من الأدب الساخر: مشاكل السودان لن تحل قبل يوم القيامة

 


 

 

 

صدرت الصحف ذات صباح وهي تحمل في صدر صفحاتها نبأ مزعجا جداً، كان الخير الذي تناقلته وكالات الانباء، هو سقوط الكلب تومي كلب القصر الابيض قتيلاً تحت عجلات سيارات مسرعة، تناولت الصحف الخبر من نواح عديدة، وابرزت اشلاء القتيل في مناظر تبعث على الاسى العميق، كاد الأمر أن يمر بسلام كحادث سيارة عادي، لولا أن صحيفة الديلي لاي اشارت الى وجود شبهة عمل تخريبي وراء الحادث، سرعان ما ظهر شاهد قال ان سائق السيارة كان اسود اللون، وجاءت امرأة تفيد بأن السائق كان يضع غطاءً للرأس، وجدت الشرطة ضالتها المنشودة في رجل يفي بكل الاوصاف المذكورة، وتم تعريفه فيما بعد بأنه سوداني بحت قح.

من خلال التحقيق مع الرجل اتضح أنه ليس لديه رخصة قيادة، ولا يمتلك سيارة، ولم يجلس خلف مقود سيارة في حياته، ثم أنه كان داخل صيدلية في شارع آخر، وأكدت الصيدلية صحة اقوال الرجل بوجوده فيها وقت وقوع الحادث. كانت هذه المعلومات كفيلة باطلاق سراح الرجل فورا، لكن الشرطة وجدت فيها أدلة اتهام لا أدلة براءة !! فقد توالت الاسئلة المتشككة: لماذا كان الرجل يسير على قدميه؟ وماذا كان يفعل في الشارع الآخر؟ ولماذا دخل صيدلية ولم يدخل المقهى المجاور لها مثلاً؟

جاءت صحيفة أخرى بسيناريو يربط بين وجود الرجل في شارع ومقتل الكلب في شارع آخر، فقد استعانت الصحيفة باحد علماء الباراسايكولوجي والذي افاد بوجود حساسية مرتفعة للكلاب ضد الطاقة السلبية، ولا شك ان ذلك السوداني كان مشحوناً بطاقة سلبية عالية خصوصاً وانه قد وصل للتو طازجاً من بلاده، وقد اثرت هذه الشحنة السالبة ذات الضغط العالي على مستقبلات الكلب العصبية، فسببت له طشاشاً في الرؤية كانت نتيجته هذا الحادث المأساوي، وهذا المتهم هو بالتالي من تقع عليه المسئولية المباشرة.

تناولت صحيفة لندنية موضوع السودان من ناحية الطقس والغذاء؛ فقالت أن منخفض السودان الحراري، ينشر ارهاباً طقسياً مناخياً لا يمكن السكوت عليه، فهو يتسبب في ضربات الشمس ويحرض العواصف العاتية على الاقلاع نحو المناطق المأهولة بالسكان متسببا في نشوء التسونامي المدمر، أما الارهابي الآخر فهو الفول السوداني الذي يرفع نسبة الكوليسترول في الدم معرضاً حياة مواطني العالم الحر لخطر الجلطات والسكتات، ويهاجم الاطفال بأمراض الحساسية القاتلة.

