ملامح الفكر السياسي للشيخ محمد الغزالي … بقلم: د. محمد وقيع الله
1 February, 2010
1-8
إهداء إلى فضيلة أستاذنا البروفسور عمر أحمد العوض .. مع الإعزاز
عاش الشيخ محمد الغزالي عمرا مديدا، أنفق القسط الأوفر منه في الكتابة. وخلّف ما ينوف على الخمسين كتابا في شتى قضايا الفكر الإسلامي، أبرز فيها الأبعاد الاجتماعية الحقيقية لدين الإسلام.
وكان أول ما صدر له كتاب (الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية) الذي أبان فيه بشكل عام عن فلسفة الإسلام في عالم الاقتصاد. وجاء آخر كتبه (تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل) ليعالج إحدى الآفات في حقل الدعوة وهي آفة التصلُّب العقلي، وليطبق أصول الفقه الإسلامي على بعض القضايا المستجدة والخلافية، ونـزع فيه إلى اتخاذ منهج أصولي معتدل يكفكف به من غُلواء بعض المتفقهين وتطرفهم، ويصفِّي به بعض محاور الجدل الحاد في الشأن الاجتماعي.
وفي كل إنتاج الشيخ الغزالي كانت سمة الاجتهاد والتجديد حاضرة واضحة، سواء في تركيبه للأفكار، أو في أسلوبه في الطرح والحوار، أو في الوعاء اللغوي الأنيق الذي استخدمه لبث تلك الأفكار.
لم يتلطف في العراك الفاصل:
وعلى مدى نصف قرن ونيف من جهاده الفكري، هبت في وجه الشيخ مختلف الجبهات المتناقضة في تفكيرها، والمتحدة من حيث اعتراضها على أفكاره ومنطلقاته التجديدية. وقد كانت اصطدامات عنيفة حقا إذ لم يكن الشيخ هو الآخر ممن ينحنون للعواصف، أو يتلطفون في العراك الفاصل؛ ودارت رحى جدال عنيف حام، أصلى فيه الشيخ معارضيه من العلمانيين وأولياء الجمود والتبعية - مثلما أصلوه - من قارص القول وحديد الكلم.
ولكن المعركة انجلت في النهاية عن انتصار بيِّن لصالح الفكر التجديدي المستقبلي الذي نافح عنه الشيخ، وانكسار واضح لقواعد الجمود والتقليد وتيارات الغزو الفكري، التي توطدت في بلادنا منذ زمن بعيد.
ولقد كان ذلك البلاء الفكري هو بعض ما أهل الشيخ لأن تعده الدكتورة إيفون حداد - إحدى خيرات الفكر الإسلامي في الغرب - واحداً من أقوى العلماء الذين تصدوا لغزوة الأفكار الغربية الحديثة التي كان من الممكن – كما قالت - أن تصيب الإسلام بمثل ما أصابت به الديانتين اليهودية والنصرانية في أوربا.
سليل مدرسة المنار:
لقد كانت اجتهادات الشيخ الغزالي السياسية هي الثمرة الناضجة لجهود المدرسة الإصلاحية التي بدت بوجه سياسي سافر على يد السيد جمال الدين الأفغاني، ثم اتخذت منهجاً تربوياً تعليمياً تكوينياً متأنياً على يد الإمام الإصلاحي الأكبر محمد عبده، ثم عادت على يد الإمام محمد رشيد رضا ومدرسة ( المنار) لتشتغل في إطار العلوم الشرعية مع الاهتمام بقضايا العالم الإسلامي السياسية.
وقد كان لمدرسة (المنار) فضل تعميق هذين الخطين معا: خط السياسة الثورية للأفغاني، والخط التربوي التكويني لمحمد عبده، وذلك مع تصحيح أطر التفكير التي أرساها كل من هذين الرائدين العظيمين. ولأن الشيخ رضا كان أقل (راديكالية)، وأكثر دأبا من سابقيْه، فقد أدت مثابرته في عالم الكتابة والنشر إلى التأسيس الحقيقي لما يعرف، وفق التسمية الفضفاضة غير الدقيقة، بالمدرسة السلفية.
وأسهمت إشعاعات تلك المدرسة في إنضاج أفكار عدد من أعلام الفكر والعمل السياسي الإسلامي مثل الإمام عبد الحميد بن باديس، في الجزائر، والشيخ عبد الكريم الخطابي، في المغرب، والشيخ حسن البنا، في مصر.
