ملف الاستقلال “السودان للسودانيين” (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
umsalsadig@gmail.com
(وقد جربتنا مصر قبل ذلك:عجمت عودنا وغمزت قناتنا ،فهل لانت قناتنا لغامز؟):
عبدالرحمن علي طه إثر إعلان وزير الخارجية المصري للعرش16 نوفمبر 1950 عن وحدة السودان ومصر تحت التاج المصري...
نتقدم بخالص العزاء للحبيب الإمام الصادق المهدي ولحزب الأمة وللأحباب في كيان الأنصار ولأسرة ومحبي الحبيب الفاضل السمح الزين الدكتور السيد عبدالرحمن بشير ابو جيب. نعزيهم ونعزي أنفسنا على فقدنا الجلل ومصابنا العظيم بوفاة الحبيب سيد إثر حادث مؤسف الاسبوع الماضي. رحمه الله وأنزله منزلا مستحقا بحب الناس والقيام على أمرهم وخدمتهم واصلاح ذات بينهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا نقول إلا ما يرضي ربنا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
في الحلقات الماضية كنا قد تكلمنا عن أن استقلال السودان قد تحقق برؤية الحركة الاستقلالية السودانية تحت شعار السودان للسودانيين عن طريق التطور الدستوري واستغلال التناقض بين مصلحتي بريطانيا ومصر وصراعهما على السودان، ثم وقفنا على أسباب اختيار بريطانيا عوضا عن مصر لتحقيق ذلك الهدف من جانب الاستقلاليين، ورأينا كيف أن ذلك الصراع البريطاني/المصري قد أدت تجلياته -ومنها على سبيل المثال اتفاقية 1936 التي تناولت الشأن السوداني واستبعدت اصحاب المصلحة، إلى بروز حركة وطنية سياسية سودانية تطالب بإشراكها في قضايا السودان، وقد كان قيام مؤتمر الخريجين من تبديات بزوغ الوطنية السودانية. وفي الحلقة الماضية ألمحنا كذلك الى أن الاستناد الى بريطانيا أو مصر للمساعدة في تحقيق الاستقلال قد أدى إلى بروز تيارين في مؤتمر الخريجين وأن فوز الجماعة التي تقول باختيار مصر والاتحاد معها بهيئة المؤتمر الستينية قد أدى الى اتخاذ قرار الاتحاد مع مصر مما عمق الصراع بين التيارين الاستقلالي والاتحادي. ثم ثم تناولنا المبادرة الوطنية بتقريب الصف الوطني وائتلاف الأحزاب والصيغة التي توافقوا عليها. ثم مرينا على التحدي الكبير الذي أحدثته مراجعة اتفاقية 36 وبروتكول صدقي/بيفن الذي فهم منه صدقي أن ذلك اعترافا بريطانيا بسيادة مصر على السودان واستعرضنا ردود الفعل في السودان واحتجاجات الصحافة السودانية والتظاهرات الضخمة التي اكتسحت الشوارع وسفر الامام عبدالرحمن الى بريطانيا مرة أخرى رفضا لاتفاقية تعطي مصر سيادة على السودان مخالفة لوعد بريطاني سابق بالحكم الذاتي تطورا نحو الاستقلال الكامل. وفي مصر استنكرت الصحافة المصرية اتجاه السودان للاستقلال بعيدا عن مصر، ورأت حكومة النقراشي عرض قضية السودان على هيئة الأمم المتحدة بعدما فشلت في انفاذ بروتكول صدقي/بيفن مما رحب به السودانيون ايمانا بعدالة قضيتهم .
