من أجل؛ الولايات السودانية الفيدرالية: دولة واحدة بنُظُم مُتعددة
الجبهة الوطنية العريضة -1-
mahdica2001@yahoo.com
توطئة وتمهيد:
كان دخول عبد الله بن سعد بن أبي السرح أرض النوبة رُماة الحدق في دُنقلا وإبرامه إتفاقية البُقط الشهيرة إيذاناً بأن الأرض المُمتدة من جنوب مصر وحتى تخوم خط الإستواء لن تكون كما كانت، وأن عوامل جديدة (لُغة وديناً وعرقاً ونسقاً ثقافياً ونمطاً إقتصادياً) قد أصبحت منذ ذاك الحين جُزءاً من نسيج وأزمات ما يسمى بأرض السودان. ولئن كان التأثير بطيئاً جداً في القرن السابع الميلادي، إلا أن وتيرته ارتفعت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر والذي توج بتحالف الفونج والعبدلاب وتشكيل الدولة السنارية (1500-1820)، وخلال هذه الفترة زاد إيقاع الهجرة العربية/الإسلامية إلى بلاد السودان، وبإنهيار الدولة السنارية (التي لم يشفع لها إسلامها، ولم تصد عنها الأخوة الدينية/الإسلامية غوائل حملات الإسترقاق) على أيدي أتراك دولة الخلافة الإسلامية العثمانية، هيمنت الثقافة العربية الإسلامية الوافدة وأجبرت الأقوام والشعوب الأصيلة (Indigenous) على الخضوع والخنوع أو الهروب والهجرة جنوباً وغرباً (جبال النوبة)، ولم يختلف الأمر كثيراً بحدوث الثورة المهدية (1880-1898) ومن بعدها الحُكم الثُنائي (1898-1956)، وبالرغم من حدوث نوع غير قليل من التداخل والتمازج إلا أنه لم يرق إلى مستوى التدامج والإنصهار الكامل لدرجة تكوين اُمة سودانية مُتجانسة، ومع ذلك أدى التداخل إلى بروز شريحة عريضة هجين إسمها السودانيون (الخُلاسيون)، تجمع بينهم عوامل الجغرافيا وتفرق بينهم عوامل العرق والدين واللغة.
المحاور التي تستند عليها رؤية الولايات السودانية الفيدرالية:
1. التخلف الإقتصادي (وليس صراع الهويات) جذر نزاعات السودان:-
عادة ما يقع الأكاديميون والمفكرون السياسيون في خطأ كبير عندما يعمدون إلى تفسير نزاعات السودان وإرجاعها فقط إلى ثُنائيات أو تعدد العوامل الثقافية والدينية واللغويه والدينية وغيرها من مكونات الهوية، ويغفلون العوامل الإقتصادية والصراع على الموارد المتناقصة والكثافة السُكانية والحيوانية المُتزايدة، والتي تعتبر جذر النزاعات في الدول النامية والمتخلفة (كالسودان)، فصراع الهويات (رغم أهميته) لا يكفي وحده لتفسير النزاعات والحروب المُتناسلة كالفطريات، لسبب بسيط وهو أن هذه المُجتمعات ظلت تتعايش في تناغم وإنسجام لعقود وربما لقرون طويلة ولم تبرز هذه النزاعات وبهذه الحدة إلا مؤخراً (نتيجة التنافس على الموارد). ولقد أدت ظاهرة الثُنائيات العديدة التي صبغت نشأة وتكوين الأُمة السودانية، وتزامنها مع ظاهرة ثبات وتخلف عوامل الإنتاج (حشاشة وطورية في زمن المحاصيل المُعدلة وراثياً) دون تطور أو تحديث إلا في بؤر قليلة (على رأسها مشروع الجزيرة) وذلك في وقت تسارعت فيه خُطى التقدم والتطور التقني والعلمي واشتد فيه أوار التنافس الإقتصادي العالمي، إلى إتساع الهوة والفجوة التقنية فازداد الفُقراء فقراً والأغنياء غنىً. وزاد الأمر ضغثاً على إبالة بقاء علاقات الإنتاج كما هي دون تغيير يذكر، ونزعم بأن لهذين العاملين الإقتصاديين آثاراً عميقة في تدهور الوضع الإقتصادي والمعيشي للشعب السوداني قاطبةً.
