ملف الاستقلال “السودان للسودانيين” (7-7)

 


 

 


umsalsadig@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم

(أبوك غزا بالسيف فانقاد من طغى وسيفك للأعداء رأي مسدد

سلاحان: ماض في الرقاب فقاطع وآخر للأهواء قول مبدد):
الشاعر عبدالله البنا مادحا الامام عبدالرحمن...

تمر بنا هذه الأيام ذكرى استقلال السودان الأول والذكرى 135 لتحرير الخرطوم على يد الإمام المهدي عليه السلام فتهنئة خالصة لأبطال تلك المعركة تقبلهم الله شهداء في عالي الجنان ونفعنا بإرثهم النضالي الذي حملته الجينات السودانية ليشهد به العالم صمودا مماثلا في ديسمبر 2018، جينات تمكن بها من طرد طاغية بلون بشرتنا لكنه أشد قسوة من الأجنبي على شركاء الوطن.
في الحلقة الماضية أوضحنا كيف تمسك الاستقلاليون بهدفهم: (تحرير السودان تحت شعار السودان للسودانيين) وأثر ثورة يوليو المصرية في التحول من موقف التجاهل التام للاستقلاليين الى محاولة استمالاتهم عبر الاقناع بعد أن تأكد لهم أنهم العقبة الكأداء في سبيل تبعية السودان لمصر..فكان لقاءهم مع الاستقلاليين في اكتوبر 1952..وقد تمخض اللقاء عن الاعتراف بحق السودانيين في الحكم الذاتي ثم في تقرير مصيرهم وتوقيع اتفاقية الجنتلمان التي اعتبرها الاتحاديون حدا أدنى مقبول ثم جمع الصف الاتحادي برعاية مصرية ثم المفاوضات المصرية البريطانية بشأن تقرير المصير والحكم الذاتي للسودان في نوفمبر 1952، وهي المفاوضات التي تعثرت ولكن عجل بالاتفاق فيها بيان أحزاب الأمة والوطني الاتحادي والجمهوري الاشتراكي والوطني و قد اتفقت بشأن دستور الانتقال وهو نفس موقف الحكومة المصرية فكان ذلك اضافة للدور الأمريكي سببا في التعجيل باتفاق الحكومتين المصرية والبريطانية بشأن الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان وقد كانت أمريكا مهتمة بنجاح المفاوضات المصرية البريطانية ليتفرغ الجانبان لبحث مسألة جلاء القوات البريطانية عن مصر والترتيبات الغربية بشأن دفاع الشرق الأوسط لملأ ما سيترتب من فراغ بعد انسحاب القوات البريطانية ولمنع النفوذ السوفيتي الشيوعي من التمدد.فتم التوقيع على الاتفاقية وأقيم في الخرطوم في 14 فبراير 1953م احتفالا ابتهاجا بالاتفاق. ثم تناولنا التدخل المصري السافر في السياسة السودانية وكيف احتج عليه الاستقلاليون وعلى خرق اتفاقية الجنتلمان وقد أنكر المصريون مثل هذا التدخل رغما عن وقوعه مما جعل الاستقلاليون يتقدمون بشكوى للجنة الانتخابات احتجاجا على التدخل المصري، ثم عرضنا لقيام الانتخابات في نوفمبر 1953 بعد أن أصدر الحاكم العام اعلانا بتعيين لجنة الانتخابات في 8 أبريل 1953م، والتي انتهت بهزيمة حزب الأمة بفارق كبير برغم التقارب في أعداد الناخبين بسبب عيوب في توزيع الدوائر والمال المصري وعرضنا لكيف حاول الاستقلاليون التعبير عن وجهة نظرهم لنجيب الذي زار السودان احتفالا بافتتاح أول برلمان حتى لا يعتقد أن فوز الاتحاديون بالانتخابات يعني التخلي عن شعار السودان للسودانيين وقد أدى ذلك لتصدي من قبل الشرطة فيما عرف بحوادث مارس التي لم يثبت فيها تآمرا لكنها عكست مدى تشبث الاستقلاليون بموقفهم من الاستقلال الكامل.