وهنا يمكن إرجاع الفضل إلى جهود الشيخ رشيد رضا في تنقية فكر الشيخين الأفغاني وعبده، وترشيحه عبر منظوره السلفي النقلي، وتقديمه مخلِّصاً من شوائبه وشطحاته، ليكون أساساً لفكر عصر اليقظة الإسلامية. وإلا فإن أفكار الأفغاني ومحمد عبده في صورتها الأولى قد أنجبت عدداً من التلاميذ ممن لا يمكن وضعهم في سياق فكري سياسي إسلامي، شأن سعد زغلول، ولطفي السيد، وكلاهما كان يعتز بتتلمذه على خط محمد عبده، ويظن أنه كان الامتداد الحقيقي لذاك الخط.
بل إن بعضهم كان يستنكر بحنق واضح جهود الشيخ محمد رشيد رضا في تصحيحه خط الأستاذ الإمام، كما يستكثر عليه أن يكون الوارث الحقيقي لخط المدرسة السلفية بِزَعم أنه كان مقلداً أكثر منه حاملاً للواء التجديد.
جهود الرواد لا تذهب هدرا:
ومن كان يظن أن جهود الرواد يمكن أن تذهب هدراً، فلينظر إلى جهود محمد رشيد رضا كم أثمرت سواء على صعيد المنهج أو على صعيد إنتاج المفكرين.
لقد ذكر رشيد رضا في بعض مذكراته أن الأعداد الأولى من مجلته التي أصدرها باسم : (المنار)، كسدت في الأسواق، ولكنه لم يشأ أن يجعلها وقودا للنار أو يبيعها وزنا لتكون مادة للفائف التجار، موقنا أن الأمة ستعود إليها لاحقا بعد أن أعرضت عنها. وبالفعل فقد استطاع الشيخ رشيد رضا أن يبيع في وقت لاحق كل ما كسد من أعداد (المنار).
ومن جملة المفكرين الذين ورثوا خط الإمام رشيد رضا النابض بالإيقاعات السياسية، جاء الشيخ محمد الغزالي الذي بدأ عمله السياسي التنظيمي في جماعة الإخوان المسلمين التي انتظم في خطها إلى أواسط الخمسينيات، ثم تخلى عنها تنظيميا، من دون أن يتباعد عنها فكريا أو سياسيا.
وأهم ما نريد أن نفحصه هنا هو الإسهام المميز للشيخ محمد الغزالي في الإطار العام للفكر السياسي الإسلامي.
السياسة في أفق الوضاءة الروحية:
لقد كان انتماء الشيخ الغزالي الفكري لتلك الجذور العريقة لمدرسة (المنار) هو ما أعطى فكره صورته الكلية. ومن بين الكتب العديدة التي قام بتأليفها لشيخ يمكن اعتبار عشرا منها بمثابة كتب سياسية خالصة، أما بقية أفكار الشيخ السياسية فقد توزعت في ثنايا كتبه العديدة الأخرى.
وهكذا فبغير قراءة واسعة في تراث الشيخ يتعذر على القارئ أن يجمع خيوط تلك الأفكار، وأن يضعها في نسق منتظم؛ فبقدر ما أكثر الشيخ من الإنتاج الفكري، فقد كانت أفكاره السياسية تتناثر وتتوزع وتتداخل مع موضوعات أخرى، محققة بذلك نوعاً رائعاً من التلاحم ما بين الشأن السياسي والاقتصادي والثقافي والتربوي والروحي. وقد كان طبيعياً أن تأتي أفكار الغزالي بهذه الصورة الكلية، إذ إنها منبثقة عن إطار عقائدي ومعرفي أشمل هو الإطار الإسلامي.
وهكذا فقلما يفصل الشيخ فصلا حاسما ما بين النظامين الاجتماعي والسياسي، فقد يركز على الجانب الاجتماعي كما هو الحال في كتابيْ (الجانب العاطفي من الإسلام) و(جدد حياتك). ولكنه لا يُخلي مثل تلك الكتب من إشارات إلى أثر الدولة أو العامل السياسي في حياة الناس.
وأما عندما يتناول الشيخ أثر الجانب السياسي الخالص فإنه يحرص علة وصله بخيوط قوية بمفاهيم الإسلام الاجتماعية، ولذلك فإنك تعثر في خضم تحليلاته السياسية على تصورات أخلاقية خالصة. وقد يتعذر على المرء أن يعثر على كلمة (عفاف) مثلا في كتاب من كتب علم السياسة، ولكنك واجدٌ مثل ذلك بكثرة في كتب الغزالي السياسية، وواجدٌ ربطا قويا لمفاهيم الدين المركزية مثل (الورع) و(التقوى) و(الجزاء الأخروي) بتفاصيل ممارسات العمل السياسي.