تواترت النزاعات وتسارعت بدرجة غير مسبوقة خلال الخمسة عقود الأخيرة نتيجة عدم حدوث تغيير في هذين العاملين (وسائل وعلاقات الإنتاج) إضافة إلى عوامل اُخرى كالتغير المناخي الذي أثر سلباً على سُبل كسب الأغلبية من غمار الناس (الرُعاة والمُزارعين)، وفشل الدولة في إدارة تدهور البيئة (وما ينتج عنها من تنافس ونزاع) إدارة رشيدة، وإنتشار نوع من التعليم الغير مُرتبط بإحتياجات المجتمعات المحلية مما أفقد هذه المجتمعات أفضل وأهم ثرواتها المتمثلة في أبنائها الذين هجروا الزراعة والرعي، بل وهجروا مجتمعاتهم واغتربوا عنها داخلياً وخارجياً، ومن بقي منهم وأحس بالظلم تمرد وحمل السلاح وطالب بحقه في السُلطة والثروة وفق المفهوم الشائه لقسمة السُلطة والثروة الذي أشرنا إليه آنفاً. وتعتبر مسألة التعليم (كيف ولماذا) من أهم القضايا التي ينبغي دراستها بحصافة وتعمق، لأن التعليم بشكله الحالي ومخرجاته الراهنة لا يقود إلى تطور المُجتمعات المحلية وتنميتها، بل قد يكون عاملاً من عوامل النزاع طالما لا يُقصد به إنتقال الريف من طور إلى آخر، وإقتصار الهدف من التعليم على مفهوم أن الشهادة العُليا وسيلة إنتقال طبقي لتحقيق طموح ذاتي، وهذا ما أنتج الجهل المُسلح بالشهادات العلمية، وما يفسر أيضاً التدهور المُريع في كافة المجالات (وخاصة ًفي قطاع الزراعة) بالرغم من الزيادة الهائلة في أعداد الخريجين وحملة الشهادات العُليا!!!!.
ظلت الصراعات بين مكونات المجتمع السوداني تخبو وتطفو، تنخفض وترتفع، تتجسد تارة في الإقتصاد النهبي الذي وسم العلاقات الإقتصادية منذ غزو محمد علي باشا للسودان وتجارة الرقيق الذي شقت المُجتمع السوداني اُفقياً ورأسياً إلى سادة وعبيد، وبلغ هذا التمييز العرقي والطبقي ذروته في العهد التُركي، ثُم انحسر في حقبة الحُكم الثُنائي، وقد خبا أوار الخلاف والشقاق بين السودانيين خلال الحقبة الإستعمارية لأن طرد المُستعمر ظل عامل توحيد للشعوب السودانية منذ الغزو التُركي 1821 وحتى تحقيق الإستقلال (1956)، وليس مًصادفة أن يحدث تمرد توريت (أغسطس 1955) بالتزامن مع الإستقلال ودخول البلاد مرحلة جديدة. كما يُلاحظ تواتر بروز الحركات الجهوية المطلبية بعد الحصول على الإستقلال مثل حركة سوني وجبهة نهضة دارفور وإتحاد عام جبال النوبة ومؤتمر البجا وحركة الأنانيا وغيرها من التجمعات المدنية العسكرية التي يربط بينها رابط الشكوى من التهميش والغبن الإقتصادي والإجتماعي والسياسي، ولا تخلو من صبغة أو شبهة العنصرية الإثنية والجهوية رغم إدعائها التدثر بالقومية.
