ملاحظات عائد من السودان: عودة الإبن …. البار … بقلم: د . أحمد خير / واشنطن

 


 

د. أحمد خير
8 February, 2010

 

 

الزيارة الخاطفة للسودان ربما تشفى القليل من الشوق للأهل والأصدقاء ، ولكن ، لا يكون فيها البراح الكاف للقاء كل الأحبة ، لذلك تكون العودة مقلقة بعض الشئ . حتما ستجد من يلومك لأنك لم تتمكن من زيارته فى منزله لتتجدد الذكريات . وأولئك لهم كل الحق ، وما لنا إلا أن نعتذر . قال البعض: أجازة زى دى أخير منها عدم الجييه ! لهؤلاء أيضا الحق ، ولكن المشتاق ربما تكفية نظرة أو إبتسامة فرد من أفراد العائلة ، أو صديق من الأصدقاء برغم الشوق الزائد عن الحد والدرب الطويل الذى قطعناه لنتبادل الكلمات ، أو لعناق للحظات نتنسم فيها عبق  قارب أن يتلاشى بمرور الزمن ، بالرغم من محاولاتنا المستميتة فى أن نبقى عليه ليكون الزاد فى غربة طالت فى غفلة منا . ولكن ، عزاؤنا هو أن الأهل هم الأهل ، انهم دائما يغفرون لنا هفواتنا وتقصيرنا ، أنهم يحاولون تفهم أسباب إغترابنا حتى وإن كانت تلك الأسباب مبهمة ويتصعب عليهم أحيانا فك طلاسمها .

 

نتمعن فى الوجوه ، لقد رسم الزمن خطوطه عليها ، ولكن ، ظلت القلوب على حالها عامرة بالحب والحياة . الجميع ينتظرون عودة الإبن البار " لا اريد أن أقول الضال" الذى رحل بعد أن خط على الأرض رسماً أقسم فيه بأنه عائد فى أقرب فرصة ! ولكن ، طال البعاد ! هل حنث فى قسمه ؟! ان الله يغفر الذنوب ، فهلا غفرتم يامن بتم تعدون الأيام والليالى لعودة من لا وعد له! أكاشفكم يا أعز الأعزاء أن الزمن تسرب من بين أصابعى بدون أن أدرى ، لقد غافلنى وأنا أتنقل من مدينة لأخرى ، أنتقى من كل واحدة منها هدية لعزيز، وفى كل مدينة أحفر أسماؤكم ، وكم أغمضت عينى لأراكم لتشاركوننى لحظات الفرح التى نختلسها فى غفلة  من متطلبات الحياة فى بلاد لاتنام !         

 

الخرطوم " وعفوا ان الوقت لم يسمح لزيارة مناطق أخرى هى فى القلب " تلك المدينة المتلفحة بالخضرة برغم صراعها المستمر مع الزمن ، لازالت تقاوم العمران ! برغم مرور عقود على قيامها فى موقعها الجغرافى ، إلا انها ظلت تحافظ على طابعها القروى برغم أشياء من الحداثة تخللت دروبها وعلى إستحياء ! هناك طرق حديثة ومبانى بعضها زجاجى ! فى بلد درجة حرارته فى فصل الصيف تكاد تكوى الجباه ! ولكنها الحداثة والتقليد الأعمى ! بالطبع قد سبقها فى ذلك دول الخليخ التى تحاول أن تخلق من الفسيخ شربات! فقامت ناطحات السحاب فى صحراء لازرع فيها ولاماء !

الخرطوم هى بلد المتناقضات ، فهناك السيارات على أحدث موديل وبجانبها عربات الكارو ، هناك المبنى الضخم الفخم ، وعلى بعد ياردة من المدخل كومة من أوساخ أو بقايا أحجار أسمنتية  كانت فائضا عند قيام البناء فوجدت من يلقى بها أمام المبنى لتظل رفيقة درب لايخون العشرة !

 

أما المبانى المخالفة للقوانين والذوق العام فحدث ولاحرج ! حيث أنه فى بعض المناطق " درجه أولى "  لن تجد ساحة من الساحات إلا وأغتصبت من قبل مسئول أو ممن يتمتعون بالوساطات !

بالطبع عند تخطيط المدن هناك مساحات تستقطع لتعطى فسحة للسكان لتستغل كمنتزه أو ميدان للرياضة ..الخ ، ولكن تحت سمع وبصر السلطات قامت المبانى العالية باهظة التكاليف مما يدل على أن من إغتصب الساحة أو جزءا منها له باع أطول من سلطات المساحة أو تنظيم المدن أو من  سلطات البلدية والمحليات ! من المسئول ؟! هل البلديات ، أم صاحب المنزل أو العمارة ؟! أم من هو ذو منصب أعلى الذى تدخل ليمنح من لاحق له  الحق فى البناء فى مساحة غير مخصصة للبناء ؟ وتدور الدائرة ، ويتعمق الإنفلات ليتحكم البعض حتى فى المداخل ! أو كما يقولون " فى شارع الله !" والله فى خلقه شئون .