كل هذه الأحداث المتسارعة نحو تحقيق الاستقلال كان ذروتها الاتجاه نحو الاستقلال من داخل الحزب الاتحادي حيث بدأت معركة استقلالية مشهودة. فقد نشر خلف الله خالد في جريدة صوت السودان حديثا اتهم فيه الحكومة بتلقي رشوة من مصر.
أقال الأزهري خلف الله خالد،ميرغني حمزة وأحمد جلي متهما اياهم بالتغيب عن المجلس وعرقلة أعماله واتهموه هم باتهامات من بينها التآمر مع مصر على أهداف لا يقرها الشعب السوداني .
رحب حزب الأمة ببيان الوزراء واعتبره تحولا واضحا نحو الاستقلال.
وفي 1954م انضمت الجبهة المعادية للاستعمار الى الجبهة الاستقلالية واستقبل الامام وفدا منهم وذكر لهم أن الاختلاف في العقائد لا يمنعنا من السير معا حتى نحقق الاستقلال لبلادنا وبعد ذلك فليعمل كل منا ضمن القواعد التي تسمح بها الديمقراطية التي ارتضيناها جميعا .
وفي نهاية 1954م صرح الأزهري للصحف برؤية شخصية لنوع الاتحاد الذي يراه مع مصر بحيث يكون للسودان رئيس ورئيس وزراء كما لمصر ويتجلى الاتحاد في اجتماعات دورية يعقدها مجلسا الوزراء في البلدين وتخضع قرارات المجلس المشترك لاجازة البرلمان في البلدين.
أحداث سرّعت بالاستقلال:
في مصر تمت في نهاية 1954م تنحية نجيب.(مما أعطى انطباعا لدعاة الاتحاد بضرورة اعادة النظر في الوعود المصرية).
وقف اتحاد طلاب جامعة الخرطوم مع الاستقلال كما أبرق الطلبة المبعوثون بالخارج الحكومة والأحزاب السياسية مطالبين بالاستقلال وكذلك اتحاد المزارعين في الجزيرة واتحاد العمال في الخرطوم في مواكب ضخمة .
موقف حكومة الأزهري ازاء التحول الشعبي نحو الاستقلال:
أما الحكومة وحزبها فلم يكن أمامهم الا أن يأتمروا بأمر الشعب لذلك اجتمع المكتب السياسي للحزب الوطني الاتحادي وهيئته وبعد نقاش استمر طويلا أصدر قرارا بقيام جمهورية سودانية ديمقراطية مستقلة ذات سيادة ثم أضاف تفاصيل تتعلق بالرباط بمصر. رحبت الجبهة الاستقلالية بالقرار ولكنها استنكرت ما أضيف بخصوص الاتحاد مع مصر.ثم أوفدت الى الحكومة لتخبرها بترحيبها وأنها تطلب أن تعقد أحزاب الحكومة والمعالرضة ميثاقا وطنيا بتأييد الاستقلال التام وسيادة السودان لأهله.
أعدت الجبهة الاستقلالية مشروعا لميثاق وطني بتاريخ 16 أبريل 1955م من ست نقاط.
اقتراح الحكومة للبرلمان :جلاء قوات دولتي الحكم الثنائي:
في 16 أغسطس 1955م تقدمت الحكومة بالتشاور مع المعارضة باقتراح الى البرلمان يطلب من دولتي الحكم الثنائي جلاء قواتهما بعد أن تمت اجراءات السودنة .
في 3 ديسمبر كان البيان المشترك للسيدين يزف البشرى للشعب بوحدة الصف وتوحيد الكلمة نحو الاستقلال.
19 ديسمبر1956م اعلان الاستقلال من داخل البرلمان:
في 19 ديسمبر قدم أحد نواب المعارضة (عبدالرحمن دبكة)اقتراحا ثنّاه نائب حكومي يعلن أن السودان صار دولة مستقلة ويطلب من الحاكم العام تبليغ ذلك لدولتي الحكم الثنائي.وقد أجيزت في وقت قصير قرارات هامة بترتيبات الدولة المستقلة.وتكّون مجلس سيادة يمثل كل قطاعات الشعب السوداني وأحزابه .
