مقدمة للطبعة الثانية لكتاب تاريخ النوبة الاقتصادي الاجتماعي

 


 

 

صدرت الطبعة الأولي لكتاب " تاريخ النوبة الاقتصادي – الاجتماعي" ، للمؤلف تاج السر عثمان الحاج، عن دار عزة للنشر، فبراير 2003م ، الذي كان الهدف منه تكثيف الدراسة حول التركيبة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لفترة ممالك النوبة المسيحية في العصور الوسطي التي شكلت حلقة مهمة في سلسلة تطور تاريخ السودان.
منذ صدور الطبعة الأولي جرت مياه كثيرة تحت الجسر ، وبهذه المناسبة أشكر كل الباحثين والمؤرخين والمهتمين بتاريخ النوبة والقراء الذين ابدوا ملاحظات قيمة بما فيها الأخطاء المطبعية التى كانت مفيدة بالنسبة لي وأخذتها في الاعتبار مثل: المرحوم الصديق د. اسامة عبد الرحمن النور الذي أشاد بالجهد الذي بُذل ، وأمدني مشكورا بمستجدات في تاريخ النوبة المسيحية بعد الأبحاث التي تمت إثناء حملة لأنقاذ آثار النوبة بعد قيام السد العالي في الستنيات من القرن الماضي.
فما زالت فترة النوبة المسيحية وخصوصيتها ميدانا خصبا للدراسة ، وتشد انظار الباحثين والمؤرخين والمهتمين و تحتاج للمزيد من سبر غورها ، علي سبيل المثال: اشار وليم آدمز مؤلف كتاب " النوبة رواق افريقيا" في مقال له عن الأمم النوبية الي الآتي :
" وثمة تقدم آخر أحرزته الأمم النوبية في القرون الوسطي ابعد من القبائلية والأمبريالية علي حد سواء ، فقد حققت اقصي حد من الفصل بين الكنيسة والدولة بقدر لم يتوفر لأي أمة قبل العصر الحديث ، فقد كان أمر تعيين الموظفين المدنيين ، وتحديد مسؤولياتهم من اختصاص الملوك القائمين ، علي حين كان الهرم الكنسي بمجمله معينا من قبل بابا الأقباط بالاسكندرية وخاضعا لمساءلته، واذا سلمنا بصدق الوثائق العديدة التي تم الكشف عنها في قصر أبريم ، نوقن بأنه لم يكن هناك تداخل علي الاطلاق بين البناءين البروقراطيين ، وقد حدث هذا في زمن كانت البلاد الإسلامية المجاورة تخضع لحكم الخلفاء ثيوقراطيين، مع وجود تشابك وتداخل شديدين بين سلطات الكتيسة والدولة في كل الامبراطورية البيزنطية ، وعلي الرغم من الفصل التام الذي كان قائما بين هذه السلطات في اوربا الغربية ، حيث الرومان الكاثوليك ، فان مهام تعيين رجال الدين من اساقفة وقساوسة كانت في ايدي الملوك وليس البابا".
كما واصلت اطلاعي وتابعت المستجدات والأبحاث التي جرت في تاريخ النوبة المسيحية، علي سبيل المثال لا الحصر : اطلعت علي مؤلف د. أحمد المعتصم الشيخ " مملكة الأبواب المسيحية وزمن العنج" الصادر عن مركز الدراسات السودانية ، القاهرة 2002م، الذي سلط الضوء علي مملكة الأبواب المسيحية ، وأسباب ازدهارها، والطرق التجارية ، كما تحدث عن زمن العنج ومكانهم وبداية زمنهم ، وعلاقة العنج بمملكة الأبواب ونظام الحكم عند العنج ، والمؤسسة الدينية والعنج ، ونهاية زمنهم.
كما رجح أن الأبواب تقع في المنطقة بين الشلالين الرابع والخامس ، وتابع تطورها ( الهوّية السياسية) وأشار الي أنها : كانت موضعا في زمن اليعقوبي (ت 897م) ، ثم ولاية تابعة لعلوة في زمن ابن سليم (ت 996م)، وتطورت هذه الولاية الي مملكة ذاتية شبه مستقلة في أواخر العهد المسيحي ، وبحكم طبيعتها الأمنية وحمايتها الطبيعية برزت كملجأ لأعداد كبيرة من اللاجئين المسيحيين من منطقة دنقلا في تلك الفترة المضطربة التي احدثها الغزو المتكرر للمماليك ، كما حلت مملكة الأبواب محل مملكة دنقلا في التجارة الخارجية ، كما شهدت الازدهار في آواخر الفترة المسيحية وعلي حساب مدينة دنقلا.
ومن ناحية أخرى نجد دلائل تشير الي أن مملكة الأبواب استمرت لفترة ما بعد اسلام دنقلا ، وحافظت علي مسيحيتها حتى ظهور عنصر جديد عُرف في التراث المحلي باسم العنج ( ص38).