2. أهمية حزام السهول الطينية في وحدة أو تشظي السودان:
يُمثل الحزام المُمتد من الحدود الشرقية (كسلا) وحتى الحدود الغربية (الجنينة)، الذي يُطلق عليه مناطق التماس (أي حزام الزراعة الآلية المطرية) صُرة وحدة السودان (مُسمار النص)، إن أُحسنت إدارته صلُح حال السودان، وإذا أُسيئت إدارته تحول إلى مسرح (أو مسارح) للحروب، وذلك لثرائه الطبيعي المقرون بتباينه العرقي والثقافي ووجود كثافة سًكانية قد تتمازج وتنصهر لتشكل السودانوية الخُلاسية التي نحلم بها، أو تتصارع فتنتج الدمار والتشظي الذي نكتوي بناره حالياً، ولقد كان ولا زال هذا رأينا مُنذ ثلاثين عاماً خلت، أي قبل بروز مشروع السودان الجديد وإندلاع التمرد في الشرق والغرب والوسط، ولنتمعن في هذا التحليل العلمي.
*- The central clay plains belt of Sudan has a unique geo-political importance. By looking at the map of Sudan we find that this belt separates the country into two distinct parts, the Northern part with its Islamic-Arabic culture, and the southern part with its Afro-culture.
As a result of this political position, stability in this belt is essential for the stability of the country as a whole. The demonstration effects of this religion will influence the mode of production of future development projects in Sudan.
The existing organizational structure which is a more or less capitalist mode of production, will lead to accumulation of wealth in the hands of the small elite. It could eventually create a mass of landless labourers, and this is an obvious area of potential class confrontation.
It is no secret that Sudan is seeking decentralization and a regional system of government. This necessitates the fair distribution of development projects over all the different regions, so as not to make some regions dependant on others. The expansion in the mechanized area is presently concentrated in the north-east part of the region. It should be extended towards the western and southern parts to create the regional balance which is badly needed.
“IT is not only the economics of agricultural mechanization at the farm level that have to be considered but also the impact of mechanization on the social and political framework and on the distribution of the economic power”. (M.I. Mahdi : Socio-Economic Analysis: Mechanized Rain-Fed Agriculture in the Central Clay Plains of Sudan, University of London 1980).
3. غياب المشروع الوطني لدولة سودانية حديثة:
لقد أدى سقوط "المشروع الحضاري" وتخلي الحركة الشعبية عن صنوه ونقيضه "مشروع السودان الجديد"، وما لحق به من تشكيك واهتزاز بعد غياب رائده المُبشر به/ د. جون قرنق، وكنتيجة حتمية لترجيح إحتمال تشظي البلاد بإنفصال الجنوب وإعتبار خطوة الإنفصال سابقة ذات لواحق. كما أدت هذه التداعيات السالبة إلى فراغ فكري كبير قاد إلى الحيرة والسلبية والتشاؤم والإحباط الماثل الآن بالسودان، وفي هذا الصدد نزعم بأن مشروع السودان الجديد لا يزال قابلاً للتطبيق وصالحاً لعلاج أزمات السودان وبناء دولة حديثة ولكن بشرط إزالة التشوهات التي اعتورته، وتطويره بإزالة السلبيات وأوجه القصور التي أفرغته من محتواه (وأدت إلى نقيض ما أريد به) ولأجل ذلك ينبغي إعادة دراسة آليته وإطاره العملي والدستوري أي "إتفاقية السلام الشامل"، وتصحيح الأخطاء التي اشتملت عليها وأبرزتها بكُل جلاء فترة الخمسة سنوات الماضية، دون مُكابرة أو خداع للذات.
