منصور خالد .. وتد المسكوت عنه وزعازع المحرمات
استضاف برنامج " المقابلة" الذي يقدمه الاستاذ علي الظفيري بقناة الجزيرة هذا الاسبوع الدكتور منصور خالد، في سياحة تاريخية حول إسهامه السياسي والفكري وسيرته الذاتية في تاريخ السودان المعاصر. و اصبح الدكتور منصور خالد في السنوات الاخيرة كريما في المقابلات التلفزيونية التي تسعي للتوثيق واستنطاقه حول الاحداث التاريخية . ويلاحظ انه اصبح اكثر جرأة في اعادة تأويل بعض احكامه التاريخية السابقة. اذ كشفت مقابلة سابقة في برنامج " الذاكرة السياسية" بثته قناة العربية عن استقامة شهادته التاريخية علي شخصية الرئيس السابق جعفر نميري وذلك علي عكس مطولات الهجاء التي وثقها في كتبه الشهيرة خاصة " الفجر الكاذب" عن نظام جعفر نميري. ونتطلع ان نسمع المزيد من شهادته في برنامج " الكشاف" الذي أعلن الاستاذ ضياء الدين بلال رئيس تحرير صحيفة السوداني عن قرب انطلاقه عبر قناة اس ٢٤.
يقول الدكتور حيدر ابراهيم عن مصور خالد انه رجل ازمولوجي، اي انه بريع في اختلاق الأزمات واعادة إنتاجها فكريا وسياسيا، ونعي عليه انحيازه لنموذج الحزب الواحد" الاتحاد الاشتراكي"، وتناءي منصور عن الديمقراطية مساندا ايدلوجية الحزب الواحد رغم انه ذرف دموعا ثخينة عند حل الحزب الشيوعي. وهو لا يخفي اعجابه بالزعيم الراحل عبدالناصر الذي التقاه مرات عديدة . ويقول منصور عن نفسه في برنامج " المقابلة" بقناة الجزيرة انه مسه لُغُوب من انحياز يساري اثناء تجربة عمله في الجزائر مع اضطراد نمو وتطور حركات التحرر الافريقية ، سيما وهو صاحب الانحياز التاريخي لأجندة اليمين من عهد دراسته بجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الامريكية. ولا يكتفي منصور بإشهار اعتزازه الفكري بنفسه فحسب بل يعتبر نفسه فوق اليمين واليسار كما قال ديغول من قبل.
سبق وان كشفت في مقالٍ سابق نشرته في صحيفة السوداني بعنوان " العقاد والسودان" عن اتصال باكر لمنصور خالد برواد الفكر الاسلامي في مصر. وقد توسط الاستاذ صادق عبد الله عبد الماجد اثناء عهد الطلب في مصر وكذلك علي عبد الله يعقوب لترتب مقابلة شخصية لمنصور خالد مع سيد قطب.
ويقول منصور خالد ان دافعه الرئيس لمقابلة سيد قطب كان حبه للعقاد و اهتمامه بالنقد الأدبي لسيد قطب خاصة وانه اول من احتفي بموهبة نجيب محفوظ وتنبأ له بالتميز والعبقرية والنجاح. وأشار الي ان مقابلته تلك جاءت باعتبار ان سيد قطب ناقدا أدبيا لا مفكرا اسلاميا. وقال منصور ان الله أنقذه وأنجاه من الإسلاميين عقب تلك المقابلة لان سيد قطب اراد ان يحدث انقلابا بعد ان قسم العالم لفسطاطين، فسطاط الاسلام وفسطاط الجاهلية. وسبق لمنصور في نعيه المؤثر للطيب صالح قال انه لم يتعلق بأيدلوجيا الديني منها والدهري بل أعلن انحيازه للعقل باكرا. ولا اجد قلما عميق الجراحات ، فتيق الاحزان ، ذريف الدموع ، هصور المواجع في مواطن الرثاء مثل منصور ودونكم ما كتبه عن صديقه الراحل عبد العزيز بطران .
ويستدرك الدكتور عبد الله حمدنا الله علي إسهام سيد قطب في هذه المرحلة بانه اول من كتب عن الاشتراكية في الاسلام، وانه اذا واصل التنظير في هذا الجانب وكذلك إسهامه الأدبي الفذ لكان لحركة الفكر الاسلامي توجها مغايرا وذلك قبل ان تنحرف به وتجرفه اطروحات القطيعة التاريخية في كتابه " معالم في الطريق".
ويقف منصور خالد في سياق سردياته التاريخية في قناة الجزيرة علي بعض ملامح المجتمع السوداني وثقافته التي تقوم علي الانتفاخ الكاذب وتمجيد الذات مستشهدا بالأغنية الشعبية الشهيرة " نحنا اولاد بلد نقعد نقيف علي كيفنا"، مما اضطر مقدم البرنامج علي الظفيري ليقول له ان الافتخار بالذات والقبيلة عادة عربية قديمة تجد لها حظا وافرا في المعلقات، كما ان العرب يعرفون عن السوداني التواضع لا الاستعلاء. لكن منصور خالد في حفرياته يعتقد ان المجتمعات الهجينة والتي تقع علي فواصل تقاطع الثقافات تسعي لتمجيد ذاتها لجبر نقصان نفسي تحسه في نفسها.
