عرفت الدكتور منصور خالد أشهر من تولى وزارة الخارجية في السودان، في فترة مبكرة من بدايات وعيي الشخصي تعود إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، عبر كتابه الأول والأشهر (حوار مع الصفوة).
وكان هذا الكتاب حين اقتنيته النجم البارز بين مطبوعات جناح دار جامعة الخرطوم للنشر في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأولى في أرض المعارض بمدينة نصر خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من شهر يناير للعام 1980، وكنت حينها طالبا في السنة الأولى من دراستي الجامعية. وقبل ذلك بنحو عامين كنت قد شاهدت الدكتور منصور خالد وجها لوجه عندما زار بصفته وزيرا للتربية مدرسة الخرطوم الثانوية العليا الجديدة، التي كنت حينئذ طالبا فيها، وأذكر أن معظم حديثه في تلك الزيارة تركز حول مكتبة المدرسة، وأهمية أن يتوسع الطلاب في (القراءة المكثفة) في مختلف ضروب المعرفة.
ورغم أن عبارة (القراءة المكثفة) قد شغلت ذهني منذ ذلك الوقت، إلا أن الذي لفت نظري في هذا الكتاب عندما قرأته للمرة الأولى، ثلاثة شواهد:
أولها: إن الدكتور منصور خالد رجل مستقيم الفكرة نزيه الرأي ليس له حسابات سياسية، وكان ذلك نوعا نادرا من المثقفين السودانيين والعرب في ذلك الوقت. ثانيها: إن الدكتور منصور في حوار مع الصفوة كان رجلا لا يمارس ألاعيب السياسة، ولم تشغله أية معارك سياسية تقتضي المجاملة أو شيئا من التنازلات. كان يكتب ما يعتقد أنه الصواب.
ثالثهما: توفر الدكتور منصور خالد على إمكانيات ذهنية وثقافية تشير إلى مفكر كبير متابع بدقة للتطورات السياسية والفكرية في العالم. وفوق كل ذلك فهو الدارس المتعمق للقانون والسياسة مما ساعده على تكوين عقلية مركبة تستلهم عبقرية التناقض وتكتشف الروابط بين التطورات.
سيرة المؤلف
يحنلفالسودانيون كثيرا ويشتجرون حول شخصية الدكتور منصور خالد، إلا أن الأوفق هنا أن نستعير تعريف الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)، الذي يقول (منصور خالد محمد عبد الماجد دبلوماسي وكاتب وسياسي ومفكر سوداني. يعد من أكثر الشخصيات السودانية إثارة للجدل نسبة لآرائه المختلفة ولخطورة مناصبه المحلية والعالمية التي تقلدها).
ولد مؤلف الكتاب في حي أبوروف المطل على نهر النيل شرقي أمدرمان العاصمة الوطنية للسودان في يناير 1931.
ويقع حى أبوروف فى الجزء الشرقي من أمدرمان على الشاطئ الغربي لنهر النيل، يحده من الشمال حيي الكبجاب القماير. وتتداخلمعه من الغرب أحياء: الهجرة، سوق الشجرة، الخنادقة، ود البنا، وود أرو. أما من ناحية الجنوب فيتداخل مع حى بيت المال تداخلا شديدا.
ويعد أبوروف من أعرق أحياء أمدرمان، فقد تأسس في أعقاب انتصار الثورة المهدية، متخذا اسمه من اسم الأميرأبوروف أحد قادة الثورة المهدية.
وينتمي الدكتور منصور خالد إلى أسرة دينية عريقة من الجعليين العمراب تمتد جذروها إلى الشيخ حامد اب عصا. فجده لأبيه المتصوف المالكي الشيخ محمد عبد الماجد، وجده هذا الأخ الشقيق لجد منصور لأمه الشيخ الصاوي عبد الماجد الذي كان أيضا قاضيا شرعيا، وعمل في تدريس الفقه. وإضافة إلى عراقة الأسرة التي تنحدر من صلب سليمان، وهو الابن الأكبر للشيخ حامد ود عمر ود بلال فقد غلب عليها أيضا طابع التصوف، وهو ما وثقّه منصور بنفسه في تحقيقه لمخطوطة سيرة جده التي أصدرها بعنوان (الثلاثية الماجدية).
