ملكية الأرض فى ظل السياسات الإستثمارية لحكومة الإنقاذ الوطنى وتأثيراتها على جبال النوبة!!..بقلم: آدم جمال

 


 

 



  نشأت معظم الإنتهاكات والنزاعات حول ملكية الأرض أو حول المزارع والمشاريع المطرية فى منطقة جبال النوبة ، والتى تتم تسجيلها دون تدخل أو موافقة من المجتمعات المحلية ، لأن إجراءات تسجيل الأراضى وطرق نزعها من السكان الأصليون ما زالت تبدو غريبة فى نظر سكان منطقة جبال النوبة وخاصة الريفيين ، فالعلمية تتطلب إلماماً بالقراءة والمتابعة بما يجرى والكتابة بكشف ما يتم من مخطط مرسوم ومعرفة بيروقراطية الدولة ، وغالباً ما تطلبت على المستوى العملى معرفة شخصية موظفى الدولة ، إستعداداً لخوض المعركة لوقف ما يتم من عبث بحق ملكية الأرض.
كانت حقوق الملاك غير المسجلين حتى عام ١۹۷۰ م محمية لحد ما بالإقرار بالإدارة الأهلية وسلطتها فى ما يتعلق بالأرض ، ولكن قانون الأراضى لعام ١۹۷۰ م أغلق الباب أمام أى حق فيما عدا حق إستعمال الأرض غير المسجلة ، كما قيد حقوق السلطات المحلية ، وقد جعل تلك الأرض غير المسجلة قابلة للنزع أو لأى تسجيل غير محتمل ، فمن الناحية النظرية فإن المزارعين المؤهلين هم فقط الذين يسمح لهم بتسجيل الأرض ، ولكن فى الواقع العملى أن هذه الأراضى تذهب الى أشخاص أخرون ومؤسسات خارج نطاق المنطقة ( الوافدين ) أو ما يسمى بالمستثمرون الجدد ، يتمتع الفرد منهم بأن له رأس المال ومستعد لتأجير شخص مسؤول عن الأرض أو المزرعة أو المشروع ، ونتيجة لذلك فإن العديد من المستثمرين قاموا بتسجيل أراضى لم يروها مطلقاً ، وقد تكون مستخدمة للزراعة بواسطة السكان المحليين أو للرعى بواسطة الرعاة ، ولكن بمجرد أن يتم تسجيلها فإن هؤلاء الناس ( والذين قد يكونوا يستخدمون هذه الأرض لأجيال خلت تحت القناعة الخاطئة بأن ذلك جعل ملكيتهم مؤكدة ) .. يصبحون متعدين بموجب القانون ، إن القانون مصاغ بشكل يجعل من التعدى تهمة خطيرة يعاقب عليها بالغرامة أو السجن ، ولهذا فإن الشاغلين السابقين للأرض بدون أى نوع من التعويض هو أمر بديهى.
لقد توسعت مناطق حزان الزراعة الآلية بين عامى ١۹٦٨ و ١۹٨٦ م بمنطقة جبال النوبة الى أكثر من ثمانية مليون هكتار ( 8 مليون ) ، وبمنتصف الثمانيات إستولت على معظم الأراضى وإمتدت بشكل واسع ، فكانت كارثة إقتصادية وبيئية وإجتماعية ساهمت فى مجاعة عام ١۹٨٤ – ١۹٨٥ م ، وفى خطط ما بعد المجاعة أوصت وزارتى المالية والإقتصاد بشدة ، بالتحول من المزارع الآلية التجارية الى دعم الملكيات الصغيرة عبر البنك الزراعى ، والذى أصبح وبالاً ونقمة على صغار المزارعيين التى توقفت مزارعهم عن التوسع بعد ما أودع بالكثير منهم الى غياهب السجون ومصادرة ممتلكات البعض منهم وتحويلهم الى متسولين ومطاردين من قبل القانون ، بينما عدداً من المشاريع الخاصة والملاك الجدد توسعت على مساحات أكبر من تلك المسجلة بها ، والتى تعتبر من الناحية العملية فوق القانون واللوائح.
ومنذ إدخال الزراعة الآلية الموسعة فى السبيعنيات ، حدثت أكثر الإنتهاكات فظاعة فى منطقة جبال النوبة ، فأصابت المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة ، إذ تقع حوالى ربع ثلث مساحة مشاريع الزراعة الآلية فى السودان بولاية جنوب كردفان ، وكانت هناك حالات كثيرة تم فيها إبعاد مزارعى جبال النوبة من أرض أسلافهم ، وقد قدم بعضهم للمحاكمة وعوقبوا عندما رفضوا التخلى عن أراضيهم إما بالجلد أو السجن ، وفى عام ١۹٨١ م فى قرية ( فايو ) بمناطق الغلفان لقد حوصرت كل القرية بمزرعة آلية أنشئت حديثاً إستولت تقريباً على كل أراضى القرية ، و كذلك فى عام ١۹٨٤ تم القبض على ثمانين مزارعاً رفضوا تسليم أراضيهم لمؤسسة زراعية كونها تجار أثرياء ووزراء فى إمتداد مشروع ( موغنيس ) بجوار منطقة رشاد ، ومن ثم قدموا الى محكمة الكوارئ فى مدينة كادوقلى.
إستمر توسع المشاريع الخاصة بالزراعة الآلية فى عهد حكومة الإنقاذ الوطنى ، وصار أكثر عنفاً بعد إصدار الحكومة لقانون تشجيع الإستثمار لسنة ١۹۹۰ م والذى نص فى مادته الثالثة على:    ( تسود أحكام هذا القانون على أحكام قانون آخر فى حالة تعارضه معه بالقدر الذى يزيل التعارض بينهما ) ، وقد تم بناء على نص الفصل السادس المادة ٢۳ من القانون إنشاء الهيئة العامة للإستثمار كما نصت المادة ٢٤ على تشكيل المجلس الوزارى الذى من صلاحياته:

١ -  تهيئة المناخ المناسب للإستثمار ووضع السياسات العامة وتشجيعه.
٢ - تحديد حجم المشاريع ونوعها.
۳- وضع الأسبقيات فى منح التراخيص.
٤- تخيض الأراضى الإستثمارية.
٥-  إجازة الخريطة الإستثمارية القومية وموجهاتها وكتطلبات البنيات الأساسية.

ولقد تم تكليف الدكتور على الحاج الإسلامى المخضرم برئاسة الهيئة العامة للإستثمار التى أصدرت لآئحة تشجيع الإستثمار لسنة ١۹۹۰ م ، وتبنى د. على الحاج ما أسماه بسياسة ( إباحة الإستثمار ) تحقيقاً للإستراتيجية المجازة ضمن البرنامج الثلاثى للإنقاذ الإقتصادى ( ۹۰ – ١۹۹۳ ) ، وقد نصت المادة ٤ من الوسائل والتى تعد المادة الأساسية فى تنفيذ كل السياسات على ( إزالة كل العقبات الإدارية والإقتصادية والقانونية أمام رجال الأعمال والمستثمرين وكل العاملين فى الحقل الإقتصادى من حرفيين ومهنيين ومزارعين وخريجين وكذلك كل المستثمرين غير السودانيين لينطلقوا للعمل فى ظل سياسات وإجراءات جديدة ... ).
قامت الهيئة العامة للإستثمار بتنفيذ خطة إستثمارية للأراضى واسعة النطاق ، حيث وزعت بموجبها ملايين الأفدنة الزراعية فى مناطق كردفان وجبال النوبة والنيل الورق وأعالى النيل على شركات وأفراد بغرض الإستثمار الزراعى وتمشياً مع فلسفة ( إزالة كل العقبات أما المستثمرين ) ، وأصدرت الهيئة فى عام ١۹۹١ م الخريطة الإستثمارية بموجب قرار من رئيس الجمهورية الأمر الذى يحرم أى شخص متضرر من اللجوء الى المحاكم والتى لا يجوز لها آنذاك النظر فى قرارات رئيس الجمهورية ، كما قامت الحكومة بتعديل قانون المعاملات المدنية تمشياً مع ذلك الغرض.
لقد كرست تلك السياسات واقعاً ظالماً ومأساوياً بالنسبة للمزارعين والرعاة فى تلك المناطق حيث حرموا من الأراضى التى يعتمدون عليها فى معاشهم ، كما حرموا من أى فرص للتقاضى والإحتجاج ، فبناءاً على التعديلات المشار اليها شطبت كل الدعاوى التى رفعها الأفراد الذين تضرروا من الخريطة الإستثمارية التى تجاوزت كل الحقوق التاريخية للقبائل الزراعية والرعوية ، التى كانوا يستغلونها فى الزراعة التقليدية ، كما عمد بعض المستثمرين الذين أزيلت من أمامهم العقبات القانونية الى إستثمار الأراضى التى منحت لهم فقط فى تجارة الفحم النباتى والحطب بأنواعه أنتجت كميات مهولة سببت اضراراً بيئية وخيمة فى تلك المناطق من تعرية للتربة والزحف الصحراوى وغيرها ، الى درجة إستدعت قيام محاولات لتأسيس فروع لجمعيات حماية البيئة ، إلا أنه تم إعتقال المجموعات التى كانت تقود ذلك العمل.