 

فى الخرطوم المسجد بجوار المسجد ! بالطبع نحن ننادى بأن يكتر الله من عباده المخلصين ولكن نقول أيضا ليس بهذه الدرجة ! ماهو السبب فى أن تكون المسافة بين المسجد والآخر لاتتعدى الخطوات ؟! هل هذا تسهيلا للمصلين أم تمثيلا على المسلمين ؟! وهل التقوى بكثرة المساجد ؟! إن كان كذلك لما كان بالقاهرة  بار أو كباريه ، وهى التى بها أكثر من  ألف مئذنة !            

 

الصورة ليست كلها قاتمة ، ففى الخرطوم مشارق ومخارج وأخنان ، يعرفها من يبحث عنها حتى وإن كان ذلك فى ظلمات الليل ! تنام الخرطوم  فى الساعة الحادية عشرة مساءا ،ً وذلك  حسب القرار الرسمى الذى لاتتساهل فيه السلطات الرسمية " يعنى حفلة علنى مافى بعد حداشر بالليل " أما الحفلات الخاصة فحدث ولاحرج ! يعنى ناس تنام بدرى حسب القانون وناس تقوم تجرى تخالف القانون ! وهذه سنة من سنن الدول النامية ! هناك من سيقول أن قرار فض الحفلات قبل منتصف الليل كان قد إتخذ فى عهد الجنرال نميرى ، وطبعا الإنقاذ لقت الحكاية كويسه معاها فإستمرت فى تطبيقه !

 

فض الحفلات فى الساعة الحادية عشرة قبل منتصف الليل كان أيضا برداً وسلاماً على الفنانين . طبعا يتم التعاقد مع الفنان منهم ليبدأ الحفل فى التاسعة ، ولكن عندما يأتى ويتحنتش ويتمنتش تكون الساعة قد قاربت على العاشرة ، ثم يبدأ فى إجراء تجارب على الصوت " واحد ... إتنين ... تلاته "  " ألو .. . ألو ... ألو " يعنى مقولات تكسر الدقايق . بعدها يبدأ فى الغناء .. وفى تمام الساعة الحادية عشرة بالتمام والكمال ، يتوقف ويقطع التيارعن الآلات الموسيقية ! بعديها مافى مفاهمة !! يعنى  الفنان يغنى أقل من ساعة ويتحصل على ملايين الجنيهات!  يابلاش !

 

ياحليل أيام زمان ، أيام الفن الراقى والحفله صباحى !  يعنى الساعه تلاته أو أربعه عندما تبدأ بعض الحسناوات فى الإنسحاب من الحفل يسارع أحدهم ويمسك بالمايكروفون قائلاً : الطرب لازال مستمرا  ولازال الليل طفلاً ! تصوروا الليل طفلاً  فى الساعه الرابعة صباحاً ، فكيف بالله تبدل الحال وصار طفل الرابعة صباحاً هرماً فى الحادية عشرة ؟!

 

الخرطوم بالليل كويس! كانت صفة تشير إلى جمال الخرطوم وروعته . لازال الخرطوم كويس ، . ولازال أهل العاصمة بنفس الطيبة والحنان . كل ما تبدل فى العاصمة هو طبيعة الحياة وطبيعة الأشياء! فالخرطوم قد ودعت السيارات القديمة .إذا تطلعت من حولك ستجد سيارات موديل 2008 و 2009 وموديل 2010 ، يعنى غالبية السيارات جديدة ، ومع التنافس فى الموديلات توارت السيارات القديمة، ربما خجلاً أو بسبب نظام التقسيط المريح للسيارات .  

 

ويظهر جمال الخرطوم فى التنوع الذى يفرض نفسه . تنوع ثقافى ملحوظ ناتج عن إنفتاح السودان لأجناس لم يعهدها من قبل . وهذه حسنة حيث أن التنوع الثقافى يعطى للبلد زخما يدفع به إلى النشاط  والحيوية فى كل شئ وفى كل مرفق . فالسودانى الذى كان يوصم بالخمالة زوراً وبهتانا ، خاصة فى بلدان الخليج ، أصبح بفعل المنافسة شعلة من النشاط .

 

فى الماضى ، كان عدد المطاعم فى الخرطوم قليلا للغاية ، أما الآن فهناك العديد من المطاعم الفاخرة التى تضاهى فى روعتها نظيراتها فى دول متقدمة عدة . والخدمات فى تلك المطاعم صارت هى الأخرى على مستوى عال الشئ الذى يدخل البهجة والسرور فى النفس . وبتنوعها الملحوظ  تقدم وجبات متنوعة من شرقية إلى غربية ، فمنها  المصرى واللبناني  والصيني والسوداني والأمريكى ، بمعنى أن كل مايتمناه المرؤ من طعام ، يدركه ..     

 

هذه هى لمحة عن الخرطوم  وبرؤية عابرة ، وإلى الملتقى .

     

Ahmed Kheir [aikheir@yahoo.com]

 

آراء