تلقى تعليمه الأولي بأمدرمان، ثم مدرسة أمدرمان الأميرية الوسطى، ثم مدرسة وادي سيدنا الثانوية العليا، ثم كلية القانون جامعة الخرطوم. حصل على الماجستير في القانون من جامعة بنسلفانياوالدكتوراه من جامعة باريس.
لورد أمدرماني
عمل الدكتور منصور خالد بعد تخرجه في جامعة الخرطوم بالمحاماة لفترة قصيرة، ثم عمل سكرتيرا لرئيس وزراء السودان الأسبق عبد الله خليل. انتقل بعد ذلك للعمل في منظمة التربية والثقافة والعلم في باريس (اليونسكو)، وعمل أستاذا للقانون الدولي بجامعة كلورادوالأمريكية. وبعد قيام ثورة مايوبقيادة الرئيس الراحلجعفرمحمد نميري (1969 ـ 1985)، بدأت رحلة الدكتور منصور خالد مع المناصب الدستورية، فقد عين وزيرا للشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية، وشهد قطاع الشباب إبان وزارته تفعيل دورهم في الخدمة الطوعية، وفي إنشاء مراكز: الشباب، التأهيل، ومحو الأمية. وأسهم في خلق علاقات قيمة ومفيدة مع اليونسكو. ونظم عددا من المهرجانات الشبابية، وتأسيس قصور الثقافة، وابتدار انعقاد الندوات الفكرية العريية في الخرطوم.
ورغم أن الدكتر منصور خالد قد تقلد عدة مناصب رفيعة في السودان من وزارة الخارجية ووزارة التربية وكمساعد لرئيس الجمهورية، إلا أنه في العام 1978 خرج من (ثورة مايو)، لأنه رأى أن الرئيس الراحل جعفر نميري (1931 ـ 2009)، (قد تغول على المؤسسية في الدولة).
وعن جدارة واستحقاق لمع اسم الدكتور منصور خالد في سموات السودان، وهو من مثقفيه القلائل الذين يجيدون العربية والإنجليزية بطريقة مدهشة، فقد درس الفقه على مذاهبه المختلفة، ويحمل ذخيرة كبيرة من الشعر العربي القديم والحديث يستشهد بها ويتمثل بها في المواقف المختلفة. وهو كاتب له نكهة خاصة يجبرك أن تقرأه إلى النهاية، وهو مؤلف يجيد اختيار العناوين وعناوين الأبواب والفصول.
حصاد القول هنا أن الدكتور منصور خالد رغم أنه ولد وتربى في بيئة دينية محافظة ومتفقهة، إلا أن الغربة قد غلبت على حياته الشخصية، لدرجة اعتبار أنه لورد من حواري أمدرمان نشأ في منطقة يشهد بعراقتها كل أهل السودان تمتد من (علايل أبورزف إلى المزالق).
المقال الصحفي
عندما ندون تاريخ المقال الصحفي في السودان، سنكتشف أن الدكتور منصور خالد كاتب من طراز فريد، فهو أحد قلائل كتبوا المقال الصحفي عن خلفية علمية متميزة فقد كان إعداده الجامعي يؤهله لمهنة القانون التي سرعان ما هجرها للعمل في المجالات الإنسانية وممارسة السياسة التي سلك فيها دروبا وعرة منذ شبابه الغض، وهنا تحضرني شهادة الشاعر المطبوع حسين بازرعة وهو زميل للدكتور منصور خالد في مدرسة وادي سيدنا الثانوية. يقول بازرعة في شهادته للصحفي المخضرم كمال حسن بخيت (شاهدت مجلتي النيوزيك والتايم لأول مرة في مدرسة وادي سيدنا عند منصور خالد الذي لا تجده إلا ومعه كتاب).
