدّين في شيء.
(3) حمل لقب الردّة جماعة من العرب والمسلمين، على ألا ينقادوا لإمارة أبي بكر انقياداً دينياً، كانقيادهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وألا يرعوا مقامه الملوكي بما يجب أن يرعوا به كل ما يمسّ دينهم. ورد في صحيح البخاري أن أبابكر الصديق قال: ( و الله لو منعونى عقالاً كانوا يؤدّونه لرسول الله صلى الله عليه و سلم، لقاتلتهم عليه ). لذلك كان الخروج على أبي بكر في رأي المحاربين في صف أبي بكر الصدّيق، حرب منْ خرجوا عن سلطة الخليفة، خروجاً على الدين، وارتدّاداً عن الإسلام. وذلك التباس بين سلطة الدنيا وسلطة الدّين. جرى فيها استقطاب العقيدة لنُصرة السلطة السياسية. والراجح عندنا أن ذلك هو منشأ قولهم: إن الذين رفضوا إطاعة أبي بكر كانوا مرتدّين، وتسميتهم حروب أبي بكر بحروب الردّة، وانطلت التسمية على الجميع. * لعل جميعهم لم يكونوا في الواقع مرتدّين، كفروا بالله ورسوله، بل كان فيهم من بقي على إسلامه، ولكنه رفض أن ينضم إلى وحدة أبي بكر السياسية، لسبب ما. من غير أن يرى في ذلك حرجاً عليه، ولا غضاضة في دينه. وما كان هؤلاء من غير شك مرتدّين، وما كانت محاربتهم لتكون باسم الدين. فإن كان ولا بد من حربهم، فإنما هي لضرورات السياسة، والدفاع عن وحدة العرب، والذود عن دولتهم الجديدة. وقد استُخدمت العقيدة مطيّة لسلطة الخلافة، والتبس الأمر واختلط .
(4) وقد وجدنا أن بعض من رفض بيعة أبي بكر، بعد أن تمت له البيعة من المسلمين، كعلي بن أبي طالب، وسعد بن عبادة، لم يعاملا معاملة المرتدّين. ولا قيل ذلك عنهم. ولعل بعض أولئك الذين حاربهم أبوبكر لأنهم رفضوا أن يؤدوا إليه الزكاة، لم يكونوا يريدون بذلك أن يرفضوا الدّين، وأن يكفروا به، ولكنهم رفضوا الإذعان لحكومة أبي بكر، كما رفض غيرهم من جلّة المسلمين، فكان بديهياً أن يمنعوا الزكاة عنه، لأنهم لا يعترفون به، ولا يخضعون لسلطانه وحكومته. * كما نشعر بظلامة التاريخ وظلامه، كلما حاولنا أن نبحث بجد فيما رواه لنا التاريخ، عن أولئك الذين خرجوا على أبي بكر الصدّيق، فلُقبوا بالمرتدّين، وعن حروبهم تلك التي لقبوها حروب الردّة. ولكن قبساً من نور الحقيقة، لا يزال ينبعث من بين ظلمات التاريخ، وسيتجه العلماء نحو ذلك القبس، وعسى أن يجدوا في لُجة تلك النار هدى.
(5) عن سهل عن القاسم وعمرو بن شعيب قالا: لما أراد "خالد بن الوليد" السير، خرج من "ظفر"، وقد استبرأ أسداً وغطفان وطيّئاً، وهوازن، فسار يريد "البطاح:" دون الحزن، وعليها "مالك بن نويرة"، وقد تردد عليه أمره، وقد ترددت الأنصار على "خالد" وتخلّفت عنه. وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا، إن الخليفة عهد إلينا إن نحن فرغنا من "البزاخة" واستبرأنا بلاد قوم أن نقيم حتى يكتب إلينا. فقال" خالد": إن يك عهد إليكم هذا، فقد عهد إليّ أن أمضي، وأنا الأمير وإلى أن تنتهي الأخبار. ولو أنه لم يأتني له كتاب ولا أمر، ثم رأيت فرصة فكنت إن أعلمته فاتني لم أعلمه حتى أنتهزها كذلك، لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه، لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا، ثم نعمل به، وهذا "مالك بن نويرة "بحيالنا، وأنا قاصد إليه، ومن معي من المهاجرين والتابعين بإحسان، ولست أكرهكم. ومضى "خالد". وندمتْ الأنصار وتذامروا، وقالوا: إن أصاب القوم خيراً إنه لخير حرمتموه، وإن أصابتهم مصيبة ليجتنبكم الناس. فأجمعوا اللحاق بخالد وجرّدوا إليه رسولاً، فأقام عليهم حتى لحقوا به، ثم سار حتى قدم "البطاح" فلم يجد به أحداً.
