إني يا أجدادي لست حزينا مهما كان فلقد أبصرت رؤس النبت تصارع تحت الترب حتما ستظلّ بنور الخصب ونور الحب حتما حتما يا أجدادي شعراء الشعب محمد المكي إبراهيم ــــــــــــــــــــــ
abusamira85@gmail.com غريب هو حالنا في السودان خصوصا عندما يحاول المرء النظر في شكل التركيبة الطبقية والمجتمعية أو حتى تفسير الذوبان السريع للطبقة الوسطى واختفاء أية بارقة أمل معها بانتقال صفوة هذه الطبقة لمرحلة تشكيل حالة وطنية قادرة على تشكيل حالات الوعي التنويري وإسقاطه على مجمل تفاصيل المشهد السياسي والمجتمعي. خطر داهم لندع هذا الحال الغريب جانبا، هل نكون محقين إن جاء فهمنا للفصل الثالث والأخير من كتاب الدكتور منصور خالد (حوار مع الصفوة)، أن النخبة السودانية لم يعد لها دور في صنع القرار، وبعد ذلك تهدمت صورتها المثالية وفقدت بمرور الوقت قيمتها التأثيرية على الجماهير التي تدرك أن القيمة الإنسانية الحقيقية، ليست في هالة المكانة الأكاديمية ولا المعرفية ولا الثقافية المفرغة اليوم من كل معاني القيم، ذلك أن العديد من الأحداث الوطنية أظهرت غياب النخبة المثقفة وقطيعتها مع المجتمع وانفصام كثير منها عن الواقع. عن سر هذا الغياب أو التغييب، تناول الدكتور منصور خالد في خواطره العشر التي بثها في حواره مع الصفوة، مسألة تتعلق بممارسة النخبة قد أدت إلى (خلق شعور غريب على المجتمع السوداني .. شعور الاستعلاء الطبقي الذي تبدو مظاهره ليس فقط في أسلوب الحياة، بل وفي قيم الحكم التي نسعى جاهدين لغرسها)، منتهيا إلى أن هذا (خطر كبير داهم). مشاركة العمال على أن المهم في خواطر الدكتور منصور خالد العشر تأكيده على أن أهم حدث سياسي عقب ثورة أكتوبر 1964، تمثل في مشاركة العمال والمزراعين في الحكومة. واستند في هذه الأهمية إلى أن الوسط السياسي في السودان يحسب أن الحكم في أحسن الأحوال، تكليفا لصفوة تنتمي لطوائف اجتماعية أو تشريفا لا يستحقه لمن ينتمون لطبقات بعينها. و رغم أن عمر هذا التأكيد تجاوز الـ 50 عاما، إلا أنه صالح في التجريب على كل الأنظمة السياسية التي سادت في البلاد خلال الخمسين عاما، وربما كانت النتائج كارثية، بغض النظر عن نوع الحكم الذي تجرى عليه التجربة. تحليل اجتماعي يبدي الدكتور منصور خالد تواضعا في الخاطرة السابقة، فحواه أنه يقوم بتحليل اجتماعي لحقيقة تاريخية ولا يصدر حكما سياسيا. غير أن هذا التواضع يقودنا إلى أن نظرية النخبة السياسية صارت من أهم موضوعات علم الاجتماع السياسي. وقد يذهب أنصارها إلى أنها حقيقة موضوعية، لأن الشواهد التاريخية وواقع المجتمعات السابقة والمعاصـرة، تتميز بوجود أقلية حاكمة، محتكرة لأهم المناصب السيـاسية والاجتماعيـة، وبيدها مقاليد الأمور، وأغلبية محكومة منقادة وليس لها صلة بصنع القرار السياسي بشكل عام. ورغم أن (النخبة السياسية) أصبحت تحظى باهتمام كبير من طرف الباحثين في مجالي السياسة والاجتماع، إلا أن الغموض يكتنف جوانب كثيرة ومهمة، مثل: علاقتها مع النظم شمولية: كانت أم ديمقراطية، آليات اختيار وعمل النخبة، العلاقة بين النخب السياسية والاجتماعية، وهلمجرا. التحول الديمقراطي