ما تم سرده خلال سبع حلقات تتبعا لمعركة نضالية حامية الوطيس عبر صفحات كتاب (الحركة السياسية السودانية والصراع المصري البريطاني بشأن السودان 1936-1953) لكاتبه الدكتور فيصل عبدالرحمن علي طه، يعكس للقاريء الكريم كيف أن معركة الاستقلال بدأت مبكرا، وقد خاضها الإمام ومن معه بأهداف محددة ووسائل معلومة .
والمتابع لمسيرة الاستقلال يرى بوضوح تحققه تطابقا مع الطريق الذي رسمه الاستقلاليون وقد أفاد الحركة الاستقلالية تحول الاتحاديين لطريق الاستقلال فيما بعد بسبب أحداث كشفت عن عدم ضمان الركون للوعود المصرية - في ذلك الوقت:(منذ الاحباط الذي أصاب قادة 1924م،وتنحية نجيب ،وشراء صلاح سالم للذمم بشكل صريح يثير المستقيمين المخلصين، ثم الاختلاف بين الاتحاديين على تفسير ماذا يعنون بالاتحاد مع مصر).
كان الهدف هو التحرير الكامل للدولة السودانية دون تبعية لبريطانيا(ضمن دول الكومونولث) أو تبعية لمصر عن طريق الاتحاد القسري.
ونحن نخطو نحو ختام تناول هذه المسيرة يحسن بنا اسناد الفضل لأهله والاعتراف دون غمط لمجهودات الآخرين بأن الإمام عبدالرحمن هو الدينمو المحرك لهذا الانجاز العظيم فنستعرض أهم ملامح ووسائل تحقيق أهدافه :
1-جمع المال كوسيلة مفصلية لخدمة الهدف فقد عرف الإمام أهمية المال لخدمة السياسة.
- في 1925م أنشأ الإمام دائرة المهدي وهو في نحو الأربعين من عمره.
- ومنح في عام 1928م 108 فدانا لزراعتها قطنا وعند نجاحها سمح له بري 2900 فدان وبعد ذلك قام بزراعة ثلث ما امتلكه من الأرض بالقطن(150.000 فدان) .
(قدرت ثروة الامام 20-30 ألف جنيه مصري ريعا سنويا لمشاريعه الزراعية.صرفها كلها في سبيل استقلال السودان وقد استخدم من الوسائل التي تدل على فهم واعي بوجوب الاعتناء بالمظهر والمسكن بصورة تم توظيفها تماما في خدمة قضيته.
2-لم شمل الأنصار وحفظ روحهم الجهادية والمعنوية في أعلى درجاتها.
- باندلاع الحرب العالمية الأولى 1914-1918م بدأ تغيير في سياسة الحكومة لاستمالة زعماء العشائر طلب منه ونجت أن يزور الجزيرة ليضمن ولاء المواطنين للحكومة وقد عمل الامام في هذه السانحة على انشاء شبكة من المناديب والوكلاء طلب اليهم المداومة على الصلاة وقراءة الراتب وأمور تنظيمية أخرى وبهذه الاستجابة ظهرت شخصيته المتفتحة على قراءة الأحداث وتقدير الظروف والملابسات.
- وفي 1917م قرر أن يقوم بخطوة جريئة فحمل الراتب الذي كان ممنوعا تداوله ،كجريمة لمدير المخابرات الذي عرضه على الشيخ المراغي قاضي القضاة الذي وافق عليه وصرح بتداوله، وظهرت أول طبعات للراتب في 1920 دون أن تطالها يد رقيب.
وقد عرف ما للراتب من مقدرة على حفظ روح الجهاد .
- ومنذ 1919م صارت أبا قبلة المهاجرين لود المهدي فيما عرف في وثائق الحكومة (بالحج) الشيء الذي أقلق الحكومة وأزعجها فقدمت له لفت نظر.
- ابتداء من 1921م صار للامام استعراضا سنويا بمناسبة رمضان وقد أمّه في 1923م جموع كثيرة من الأنصار مما جعل الحكومة تستدعي الامام في الخرطوم وتأمره بتفريق جموع الأنصار.