من التطورات المهمة في طريق الاستقلال الدعوة الى مؤتمر إدارة السودان الذي تم تشكيله في 22 أبريل 1946م من قبل حكومة السودان بمشاركة أحزاب الأمة والأحرار والقوميين بينما قاطعته الأحزاب الاتحادية ومؤتمر الخريجين الذي يسيطر عليه الأشقاء، وبررت (النيل) اشتراك حزب الأمة باعتراف الحاكم العام بالاستقلال مقدرا له مدة تقريبية. وعلى أساس ذلك عين هذا المؤتمر وأكثريته من السودانيين لوضع الأسس التي يتم بها تسلم شؤون حكومتهم أي تحديد المدة المعقولة للاستقلال، اضافة لأن فكرة المؤتمر (لا تضر مساعينا الوطنية لأننا لن ندخل المؤتمر وقد ألقينا أهدافنا أو سوفنا فيها أو نكصنا عنها بل يكون دخولنا سندا لتلك الأهداف)(النيل 1مايو 1946م).
واقترح حزب الأمة أن يطلق على المؤتمر اسم (مؤتمر استقلال السودان) وتكون مهمته وضع الخطط لنيل الاستقلال في أقرب وقت. كما نبه لضرورة توسيع صلاحيات المجلس الاستشاري لشمال السودان. وكانت توصياته للنظر في اشراك السودانيين بصورة أوسع وتمثيل السودانين في لجان الحكومة المركزية ومجالسها معتبرا المجلس الاستشاري الخطوة الأولى نحو الحكم الذاتي المسئول، منتقدا محدودية صلاحياته وقصوره على الشمال دون الجنوب. كما أوصى بالتخلي عن السياسة الجنوبية.
في يونيو 1947م عرضت توصيات مؤتمر ادارة السودان على مؤتمر عقد بجوبا وانتهى المؤتمر الى أن الجنوب يرغب في سودان موحد ويرغب كذلك في المشاركة في الجمعية التشريعية وقد لعب محمد صالح الشنقيطي دورا كبيرا في ازالة شكوك الجنوبيين ازاء نوايا الشمال. في 20 مايو 1947م أجاز المجلس الاستشاري توصيات مؤتمر ادارة السودان وطلب من الحكومة أن تعد تشريعا وفقا لهذه التوصيات في أقرب وقت ممكن. أجاز الحاكم العام التوصيات من حيث المبدأ وقرر أن ترفع الى الحكومتين المصرية والبريطانية للنظر فيها.وكان من بين التوصيات المجازة أن تقوم الجمعية التشريعية بالتشريع للسودان كله شماله وجنوبه.
في 11 يوليو 1947م قدمت العريضة المصرية لمجلس الأمن( حكومة النقراشي) والتي جاء فيها وجوب اجلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان جلاء كاملا وانهاء النظام الاداري الحالي في السودان. اعتبر النحاس أن شكوى الحكومة المصرية لمجلس الأمن لا تعبر عن مطالب الشعب المصري والتي تتلخص في الجلاء عن وادي النيل والاعتراف بوحدة وادي النيل.هنأ الأزهري وبعض أعضاء وفد السودان النقراشي على تقديم عريضة الدعوى.وأكد حزب الأمة أن ليس ثمة سوداني يرفض الجلاء والغاء الحكم الثنائي ولكنه يأخذ على العريضة المصرية خلوها من أي اشارة الى استقلال السودان أو حقه في تقرير المصير .في السودان بدأت محاولات ليقول السودانيون كلمتهم لمجلس الأمن كتلة واحدة فالتقى مندوبون عن الجبهة الاستقلالية والوطنية وبينما قبل الاستقلاليون بمقترح اللجنة كاملا رفضته الجبهة الوطنية . بعد اخفاق المحاولة بعثت الجبهة الوطنية برقيتها لمجلس الأمن تعبر عن رضاها عن عريضة النقراشي. أبرقت الجبهة الاستقلالية مجلس الأمن مطالبة بانهاء الحكم الثنائي فورا وباستقلال السودان عن مصر وبريطانيا مناشدة الأمم المتحدة الالتزام بمبادئها.