لا أتفق مع نظريات الثقافة السياسية التي تعتبر أثر القيم الاجتماعية السائدة على السلوك السياسي عاملا رئيسيا في حسم مسألة نجاح التحول الديمقراطي أو فشله. وقد يحتاج الأمر إلى معالجات متعمقة، لكن ما يمكن أن نضيفه لحوار الدكتور منصور خالد مع الصفوة التأكيد على أن ثمة (استثنائية سودانية) ليس على مستوى تطور العلاقة بين الثقافة والديمقراطية، بل على مستوى تطور العلاقة بين الأمة والهوية القومية. وكتب التاريخ تفيدنا أن عدم حسم هذه العلاقة، يؤدي إلى تفتيت الكيانات الوطنية القائمة، ويساهم أيضا بطرق متعددة في عرقلة التحول الديمقراطي، لأنه يكرّس (السلطة)، وليس (الدولة) كضمان لوحدة الكيانات السياسية، في مقابل صراع الجماعات ما تحت القومية. الجماعة الوطنية واقع الحال أن الساقية مدورة، والشيء بالشيء يذكر، فإن أكثر ما يميز المشهد الساسي على مدى الخمسين عاما التي أعقبت كتاب (حوار مع الصفوة)، هو غياب أية حالة من حالات الجماعة الوطنية الراعية لأي مشروع قومي سوداني حقيقي، على الرغم من أن ظهور هذه الجماعة في سياقها التاريخي يمثل أهم عوامل التغيير المجتمعي. طبقة الصفوة القراءة المنطقية لطبيعة تشكل طبقة الصفوة الصاعدة يوضح أن ظهور هذه الطبقة في سياقها التاريخي يمثل واحدا من أهم عوامل التغيير المجتمعي الذي يؤدي إلى ولادة حواضن مجتمعية لكثير من المشروعات الوطنية التي تغير شكل وتركيبة واقع الكثير من الدول. ليس من ثمة شك، في أن الصفوة السودانية تربت فى ظل ثقافة سياسية وأدبية مزدوجة، وعاشت فى كنف حكومات مزدوجة تعلن عن الحرية والديمقراطية ثم تمارس القمع والاستبداد والقهر لكل من يخالفها الرأى. وهنا يثور سؤال ما هي المشكلة فهذه تربية تعرضت النخب في معظم دول العالم الثالث؟ المشكلة أن هذه النخبة هي المسؤولة عن تشكيل الرأى العام في البلاد، فهى تحتل أغلب المناصب العليا فى مجالات السياسة والثقافة والأدب، وهي تعلي من شأن من نسميهم كبار السياسيين، الذين يلعبون مع هذه النخبة الدور الرئيسى فى إنتاج وإعادة إنتاج الازدواجية الفكرية والسياسية والأخلاقية في حياتنا العامة والخاصة. ثلاث وصفات هذه القراءة تعيدنا إلى كتاب (حوار مع الصفوة)، ذلك أن الحوار القديم الذي طرحه الدكتور منصور خالد قبل 50 عاما، يقدم للصفوة الآن روشتة صغيرة تحتوي على ثلاث وصفات يمكن نستشفها في المجالات التالية: * آن الأوان أن نفكر فيما لا نجرؤ أن نفكر فيه. * آن الأوان للتحلل من محاذير كثيرة طالما أعاقت قدرتنا على التصور. لم نعد نملك أن نفكر بعقلية القرون الوسطى، حيث هناك محاذير على الفكر، لأن هناك محاذير على القول. * آن الأوان ألا تقتصر محاور المستقبل على محاور الماضي، وألا نرفض مسبقا ما لا يستمد أحقيته أو شرعيته من أوضاع استقرت في الماضي. على أن مستقبل القضايا التي تواجه الشعب لا يمكن استشرافها لو قصرنا الرؤية على مجريات تطور هذا الشعب وحده، واسقطنا التطور العالمي في عالم يتمدد إلى غير حد. مقام السبق رغم أن الدكتور منصور خالد له مقام السبق في إثارة دور الصفوة عبر الحوار، قد أمضى زهرة شبابه متعاليا على مجايليه بأناقته، والبكور في الكتابة والنقد، والرحيل لأوروبا، إلا أنه قد بز مجايله في طرح الشأن السياسي الطازج من خلال الركض في بلاط صاحبات الجلالة، وهذا يعطي الرجل حقه في أن يكون أكثر إبهارا؟ وهذا الإبهار يدفعنا إلى القول إن الدكتور منصور خالد مصاب بنار تقيم في داخله ولا تنام. يريد أن يذهب أبعد. يريد أن يكون مميزاً ومختلفاً اخلاصاً منه للعنة الأنقياء والأقوياء. لم يسمح لقفازات الديبلوماسية أن تغتال قدرته على الغضب حين يسترسل الظلم في غيه. ولم يسمح لانشغالات الوزير أن تدفع المفكر إلى النسيان والكاتب إلى التقاعد. وببراعة صاغ ميزان التعايش في شخصه بين انشغالات واهتمامات واختلاجات. ميزان التعايش بين جدوى الواقعية وجدوى التمسك بالأحلام. بصمة أمدرمان يبدو أن نشاة الدكتور منصور خالد في أمدرمان في المدينة ذات الألق الخاص جعلته مصابا بلعنة اللامعين. يريد أن يترك بصمته إينما حلَّ. بل جعلته مصابا بسلوك العاشق، وبهاجس الإنجاز. تضاعف التحديات من عزمه وألقه. يهوى الإقامة في عين العاصفة. ويستريح متصالحا مع نفسه. ولا يخشى أن يكون أول من يبادر وإن تكاثرت عليه السهام. مشروع وطني على مدى الخمسين عاما التي أعقبت حوار الدكتور منصور خالد مع الصفوة، يتساءل الكثيرون منذ ذلك الوقت وحتى اليوم عن مستقبل أي مشروع وطني، وسر غياب الصفوة عن تبني مشروعات وطنية أو احتضانها؟. وفي مقام السعي للبحث عن إجابة دعونا نتفق أن الدكتور منصور خالد قد ابتدر السير في طريق وعر وشاق، لكن ينبغي أن نتفق أيضا أن نمطية تطور المجتمع السوداني قد أسقطت في حيثياتها مسمى الصفوة عن كل أصحاب المال في السودان من عابري السبيل إلى العائلات التي تحاول تعبئة غياب الصفوة الوطنية في بعض المفاصل، لكن ضمن مشاريع (مقزمة) تهدف إلى الحفاظ على ديمومة الواقع النفعي والعلاقة المصالحية ما بين السلطة وماكينة صنع المال وتدويره. غياب المشاريع صحيح أن هناك محاولات كثيرة جدا سعت إلى تعويض فكرة غياب المشاريع الوطنية أو حواضنها الطبيعية من حالات الصفوة الوطنية، لكن في النهاية كانت الخلاصة واحدة مشروعات: إعلامية (مشوهة)، حزبية (اقصائية)، تظاهرات استعراضية (مضحكة) لولادة تيارات تقدمية يسعى كل من يقف خلفها لتضليل الرأي العام أو المراقب الخارجي بفكرة وجود حراك راق يمتلك رؤية سياسية أو مشروعا وطنيا تقدميا يختفي بمجرد انتهاء الحاجة أو وقف التمويل. حواضن طبيعية السودان أمام تحديات ولادة مشروع وطني حقيقي يلبي طموح السودانيين، ويكسر نمطية إدارة الدولة والاستعراضات غير المقنعة، ويضع حدا لتضخم صورة الاغتراب بين السودان ودولته. لسنا مضطرين اليوم لمناقشة أسباب غياب ما يمسى الصفوة الوطنية عن تفاصيل المشهد السياسي، لكننا مجبرون على أن نبحث عن حواضن وطنية حقيقية قادرة على إنجاح كثير من المشاربع الوطنية بدءا من مشاريع التنمية الحقيقية القادرة على إضفاء تغيير حقيقي على حياة السودانيين ووصولا إلى مشروع سياسي مستقبلي يجنب السودان الارتهان لحالة الفراغ والتفريغ التي يعاني منها المشهد السياسي السوداني اليوم في تفاصيله كافة، وياسيدي منصور خالد جبر الله مصابك في الصفوة.