تعيدنا هذه المقدمة 50 عاما إلى الوراء إلى مجموعة مقالات نشرها الدكتور منصور خالد بتشجيع شديد اللهجة من عميد الصحافة السودانية الراحل بشير محمد سعيد (1923 ـ 1993) أحد مؤسسيكبرى الصحف السودانية (الأيام)، ومن ثم جمعت في كتاب قدم له رائد التنوير السوداني الراحل جمال محمد أحمد (1915 ـ 1986)، مرتين في عامي 1965 و1968، لكنها ظلت حبيسة حقيبة سفر لا ترتاح.وقد كان (عمو جمال) الاسم المحبب لتلاميذه وعارفي فضله.
وأخيرا تيسر لهذه المقالات أن تصدر في كتاب بعنوان (حوار مع الصفوة) يحتوي على 230 صفحة نشرته جامعة الخرطوم في العام 1974، وقدم له (عمو جمال) بمقدمة ضافية نلتقط منها عبارة مهمة جدا تقول (منصور خالد قومي سوداني أكبر من كل بطاقة يسير بها الناس).
وثمة استدراك مهم جدا تصدر الكتاب يفيد أن المجموعة الأولى من هذه المقالات كتبت عقب انتفاضة أكتوبر 1964، عندما كان المؤلف يعمل مندوبا للأمم المتحدة في الجزائر. وكتبت المجموعة الثانية خلالما سماه المؤلف بـ(فترات التيه والضياع) التي أعقبت ثورة أكتوبر،وكان الكاتب يعمل في منظمة اليونيسكو في باريس.
ذاكرة مضادة
رغم أن المقالات التي جمعت في كتاب (حوار مع الصفوة)، نشرت قبل 50 عاما، إلا أن القضايا التي أثارتها ما تزال تملأ حياة أهل السودان السياسية بكل ما في كلمة تعقيد من معاني.
ويرى البعض، ولست منهم، أن حوار مع الصفوة عبارة ذات بريق ودلالة يُعتد بها، لكنها تظل دوما عبارة فضفاضة وضبابية كمدلول لاتجاه أو لتأكيد يعكس غموض الطبيعة البشرية. لكن هذا الرأي يدحضه أن تحليل مضمون مقالات الدكتور منصور خالد التي تعني بالحوار أن يحقق الإنسان بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو الدين، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للحوار وللإنسان نفسه كأعلى قيمة في الوجود.
ولعل المفكر حين يثير الحوار، يقدمه بحسبانه (ذاكرة مضادة) على حد تعبير ادوارد سعيد، بمعنى أن الدكتور منصور خالد يقدم في حواره مع الصفوة خطابه المعاكس الذي يمنع الضمير من أن يُشيح بنظره، أو أن يستسلم للنوم، فضلا عن أن التاريخ لا ينتهي ولا يكتمل أبدا، كذلك الأمر في قضايا الحوار الجدلية التي يستحيل تجاوزها، بل إنها ليست قابلة لأن تُطوى في توليفة راقية، أو نبيلة، وهذا ما يمكن ملاحظاته بوضوح في مقالات كتاب (حوار مع الصفوة).
ويدعم (عمو جمال) هذا الاتجاه بقوة حين ينقلنا بعبارات رشيقة إلى الطقس السياسي وأصدائه حين نشرت تلك المقالات بقوله (أثلجت غضباته صدور أكثر الشباب، لأنه واحد منهم، يتميز عنهم ببيان يقنع، يعبر عن ذاتهم كما يعبر عن ذاته، فهي تحس ما يحس، ولا تملك ما يملك هو، من معرفة بتجارب عالمنا العربي والإفريقي، يتصدى لدقائق الحكم والإدارة والتعليم والثقافة. يستلهم تجاربه الثرة). انتهت عبارات (عمو جمال)، والضمير المفرد في النص يعود إلى الدكتور منصور خالد.