وهو كتاب مفيد سلط الضوء علي جانب مهم في تاريخ النوبة المسيحية وهو الأبواب المسيحية التي ورد ذكرها كثيرا في مؤلفات الرحالة العرب في العصور الوسطي ، وكتاباتهم عن ممالك النوبة المسيحية.
كما ظهرت مؤلفات سلطت الضوء علي الفترة الغامضة بعد زوال مملكة مروي ( 350 م – 550م) التي اطلق عليها علماء الآثار فترة المجموعة الثقافية (*) ، وهي فترة غير واضحة المعالم فيما يتعلق بملكية الأرض ، لكن اتضح من الآثار أن سكان تلك الفترة، مارسوا الزراعة والرعي بوصفهما حرفة رئيسية ، كما أنهم استطاعوا أن يدخلوا تعديلات في تقنية الساقية لتناسب ظروف وأوضاع السودان، وكان للساقية أثر في زيادة محصولات الموسم الصيفي ( ذروة ، دخن، )، كما دخلت زراعة القطن وتصديره مصنوعا الي مصر ، هذا اضافة لصناعة قواديس السواقي، واصل سكان تلك المجموعة صناعة الحديد ، وصنعوا منه كما في الآثار أدوات الإنتاج الزراعي (طورية، منجل، نجامة. الخ)
فقد بدأت الابحاث والمؤلفات في سبر غور تلك الفترة مثل: مؤلف د. محمد مهدي ادريس بعنوان " شذرات من تاريخ المجتمع والثقافة في بلاد النوبة في الفترة ما بعد المروية ( 350 م- 550م)، شركة مطابع السودان للعملة المحدودة 2018، والذي أهداني نسخة منه مشكور، وهو جهد مقدر في فك طلاسم تلك الفترة .
تابع المؤلف في فصول الكتاب: بنية بلاد النوبة ومصادر تاريخها ، نهاية مملكة مروي وسيطرة النوبة، اضواء علي المجتمعات الحضرية والريفية البدوية ، الدين واللغة أسا الثقافة، عادات الدفن صدى للمجتمع وثقافته، ضروب من الثقافة المادية.
لكن مايهمنا ماجاء في الكتاب : أن النوبة في تلك الفترة واصلوا في انشطتهم الاقتصادية باعتمادهم بصفة رئيسية علي الزراعة وتربية الحيوان ، ولعبت التجارة الخارجية – خاصة مع مصر- دورا مهما في تشكيل بنية مجتمع النوبة السفلي (ص 136)
أما عن ملكية الأرض وعلاقات الإنتاج، فقد أشار المؤلف الي: وثيقة الجبلين المودعة في المتحف المصري تحت الرقم (10.760) التي تفيد بأن الملك البليمي" خاراخن " منح أبنائه الثلاثة "خاراخن" و"خاراباتخر" و"خاراهيت" جزيرة "تاناري" لينتفعوا من ريعها ، وأن ماورد في تلك الوثيقة بشأن ملكية الجزيرة والاستفادة منها ربما يشير إلي اتصاف مجتمع النوبة السفلي ببعض خصائص المجتمع الاقطاعي، فالأرض في هذا النموذج مملوكة للملك الذي كان يمنحها للأمراء والأعيان ، ويُفهم ضمنا أن من يسكنها يقوم بزراعتها وحصادها لصالح ملاكها الجدد ، نظير الانتفاع ببعض ريعها" (ص 140) .
وفي نهاية تلك الفترة نسمع عن ظهور ممالك ثلاث قامت هي : مملكة نوباديا ( نوباطيا)، المقرة وعلوة ، تلك الممالك التي اصبحت مسيحية فيما بعد ، والتي يبدأ منها تاريخ السودا ن الوسيط.
واصلت تلك المالك في نشاطها الاقتصادي الاعتماد علي الزراعة وواصلوا في استخدام الساقية، وعرفوا ثلاث دورات زراعية بعد استخدام السماد ، اضافة لتربية الحيوانات والتجارة الخارجية مع مصر وغيرها ، والصناعات الحرفية ، وعرفوا المدن التجارية والصناعية والثقافية مثل: (فرس، دنقلا، سوبا، ابريم ، وداي العلاقي. الخ) كنتاج لتطور الزراعة وتربية الحيوانات والتجارة والصناعة الحرفية.
وأخيرا، لا شك أن تلك الفترة المهمة من تاريخ السودان في العصور الوسطي ، ما زالت تحتاج للمزيد من تسليط الضوء عليها ، باعتبار أن حضارة النوبة المسيحية، ما زال لها بصماتها في عادات وتقاليد السودانيين ، مما يؤكد استمرارارية الثقافة السودانية بشقيها المادي والفكري ، مما يتطلب الانتقال من العام الي الخاص في دراسة تلك الفترة واجلاء غوامضها من كل الجوانب.
7 يوليو 2022

alsirbabo@yahoo.co.uk

 

آراء