وأعاد منصور خالد حديثا طالما وقفت فيه وظننته من احابيل السرد والحديث العابر، لكن ظل يكرره ويصر عليه في كتبه ومقابلاته وفيه بلا شك أصداء من فترة انحيازاته السياسية الفكرية والتاريخية لمشروع السودان الجديد.
يقول منصور ان الرّق اثر تأثيرا عميقا في تركيبة السودان الاجتماعية والثقافية والنفسية، لكن لا يريد السودانيون ان يناقشوا هذا الموضوع بشفافية وشجاعة بإعتباره حالة طارئة وعابرة في تاريخ السودان الحديث. وأعاد منصور الطرق علي هذا الموضوع في عدة مناسبات لعل أهمها سرديته الكبري في يوم تكريمه العام الفائت.
يشارك منصور بالبحث في هذا الهم الفكري الثقيل الدكتور احمد سكنجة الذي قدم دراسة عميقة وسفرا اكاديميا مهما في هذا المضمار وكذلك الباحثة هيثر شاركي ، وقد سبقهم جميعا شيخ المؤرخين محمد عبدالرحيم في كتابه العرب في السودان، وهو يختلف عن كتاب هولت الذي صدّره بنفس العنوان.
لكن يقف كتاب المرحوم محمد ابراهيم نقد " علاقات الرّق في المجتمع السوداني"، في موضع متقدم من حيث دراسة الوثائق والوقائع التاريخية، ويعتقد نقد ان مؤسسة الرّق احد ابرز المؤثرات في تاريخ السودان الاجتماعي والثقافي المعاصر، لذا استحسن البعض مقولة الراحل عبدالخالق محجوب في مؤتمر المائدة المستديرة عام ١٩٦٥ عندما اعترف ردا علي نقد الجنوبيين قائلا: "نحن حفدة الزبير باشا، لكننا نتطور مع الزمن" . وهو حديث فيه شبهة اعتذارية عن تاريخ الرّق في السودان وتحميل وزره للزبير باشا. وتكشف دراسة محمد ابراهيم نقد عمق تأثير هذا العامل مؤكدا ان "المجتمع السوداني تعافي من علاقات مؤسسة الرّق في شكله الاجتماعي الاقتصادي الملموس لكن مخلفاتها النفسية والثقافية والسلوكية تثقل كاهله". ولعل ما قصده منصور خالد قد فصّله محمد ابراهيم نقد في كتابه سابق الذكر معنيا بدراسة هذه الظاهرة من اجل ازالة الغبن التاريخي ومحاولة التطبيب ومداواة هذه الجراح التاريخية ومخلفاتها النفسية والسلوكية في المجتمع السوداني.
ولعل منصور خالد ومحمد ابراهيم نقد يعتقدان ان هناك تواطؤ جماعي علي الصمت تجاه تاريخ الرّق في السودان، وهما يربطان تعافي المجتمع السوداني من بعض عقده النفسية والتاريخية بفتح باب النقاش والتداول حول تاريخ الرّق في السودان. بل يلح منصور خالد علي اهمية اعتراف الدولة والمجتمع السوداني بتاريخ الرّق ودراسة آثاره السالبة، وهذا باب يتطلب شجاعة وشفافية واعترافات مضنية وقاسية من جيل الاحفاد ولكن لا تزر وازرة وزر اخري . ولعله لهذا السبب قال حيدر ابراهيم ان منصور خالد ازمولوجي اي انه بريع في توليد فكر الازمة. ونعلم ان تاريخ الرّق في السودان سيستخرج السخائم التي تلاشت بفعل الزمن والوعي والتطور والمدنية. ولعلها نقطة سوداء في تاريخ الحركة الوطنية ان تسكت عن قضية الرّق وتركز علي الاستقلال من دونه، ولا شك ان إلغاء مؤسسة الرّق في السودان تم بقرار من سلطة الاستعمار البريطاني استجابة لحركة الحقوق المدنية والوعي الأوروبي خاصة شعارات ومبادئ الثورة الفرنسية وقرار البرلمان البريطاني بتحريم تجارة الرّق قبل ذلك الوقت بعشرات السنين ، ولم يتم إلغاء الرّق الذي جاء متدرجا من حيث التشريع والإلزام نتيجة مطالبات من الحركة الوطنية التي جعلت من هذه القضية في قعر اهتماماتها الوطنية. وجعلت سلطة الاستعمار البريطاني ان كل طفل ولد مع اعادة الاحتلال في ١٨٩٨ يعتبر حرا ، آملين ان يتكفل الموت الطبيعي بقبر جيل المسترقين في السودان معلنا انتهاء الظاهرة للأبد، لكن بقيت الجراحات النفسية و مرارات الوصم الاجتماعي في ثقافة قبلية متخلفة ورجعية، وليس ادل علي ذلك من مذكرة الزعماء الثلاثة علي الميرغني وعبدالرحمن المهدي والهندي عام ١٩٢٥ الذين طالبوا المستعمر بإبقاء الرّقيق في حرز سادتهم خوفا من تضرر مصالحهم الاقتصادية، متعللين ان الأمة اذ خرجت من حرز سيدها ستحترف الدعارة والعبد يقترف السرقة والبطالة . وقال قلم المخابرات البريطاني تعليقا علي هذه المذكرة التي صيغت بعناية انها من المرات النادرة التي يتفق فيها الزعماء الثلاثة علي شيء موحد. وحفظ التاريخ في سجلاته ان الزعماء الثلاثة لم يتفقوا علي شيء قبل الاستقلال غير مقاومة إلغاء الرّق في السودان. في المقابل أسهمت الدولة المهدية في ترسيخ مؤسسة الرّق ، وقال الراحل محمد ابراهيم نقد ان المهدية تركت وثائق مكتملة الأركان لمعاملات الرّق ومحصول بيت المال بما تتفوق به علي ارشيف الدول الحديثة.