(6) عن خزيمة بن شجرة العقفاني، عن عثمان بن سويد عن سويد بن المثعبة الرياحي، قال: قدم "خالد بن الوليد" "البطاح"، فلم يجد عليه أحداً، ووجد مالكاً قد فرّقهم في أموالهم ونهاهم عن الاجتماع حين تردّد عليه أمره، وقال: يا بني يربوع، إنا كنا عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدّين، وبطأنا الناس عنهم فلم نفلح، ولم ننجّح، وإني قد نظرت في هذا الأمر، فوجدت الأمر يأتي لهم بغير سياسة، وإذا الأمر لا يسوسه الناس، فإياكم ومناواة قوم صنع لهم، فتفرقوا إلى دياركم وادخلوا في هذا الأمر. فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم، وخرج "مالك" ورجع إلى منزله.
(7) ولما قدم "خالد" "البطاح" بثّ السرايا وأمرهم بداعية الإسلام أن يأتوه بكل منْ لم يجب، وإن امتنع أن يقتلوه، وكان مما أوصى به أبوبكر: إذا نزلتم منزلاً فأذّنوا وأقيموا، فإن أذّن القوم وأقاموا كفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة، واقتلوهم كل قتلة، الحرق فما سواه. وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلهم، (فإن أقرّوا بالزكاة فاقبلوا منهم، وإن أبوها فلا شيء إلا الغارة، ولا كلمة). فجاءته الخيل بـ "مالك بن نويرة" في نفر من بني ثعلبة بن يربوع، من عاصم وعبيد وعرين وجعفر. فاختلفت السرية فيهم، وفيهم أبو قتادة؛ فكان فيمن شهد أنهم قد أذّنوا وأقاموا الصلاة وصلّوا. فلما اختلفوا فيهم، أمر بهم "خالد بن الوليد" فحُبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء؛ وجعلت تزداد برداً، فأمر خالد مُنادياً فنادى " أدفئوا أسراكم ". وكانت في لغة كنانة إذا قالوا: دثروا الرجل فأدفئوه، وفي لغة غيرهم أدفِه فاقتله، فظن القوم – وهي في لغتهم القتل – أنه أراد القتل، فقتلوهم، فقتل "ضرار بن الأوز" "مالكاً". وسمع "خالد "الواعية، فخرج وقد فرغوا منهم. فقال: إذا أراد الله أمراً أصابه.
(8) وقد اختلف القوم فيهم، فقال أبو قتادة: هذا عملك، فزبره "خالد". فغضب ومضى، حتى أتى أبابكر ، فغضب عليه أبوبكر حتى كلمه عمر فيه. فلم يرض إلا أن يرجع إليه، فرجع معه حتى قدم المدينة. وتزوّج خالد أم تميم ابنة "المنهال"، وتركها لينقضي طهرها. وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعاير منْ يفعل، وقال "عمر بن الخطاب " لأبي بكر: إن في سيف "خالد" رهقاً. فإن لم يكن هذا حقاً، حقّ عليه أن تقيّده. وأكثر عليه في ذلك، وكان "أبوبكر" لا يقيّد عمالّه ولا وزعته، فقال "أبوبكر": هيه يا عمر ! تأوّل فأخطأ، فارفع لسانك عن "خالد". وكتب إلى "خالد" أن يقدم عليه، ففعل، فأخبره خبره، فعذره. وعنّفه في التزويج الذي كانت تعيب عليه العرب من ذلك.