أما فى جبال النوبة والنيل الأزرق فكان الواقع محزناً حيث وزعت ألاف الأفدنة على أنصار الحكومة وكوادر الجبهة الإسلامية ومن الإسلاميين العرب مثل اسامة بن لادن الذى منحت شركته وادى العقيق مساحة لا تقل عن ( 20 ) ألف فدان فى منطقة ( باو ) ، وشركات أخرى إسلامية بينما حرم المواطنون الفقراء والسكان الأصليون فى تلك المناطق من حيازاتهم التقليدية ، وكذلك حرمت القبائل الرعوية فى المنطقة من مساراتها الرعوية التى كانت ترتادها من سنوات طويلة الأمر الذى فجر نزاعات دامية بين العرب الرحل ( الرعاة ) والنوبة ( المزارعين ) فى جبال النوبة ، وصراعات قبلية ما بين العرب والفلاتة بجنوب النيل الأزرق.
وهناك تجاوزات حدثت فى توزيع ملكية الأراضى بجبال النوبة فى مجال الخطة السكنية والمحلات التجارية والمواقع الإستثمارية والمشاريع الزراعية فى الأرياف والمدن الكبيرة مثل الدلنج – كادوقلى – رشاد – أبوجبيهة – كالوقى – لقاوة – الليرى – تلودى ، حيث الثراء الفاحش وغلو فى الأراضى وإرتفاع جنونى فى الأسعار والإيجار من قبل الملاك الجدد ( الوافدين ) من خارج المنطقة ، والتى أصبحت عوأئد إستثمارية ذات فوائد ربحية تفوق كل تصور مقارنة بالعاصمة القومية.
ونحن لا ننكر بأنه لقد الكثير من السودانيون من ذوى الأصول الغرب – أفريقية يعانون من التمييز فى لقانون السودانى منذ العهد الإستعمارى ، لقد حرموا من كثير من الحقوق وغالباً ما تمت معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية والثالثة ، وأحد تجليات ذلك هو غياب أى دار للفلاتة والبرقو والعرب الرحل فى السودان ، بالرغم من أن هناك مناطق معينة فى السودان يسودها الفلاتة بما فى ذلك  .. مايرنو فى النيل الأزرق – وتلس فى دارفور وهى مناطق أصغر من أن تغطى إحتياجات تعداد ما يرنو على المليون فلاتى معظمهم رعاة.
لقد إستخدمت حكومة الجبهة الإسلامية قضية الفلاتة فى جنوب النيل الأزرق .. والعرب الرحل والبرقو والفلاتة فى جبال النوبة ، بطريقة ماهرة بغرض أن تنتهج سياسة ( فرق تسد ) على المجتمعات الريفية والسكان الأساسيين ، فلقد ضمنت لنفسها عن طريق وعد هذه المجموعات بالأرض وحقوق أخرى ، ليصبحوا حلفاء أقوياء من خلال حروبها التى تحسبها خاطفة ، وفى نفس الوقت الذى أفزعت فيه جماعات أخرى كثيرة من أراضيها ستمنح لهم ، ولا بد أن يعى الجميع إن تكتيكات الجبهة الإسلامية غير أخلاقية وخطيرة ، على الرغم من ذلك فإن قضية الفلاتة والبرقو والعرب الرحل حقيقية وإنسانية ولن تختفى ، سيكون مهماً أن تضمن الحكومة حقوق أراضى لهؤلاء فى المناطق المختلفة بإتفاق مع السكان الأصليون لهذه المناطق المختلفة من السودان بشكل يلبى إحتياجاتهم ولا يخرق حقوق السكان الأخرين ، ولا بد من إعادة النطر فى كل ماتم من توزيع فى الأراضى وملكية الأرض والتى تتمثل فى المشاريع الزراعية والمواقع السكنية والإستثمارية والتجارية وأراضى الريف وتجميد فورى لكل التسجيلات التى تمت ، وإقرار قانون بأعراف الأراضى وبالطبيعة العادلة للحقوق العرفية الخاصة بالأرض.

          سدنى – استراليا         ٢ أغسطس ٢۰١۰م      

Adam Gamal Ahmed [elkusan67@yahoo.com]

 

آراء