3-استقطاب الآخر السوداني بصورة مذهلة.
- 1918 ساعد في تأسيس أول نادي للخريجين في اطار اتجاهه لبناء علاقات مع المثقفين.
- ثم دعم مؤتمر الخريجين وساهم في يوم التعليم في دورة المؤتمر الرابعة في يناير 1941م وكان أول رئيس للمؤتمر السيد أحمد ابراهيم من أنصار حزب الأمة.وتوجه للخريجين بكلياته حتى أضاع على الانجليز فرصة تأليب الخريجين والمثقفين ضده وقد كان هذا هدفهم من التصريح بانشاء مؤتمر الخريجين.
4-أدرك أهمية الأحزاب كأدوات للحكم
فأنشأ حزب الأمة(نادي الأمة) منذ 1945م وقد كان دستور الحزب متمحورا حول السودان للسودانيين ومطالب المؤتمر الأثني عشر التي رفعها للحاكم العام في 2 أبريل 1942م.
5-اتخاذ طرق التطور الدستوري طريقا وحيدا لتحقيق الاستقلال.
حيث دعم المجلس التنفيذي و الجمعية التشريعية وشارك حزب الأمة ومؤيديه من الأنصار في انتخاباتها ثم كان مطلب الحكم الذاتي الذي تقدم به أحد نواب الحزب في 1952م للجمعية التشريعية وأظهر به أن ولاءه الأوحد هو للسودان مما دعا الدولة البريطانية لمعاداته وانشاء الحزب الاشتراكي الجمهوري شوكة تعيقه.
6-عجمه لمعادن الرجال:
كان الرجال حوله معددودين من أبناء الروح وكان الامام يتعامل معهم بما يليق بهم من مكانة ويشاورهم ويستشيرهم ويناصحونه ويفوضهم تفويضا كاملا وقد كانت النتيجة كوكبة من الرجال الذين فخر بهم السودان ومن الأمثلة على هذا ما قاله له شيخ بابكر بدري (يا سيدي انت ورثت همة أبوك لكنك وضعتها في الدنيا)فما كان من الامام الا أن رد عليه بأريحية معهودة عنده(لو قالها غيرك يا شيخ بابكر..انما ورثت همة أبي ووضعت الدنيا في يدي وسخرتها لخدمة الدين) ومثل هذا كثير ومنه تفويضه الوفود للتفاوض بأخطر قضايا السودان دون سقوف سوى عدم التفريط في السيادة. ومن هؤلاء النفر نذكر أسماء على سبيل المثال و ليس الحصر بأية حال: عبدالرحمن علي طه، أمين التوم ، عبدالله خليل، عبد الله عبد الرحمن نقد الله، حسن محجوب مصطفى، عبد الرحيم الأمين، حسين شريف، عبد الرحمن النور، يعقوب عثمان، الدكتور مامون حسين شربف، الدكتورعبد الحليم محمد، ،يوسف مصطفى التني ، الصديق المهدي ..والقائمة تطول.
7-ادراك أهمية أدوات الزمن ومواكبة المستجدات:
- إدراك تطور الزمن وتابع واستخدم كل القرارات العالمية التي صدرت لتنظيم العالم بعد الحرب مثل مباديء الرئيس الأمريكي وميثاق الأطلنطي وغيرها وما للرأي العام للناخبين، من سطوة على المنتخبين واستخدم في ذلك الصحافة ولم يتوانى عن طرح قضيته على كل المنابر (مجلس الأمن وغيره) وحاول التأثير على المفاوضات التي تمت بشأن السودان بالاتصال المباشر بشخصه أوبارسال الوفود التي تنوب عنه بجهات الاختصاص أو بالبرقيات (الاحتجاج على معاهدة 1936 والتي لم تترك للسودان سوى الرفاهية وذلك بسفره الى بريطانيا واستفساره في يوليو 1937م الحكومة البريطانية عن ما تعنيه بالرفاهية ،افشال برتكول صدقي بيفن أكتوبر1946م الذي زعم تحقيق السيادة المصرية على السودان بمقابلة كلمنت أتلي رئيس الوزراء البريطاني في نوفمبر 1946م وتذكير البريطانيين بوعودهم وبتعاونه معهم على ما ارتضاه من تطور دستوري ،وتخويفهم بردود الفعل الغاضبة الخارجة عن السيطرة، حال احجامهم عن التنفيذ (وفي الذاكرة البريطانية محفور أن هذه التهديدات ليست مما تزروه الرياح فمقتل غردون بطلهم القومي ما زال ماثلا) .عكس الراي الاستقلالي لمن قابل من الأمريكان عندما شعر بتدخلهم لاسترضاء مصر بسبب مشروع الشرق الأوسط، ومحاولات عديدة منذ 1937م لمقابلة المصريين(ابراقه لصدقي لتحديد موعد لمقابلته في طريق العودة من بريطانيا) لعكس وجهة النظر الاستقلالية وتطمينهم على خلوص النية الاستقلالية نحو مصر ولكنهم لم يستجيبوا الا في 1952م وذلك عند دعوة الهلالي للسيد عبدالرحمن لزيارة القاهرة عندما شعروا بأن أهدافهم في السودان لن تتحقق الا اذا استطاعوا تمريرها عبر من يمثلهم السيد عبدالرحمن).وفي كل ذلك فقد حاور وناور دهاقنة ساسة الزمن بمنطق لين ولكنه ليس بهين ولا يعرف الالتواء وهو الذكي اللمّاح والذي وبالرغم من محدودية ثقافته التي لا ترقى حتى لثقافة والده الشرعية الا أنه استطاع بعبقرية فذة و دون تنازل عن حق تحقيق استقلال السودان موحدا وباجماع رائع صدق فيه وصف الشاعر:
أبوك غزا بالسيف فانقاد من طغى وسيفك للأعداء رأي مسدد
فكان ذلك اليوم في صبيحة 1/1/1956م الذي خرج فيه نواب البرلمان ومعهم جماهير الشعب الغفيرة في موكب مهيب إلى سراي الحاكم العام ليشهدوا انزال علمي الحكم الثنائي بواسطة رئيس الحكومة الأزهري وزعيم المعارضة السيد محمد أحمد المحجوب من على سارية قصر الحاكم العام مما استئذنا في تسطيره عبر ذاكرة الامام.

وسلمتم

 

آراء