ويؤكد زعمنا بوجود فراغ فكري، الجدل النظري ومحاولات إيجاد مشروع وطني بديل يحل محل المشروعين المُتعثرين (رغم تولي دعاة المشروعين سدة السُلطة والحكم؛ المؤتمر الوطني، وشريكه الحركة الشعبية بعد عام 2005)، ونستدل على هذا الجدال النظري المُحتدم والحيرة المُستحكمة بما طرحه د. النور حمد حول الهضبة والسهل، وما قال به محمد حسين الصاوي حول أهمية وجود إستنارة معرفية على قاعدة تعليم حديث ومجتمع مدني فعال، وما خطه يراع بروفيسور/ موسى الباشا، ودراسات وأوراق سالم أحمد سالم، وكتابات الأساتذة كمال الجزولي ود. حيدر إبراهيم، وإسهامات د. عبد الله جلاب، ود. سيد الجودة، والمشروع الوطني لحزب الأُمة الإصلاح والتجديد (إبراهيم هباني)، ومُداخلات السيد/ الصادق المهدي وغيرهم من حملة مشاعل الفكر الذين يؤرقهم غياب مشروع وطني يُخرج البلاد والعباد من الورطة والحلقة المُفرغة التي ندور فيها منذ الإستقلال (يناير 1956). وقد إتفقوا جميعاً، رغم إختلاف المناهج والمنطلقات – على وجود أزمة مُستحكمة تهدد وجود السودان (وليس وحدته فقط)، ولكن كعادة جُل الأكاديميين (والمُثقفاتية) عمدوا إلى إيلاء إهتمام كبير للعوامل التاريخية والتباين الثقافي والإختلاف العرقي والديني، مع إيلاء إهتمام ضئيل جداً للعوامل الإقتصادية والبيئية التي نعتقد بأنها جذر النزاع كما أسلفنا في الفقرة (1) أعلاه.
بالإضافة إلى ماتقدم من محاولة إيجاد إطار نظري يستند على أطروحة أهمية العوامل الإقتصادية والموقع الجغرافي/السياسي لحزام الموارد والنزاعات وتصويب إتفاقية السلام الشامل بهدف تطوير مشروع السودان الجديد ليتلاءم مع حقائق الواقع السياسي الجديد بعد إنفصال جنوب السودان، لا بُد من إستعراض المحاور الأساسية التي قامت عليها فكرة السودان الجديد وآلياته؛ أي إتفاقية السلام الشامل، ودراسة نقاط ضعفها (ليس بهدف النيل منه وإنما بهدف سد ثغراتها وتطويرها بإعتبارها جُهداُ بشرياً لا يدعي الكمال)، وبالرغم من تصوير الإتفاقية وكأنها قُدس الأقداس الذي لا يأتيه الباطل من خلفه أو من بين يديه، ووصفها بأنها الآلية الأمثل وخارطة الطريق التي سوف تقود إلى الوحدة الطوعية والتحول الديمقراطي والعدالة في توزيع السُلطة والثروة، ومن ثم فقد كان يُنظر إليها بإعتبارها الإطار المرجعي لعلاج نزاعات السودان، ولكن، ودونما تبخيس لجُهد من سكبوا فيها عرقاً ودماً وفكراً، إلا أن حصاد الحقل لا يُشبه حصادر البيدر وذلك لأسباب موضوعية نتناولها في المقال القادم.
نواصل في الحلقة القادمة بحث أهم مرتكزات إتفاقية السلام الشمال، وكيفية علاج عثراتها للإنطلاق مُجدداً بمشروع السودان الجديد نحو آفاق أرحب بعد تخلي الإنفصاليين وذوي النفس القصير عنه، وهي بالتحديد:
- مفهوم المُشاركة في السُلطة، والبُعد الشعبي ودور منظمات المجتمع المدني في ذلك
- مفهوم المُشاركة في الثروة والإطار الإقتصادي اللازم للنهضة الإقتصادية
- الحكم الفيدرالي وإعادة بناء وهيكلة الدولة السودانية
- المشورة الشعبية التي لا تعني شيئاً في ظل النظام الشمولي
- رؤية مشروع السودان الجديد لمسألة دارفور وبقية المناطق المُهمشة
- الجبهة الوطنية العريضة كآلية لتنفيذ المُرتكزات أعلاه بعد تنقيتها مما لحق بها من شوائب.
*- جزء مُقتبس من بحث علمي لنيل درجة الماجستير- جامعة لندن (Wye College) عام 1980، بعنوان "تحليل إجتماعي/إقتصادي للزراعة الآلية في حزام السهل الطيني وسط السودان"- مهدي إسماعيل مهدي.