لقد كان الشيخ الغزالي يحاول دائما أن يرفع أساليب المعالجة السياسية إلى أفق الوضاءة الروحية. وهذا هو المنهج الأسدُّ في العلاج الاجتماعي، لأن النظام السياسي الإسلامي لا يؤتي ثماره ناضجة إلا في هذا الأفق الوضيئ؛ وكما لاحظ المفكر الجزائري مالك بن نبي بحق، فإن الحضارات الإنسانية كافة ما كانت سوى حلقات متشابهة في أطوار نموها، تبدأ الحلقة الأولى بظهور الروح الدينية، ثم تتغلب جاذبية الأرض والمادة عليها فتفنى قوة الروح والعقل.
وهذه ناحية في غاية الأهمية ينبغي أن يتفطن إليها المجتهدون في علم السياسة الإسلامي، في نهضته المرتجاة، فلا يحدُّوا من مداه الرحب، ولا يجردوه من المضامين الروحية والأخلاقية.
كتب سياسية خالية من أنداء الإيمان:
وقد ظهرت بالفعل إلى عالم الوجود كتب سياسية إسلامية اختار أصحابها – بتعمد ظاهر- أن يتخذوا منحى دستوريا جافا مجردا من روح الدين، وخاليا لو من إشارات عابرة إلى جوانب الروح، وضمانات الإسلام الاجتماعية والتربوية الكثيرة، التي بدنها لا يمكن أن يستقيم نظام الحكم الإسلامي؛ ولعل أبرز نماذج هذه الكتابات هي دراسات الدكتور عبد الحميد متولي. فقلما تجد في مطولاته عن مبادئ نظام الحكم في الإسلام أدنى إشارة إلى الإطار الكلي الإسلامي، أو إلى روح الدين التي تصوغ الحكم والرعية وتشكل ضمانة فعالية النظم الإسلامية.
وهي كتابات نرجو ألا تكون نموذجا يحتذى في الاجتهاد السياسي الإسلامي المنشود، إذ إنها تجزّئ الإسلام بالطريقة نفسها التي جزأت بها العلوم السلوكية الحديثة مفهوم الإنسان، وعملت على معالجة مشكلاته من منظورات جزئية اقتصرت على دلالات علم واحد كعلم الاقتصاد أو علم النفس أو الأنثروبولوجيا أو الاجتماع، غير واضعة في الحسبان ضرورة النظر إلى الكينونة الإنسانية في أبعادها كافة.
ومن البدهي التسليم بضرورة التخصص في إطار بحثي ضيق لاستخراج نتائج علمية محددة من ذلك الإطار، ولكن من الخطل الفكري والمنهجي الفادح أن يُنظر إلى الإنسان مثل تلك النظرة التجزيئية التي تعامل بها حيوانات المعامل أثناء الفحص.
وبلغة مناهج البحث يمكن أن يقال إن عوامل التغيير هي دوماً عوامل متفاعلة، بمعنى أنها عوامل مؤثرة في عوامل أخرى ومتأثرة بها في الوقت ذاته، ويندر إن لم يستحل وجود العالم المستقل the independent variable، وإن كانت العلوم الاجتماعية الحديثة توهم بإمكان وجود مثل ذلك العامل.
هذا وإن أمكن وجود مثل ذلك العامل بالفعل، فإنه يبدو مستقلاً فقط في إطار علم اجتماعي محدد، ولكنه يبدو متأثراً بعوامل أخرى حين فَتْحِ مجال الدراسة على تخصصات علمية أخرى.
ولذلك يتحتم على أصحاب التخصصات الضيقة مثل علم النفس والاقتصاد والتاريخ أن ينفتحوا كثيرا على العلوم الأخرى المجاورة لتخصصاتهم، فضلا عن التمكن في الفكر الإسلامي من منابعه وأصوله، وذلك حتى يتبلور اجتهاد إسلامي صلب أصيل قويم في مجالات العلوم الاجتماعية، ولكي تضم أجزاء الإسلام بعضها إلى بعض، وحتى لا يُبتَر أيّ جزء منها بحجة عدم ملاءمته لأوضاع الناس اليوم.
وبمطالعة كتب الشيخ الغزالي، والتتلمذ على تراث مدرسته الفكرية، يمكن أن ينطبع الباحثون السياسيون الجدد بذلك الطابع التكاملي، الذي يضع السياسة في موضعها الصحيح من الإطار النظري الإسلامي العام.