طرح النقراشي في خطابه لمجلس الأمن وجهة النظر المصرية في المسألة السودانية والتي لاقت استحسانا وتأييدا من وفد السودان بينما اعتبرت الجبهة الاستقلالية أن الذي أتى في خطاب النقراشي به تشويه مقصود لحقائق التاريخ والجغرافية ورد كادوقان(المندوب البريطاني لمجلس الأمن) بمطالبة شطب دعوى مصر ودحض ما ادعته مصر من أساسات الوحدة في نظرها . من السودان قصدت الوفود اجتماع الأمم المتحدة وانتدبت حكومة السودان مندوبين الى نيويورك للاستعانة بهم في المعلومات بشأن السودان. قررت الجبهة الاستقلالية ارسال مندوبين عنها للمطالبة بانهاء الحكم الثنائي واستقلال السودان عن مصر وبريطانيا وكذلك فعل وفد السودان لعكس وجهة النظر الاتحادية والتقى الوفد الاستقلالي النقراشي وعقد معه محادثات غير رسمية، وقدم أعضاؤه مذكرة لمجلس الأمن تصحح حقائق التاريخ والجغرافية التي شوهها النقراشي. حاولت جماعة من الخريجين(جماعة الجريف) التوفيق بين وجهتي النظر الاستقلالية والاتحادية ليتم عرض قضية السودان موحدة لمجلس الأمن ولكن رفض الجبهة الوطنية للجلوس للمفاوضات أنهاها قبل أن تبدأ.تركت القضية معلقة في مجلس الأمن ورأى كل طرف أن طرح القضية حقق له نجاحات .
بعد انتهاء مناقشات مجلس الأمن أصدرت حكومة السودان بيانا حددت فيه واجباتها والتي أوجزتها في: التعجيل في تنفيذ توصيات مؤتمر السودان- عدم السماح بالتهاون في سياسة حكومة السودان المتعلقة بالسودنة والمحافظة على الأمن العام .
في 25 نوفمبر بعثت الحكومة المصرية بنتيجة دراستها لتوصيات مؤتمر ادارة السودان وبادخالها لتعديلات جوهرية لن توافق بدونها على التوصيات. ومن مآخذ الحكومة المصرية على تلك التوصيات:
عدم تحقيقها الغرض الذي قصدت اليه أي اشراك السودانيين في الحكومة المركزية والسلطات الضيقة التي منحها النظام المقترح للجمعية التشريعية وطالبت بتقييد السلطات الواسعة الممنوحة للحاكم العام وأن يكون للسودانيين نصيب في المناصب الرئيسية في المجلس التنفيذي وكل المناصب الأخرى في حكومة السودان من أجل التدريب لتكون لهم كل المناصب بعد الثلاث سنوات المحددة للتجربة ونبهت على تغييب الحكومة المصرية من المسئولية في التدريب وأشارت الى افتقادها للحريات الدستورية ولأحزاب ومؤتمر الخريجين .قدمت حكومة السودان دفوعاتها على الرد المصري. رحبت الجبهة الاستقلالية بمذكرة حكومة النقراشي بما يدلل على اتجاه مصري جديد لاعتراف مصري بكيان منفصل للسودان وحق السودانيين في حكم بلادهم.أعلن وفد السودان رفضه الكامل لتوصيات مؤتمر السودان ولو جاءت مبرأة من كل عيب بعدها بقليل بدأ الخلاف يدب في صفوف وفد السودان اثر اشاعة بتلقي البعض لتصاريح تموين مقابل سندهم لسياسات حكومة النقراشي ازاء السودان وبالنتيجة انسحبت كل الأحزاب الأخرى وصار الوفد مجرد واجهة للأشقاء .كان رفض حزب وحدة وادي النيل وحزب الاتحاديين صريحا في رفض مذكرة وخطاب النقراشي لاقرارهما بين الثنايا بالحكم الثنائي البغيض ولاغفالهما لوحدة وادي النيل .
أما الأزهري فقد كان موقفه غامضا بين التهنئة والقبول ثم الرفض والانكار.وأعلن حزب الأشقاء مقاطعة الجمعية التشريعية من حيث المبدأ.