(9) وكتب "هشام بن عروة"، عن أبيه، قال: شهد قوم من السرية أنهم أذّنوا وأقاموا وصلوا، ففعلوا مثل ذلك. وشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شيء، فقُتلوا. وقدم أخوه "متمم بن نويرة"، ينشد أبابكر دمه، ويطلب إليه في سبيّهم، فكتب له "أبوبكر" برد السّبي؛ وألحّ عليه "عمر" في "خالد" أن يعزله، وقال: إن في سيفه رهقاً. فقال: لا يا "عمر"؛ لم أكن لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين. * كتب خزيمة، عن عثمان، عن سويد قال: كان "مالك بن نويرة"، من أكثر الناس شَعراً؛ وأن أهل المعسكر أثفوا برؤوسهم القدور(توضع القدر عندما توقد عليها النار للطبخ فوق حجرين متقابلين، ومن خلفهما حجر ثالث، والأثفية بضم الهمزة وكسرها وكسر الفاء، وهي الحجر الثالث توضع فيه القدر والجمع أثافي، ومنه رماه الله بثالثة الأثافي). فما منهم رأس إلا وصلت النار إلى بشرته ما خلا "مالكاً"، فإن القِدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شَعره، وقَى الشَعر البشرة حرّها أن يبلغ منه ذلك. وأنشدهم "متمم" ؛ وذكر خمصه؛ وقد كان "عمر" رأى مقدمه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أكذاك يا "متمم" كان! قال: أمّا ما أعني. فنعم. * وتلك الأقصوصة ، توضح أن مقتل " مالك بن نويرة " وأصحابه، ليس خطأ تأويل كما علل "خالد بن الوليد "السبب للخليفة أبا بكر الصديق. وامتد قصداً، حتى تمّ استخدام رءوس القتلى مثبتات لقدور الطبخ ( الأثافي) للقوم !.
(10) تحدث "طلحة بن عبدالله بن عبد الرحمن بن أبوبكر الصديق؛ أن أبابكر كان من عهده إلى جيوشه: أن إذا غشيتم داراً من دور الناس، فسمعتم فيها أذان للصلاة، فامسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ما الذي نقموا ! وإن لم تسمعوا أذاناً، فشنّوا الغارة، فاقتلوهم وحرِّقوا. * وكان ممن شهد لمالك بالإسلام "أبو قتادة الحارث بن ربعي" أخو بني سلمة، وقد كان عاهد الله ألا يشهد مع "خالد" حرباً أبداً بعدها؛ وكان يحدّث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل، فأخذ القوم السلاح. قال: فقلنا: إنا المسلمون، فقالوا: ونحن المسلمون، قلنا: فما بال السلاح معكم ؟، قلنا: فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح، قال: فوضعوها، ثم صلّينا وصلّوا. وكان "خالد" يعتذر في أنه قال له وهو يراجعه: ما إخال صاحبكم إلا وقد كان يقول كذا وكذا. قال: أوَ ما تعدّه لك صاحباً !، ثم قدّمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه. فلما بلغ قتلهم "عمر بن الخطاب"، تكلّم فيه عند "أبي بكر" فأكثر، وقال: عدو الله عَدا على مسلم فقتله، ثم نزا على امرأته!
(11) وأقبل "خالد بن الوليد" قافلاً حتى دخل المسجد، وعليه قباءٌ له عليه صدأ الحديد، معتجراً بعمامة له، وقد غرز في عمامته أسهماً. فلما أن دخل المسجد، قام "عمر بن الخطاب" فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها، ثم قال: أرئاء ! قتلت امراً مسلماً، ثم نزوت على امراته! والله لأرجمنّك بأحجارك. ولا يكلّمه "خالد بن الوليد"، ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه. حتى دخل على "أبي بكر"، فلما أن دخل عليه أخبره الخبر، واعتذر إليه، فعذره "أبوبكر الصدّيق"، وتجاوز عنه ما كان في حربه تلك. قال: فخرج "خالد" حين رضي عنه "أبوبكر"، و"عمر" جالس في المسجد، فقال "خالد" لـ "عمر بن الخطاب": هلم إليّ يا ابن أم شملة! ( يهزأ به ). قال: فعرف "عمر" أن "أبا بكر" قد رضي عنه، فلم يكلمه ودخل بيته. * وعندما تولى الصحابي "عمر بن الخطاب" الخلافة ، قام بعزل "خالد بن الوليد" من جيوش "الشام" ، وعيّن الصحابي "أبو عبيدة بن الجراح"، قائداً للجيش، على أن يقتسم معه مال "خالد بن الوليد". تلك يراها كثيرون جزء من آثار قتل " مالك بن نويرة". المراجع: - تاريخ الطبري، لابي جعفر محمد بن جرير الطبري. - الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرازق. - عبقرية عمر، لمحمود عباس العقاد.