ويبقي السؤال هل فتح النقاش والحوار في موضوع تاريخ الرّق لازمة ضرورية في البناء الوطني الراهن ، ام هي من ارهاصات الخيال الجامح للنخب التي لا تفتأ تعيد انتاج الأزمات؟ . حسب علمي لا توجد محذورات قانونية او فكرية تمنع اي جهة لنبش الاضابير التاريخية وفتح باب النقاش حول هذا الموضوع، وقد رمي كتاب المرحوم نقد حجرا في هذه البركة الساكنة. لكن محض اعتراضنا علي طرح الموضوع باعتباره مرحلة أساسية في تاريخ البناء الوطني، وانه يتوجب علي حفدة الزبير باشا تقديم صكوك الاعترافات علي منابر وفضاءات المشهد الوطني. وقد دفع الاغترار والسذاجة بعض السياسيين ليقدموا خطابا اعتذاريا لجنوب السودان علي اعتاب الاستفتاء لظاهرة الرّق ابتغاءً لتبرئة ذاتية وشهادة حسن سير وسلوك سياسية. ولم تشفع سذاجتهم تلك لكسب تصويت الجنوبيين للوحدة. لأن في هذا الاعتذار الشكلاني الذي يريده منصور خالد تبسيط مخل لظاهرة اجتماعية وثقافية واقتصادية معقدة لكثرة الحروب والسبايا والغزو الخارجي، كما ان ظاهرة استباحة افريقيا وصيد الرقيق جريمة تاريخية ولغت فيها كل القوي الاستعمارية التي ترفع شعارات حقوق الانسان الان. لا احد ينكر هذا التاريخ المخزي في السودان، لكن دمل هذه الجراحات لا يتم من باب تقديم الاعتذارات وتبادل الاعترافات ولكن باصلاح السياسة لتعزيز قيم المساواة والعدل الاجتماعي علي قاعدة المواطنة دون تفريق بالعرق او الدين او الجهة. هذا باب يمكن ان تطرقه النخب ومؤسسات البحث ومفردات المجتمع المدني. وقد عبرت رواية شوق الدرويش لمحمد زيادة حمور علي هذا المعني بسرد روائي مبدع، وقد وجدت نقدا مضادا رماها بالتحيز التاريخي ومصانعة المستعمر المصري وكسب رضاء المؤسسات القائمة بهجاء المهدية. وقد بذل الدكتور عبدالرحمن الغالي في كتابه لدفع الافتراء وتصحيح التاريخ في رواية شوق الدرويش جهدا مقدرا في هذا الاتجاه.
ولا شك ان التعافي الكامل من وصمة الرّق النفسية الاجتماعية في تاريخ البلاد سيأخذ وقتا من الجهد واشاعة الوعي وتحقيق المساواة خاصة وان الجيل الذي تعرض لهذا الاضطهاد قد مضي الي ملكوت الله ، ومن حق احفادهم ان يجروا حفريات موضوعية لنبش ذلك التاريخ، لكن المساومة علي المستقبل افضل من نبش مرارات الماضي و ستندمل جروحه مع التقدم والمدنية وتعزيز قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية. لعل في التواطؤ الجمعي في المسكوت عنه من تاريخ الرّق في السودان حكمة شعبية يستتفهها المثقفون، لكنها عاصم من قواصم الزعازع و الفتن في ظل هشاشة بناء اللحمة الوطنية الجامعة.
khaliddafalla@gmail.com