في 17 فبراير 1948م تسلمت الحكومة المصرية مشروع قانون المجلس التنفيذي والجمعية التشريعية فرفضت التصديق عليهما بسبب الخلاف حول مسألة اشتراك مصر في اعداد السودانيين لتولي شؤونهم وتمثيلها في المجلس التنفيذي وازاء اصرار الحكومة البريطانية وحكومة السودان على تطبيق القانون اقترح الأزهري بصفته رئيسا للوفد اقتراحين:- أن تسارع مصر بوضع دستور ونظام لحكم السودان الداخلي في نطاق الوحدة وتحت التاج المشترك.- أن يعمل أنصار الوحدة على تبصير الشعب .بالرغم من رفض الحكومة المصرية لمشروع قانون المجلس التنفيذي والجمعية التشريعية الا أن مجلس الحاكم العام أجازه فانتقدت الحكومة المصرية هذا العمل .
توالت اجتماعات الوسطاء لجمع الأحزاب الاتحادية فتكونت جبهة الكفاح التي رفضت التعامل مع مؤسسات الحكم المتدرجة وأقامت الليالي السياسية وسيرت المواكب والمظاهرات في العاصمة والمدن الرئيسية ودعت الجبهة للاضراب العام والتظاهر.بعض أقطاب الختمية سجلوا اعتبارهم للجمعية التشريعية خطوة الى الأمام مقترحين بعض المقترحات بشأن سلطات الجمعية .
أعلنت الجبهة الاستقلالية تأييدها مشروع قانون المجلس التنفيذي والجمعية التشريعية،
ووصفته بالحدث التاريخي الأهم في نصف القرن الأخير والمجلس التنفيذي والجمعية التشريعية ما هما الا مرحلة في سبيل تحقيق الاستقلال.
في أبريل 1950 أعلن عن قيام تحالف بين حزب الاتحاديين والأشقاء الأحرار ونفر من المستقلين الأحرار أطلق عليه (الجبهة الوطنية) وتعرض هذا التحالف لهجوم عنيف من حزب الأشقاء.
عاد حزب الوفد المصري الى السلطة بعد فوزه بانتخابات يناير 1950 ووعد حال تشكل حكومته(النحاس) ببذل(أصدق الجهود وأقصاها ليتم الجلاء العاجل عن أرض الوادي بشطريه وتصان وحدته تحت التاج المصري من كل عبث واعتداء). لانجاز وعدها دخلت الحكومة المصرية في مباحثات مع الحكومة البريطانية بشأن الجلاء والسودان. وبدأت جولة مفاوضات في 26 أغسطس 1950م بين السفير البريطاني في القاهرة ووزير خارجية مصر وفي خطابه للعرش في 16 نوفمبر 1950 أعلن انتهاء صلاحية 1936م والجلاء الشامل ووحدة السودان ومصر تحت التاج المصري.رحب الأزهري بخطاب العرش وكذلك حزب الأمة ولكنه استنكر وضع السودان تحت التاج المصري معتبرا ذلك لون من ألوان الاستعمار وتناول قادة حزب الأمة موضوع الخطاب وتسائل عبدالرحمن علي طه ان كان سبيل مصر لتحقيق أهدافها الحرب (وقد جربتنا مصر قبل ذلك:عجمت عودنا وغمزت قناتنا ،فهل لانت قناتنا لغامز؟) استاءت حكومة الوفد من أحاديث قادة حزب الأمة معتبرة اياها اعلان حرب ضد مصر .
نتناول في الحلقة القادمة بإذن الله اقتراح الحكم الذاتي (الذي كنا قد وعدنا القراء الكرام بسرده اليوم فعدلنا عن ذلك بسبب كم المعلومات الكبير فيه والتطورات المهمة التي أدت لتحقيق الاستقلال فيما بعد) ومحاورة مصر للحركة الاستقلالية.
وسلمتم