على الجانب الآخر وجدت الصحف العربية أن إسم السودان نفسه مشتق من السوء، وهذا السوء قاب قوس واحد من الدنو وليس قوسين. هاجت الدنيا وماجت وانهالت البرقيات والمكالمات الهاتفية على الصحف وخرجت المظاهرات مطالبة بوقف هذا التطرف الآتي من البلاد المتخلفة، وطالب المتظاهرون برفع الموضوع الى مجلس الامن وتصدرت اخبار الكلب والتحقيق الجارى بخصوص مصرعه نشرات الاخبار.و رثى احد الشعراء الكلب بقصيدة طويلة جاء فيها:
كلب ان (يهوهو) غاضباً حسبت الناس كلها غضابا
شبعان من لحم ومن سمك ايا ليت البشر كانوا كلابا
شخير الهمام في نومه متقلبا يتشتت شمل الفرس والاعرابا
سارع السودان الى نفي صلته بالحادث جملة وتفصيلا مشيرا الى الايدي الخفية التى تحاول الزج به في مسائل لا علاقة له بها، وتأكيداً لهذا النفي وليدلل على انه بلد متحضر ويكن احتراماً خاصا لمشاعر كل كلب خصوصاً إن كان كلبا إمبريالياً، لذا فقد اقترح ارسال فحل سوداني، اغبش، اشوس، ماجد، محدودب الذيل، مسترخي الاذنين، موفور العضلات ليقف بجوار ارملة الكلب الرئاسي يشاطرها الاحزان ويخفف مصابها، ظهرت اعلانات في الصحف السودانية تطلب فحلاً يجيد اللغة الانجليزية نطقاً وكتابة ولم يسبق ادانته من قبل في اى جريمة تمس الشرف والامانة ليتوجه الى هناك. لكن كتاب الاعمدة في الصحف الامبريالية هاجموا الاقتراح وسخروا منه، تساءلوا: هل سترضى كلبة البلاط الرئاسي بكلب من أزقة ام درمان أو امبدة او الحاج يوسف او زقلونا غاية امنياته في الحياة ان يرى عظماً تكسوه نتف لحم ؟؟؟ هل سترضى صاحبة العصمة والدلال بكلب اذا تغدى بمصران اعور انتفخت اوداجه تيهاً وفخرا؟ هل سترضي تلك الكلبة مكتملة النعمة بكلب يلف نفسه في الظهيرة تحت زير الماء يتنظر في صبر نقاط (النقاع ) لتخفف عنه حرارة الجو؟

تلقفت الجماعات اليمينية المتطرفة الموضوع، وقالت في بيان مشترك: مشاعر كلبتنا الأرملة ليست للبيع للأفارقة ومتخلفي الشرق الأوسط، والويل كل الويل لمن يطأ ولو بالخطأ على ذيلها أو يمعط صوفة من رأسها فصواريخ كروز ستكون في انتظااره لتمحو دياره من الخريطة.

لقد تقرر اقامة جنازة رسمية لكلب القصر يحضرها رؤساء الدول ةتنقلها القنوات الفضائية لكل بيت، كما تقرر الاستفادة من هذا الحدث لاجراء المزيد من المباحثات على هامش الجنازة لدفع مسيرة السلام المتعثرة في الشرق الاوسط ومناقشة ارتفاع درجة حرارة الأرض، وقضايا العولمة إزاء هذا الضغط العالمي لم يعد هناك مفر من تبنى مجلس الامن للموضوع، فهذا كلب ولا كل الكلاب، ومقتله تهديد صريح للأمن والسلم العالميين، لقد قرر مجلس الأمن وبناءً على مشروع القرار المقدم من عدة دول مطالبة السودان بالإعتراف بجريمة قتل الكلب الرئاسي وامهاله ثلاثين يوماً لتسليم المتهم في القضية والا فانه سيواجه عواقب وخيمة تحت الفصل السابع.

ابدى السودان استغرابه واندهاشه من هذا الطلب وتساءل: كيف نسلمهم شخصاً موجوداً لديهم بشحمه ولحمه ودمه ومعتقلا في سجونهم ؟ لذا فقد اضطر مندوب السودان للاجتماع مع سفير امبرياليا الدائم في مجلس الامن، ليناقش معه سبل الخروج من الازمة.

قال المندوب السوداني:
- نحن لا زلنا غير مستوعبين لمسألة تسليمكم شخصاً هو عندكم فعلاً، الموضوع يحتاج الى فهامة!
قال السفير متعجرفاً وهو ينفث الدخان من سجاره الضخم والذي بحجم فص من اعواد قصب السكر:
- يؤسفني أن اقول لكم أنكم يا معشر دول العالم الثالث تعانون من التخلف الفكري و لا تستخدمون عقولكم كما يجب.
تجاهل مندوب السودان هذا التأنيب وخمن ان السفير الامبريالي ربما يلمح الى عملية تسليم رمزية، لذا فقد قرر أن يلتقط هذه البادرة من فم السفير وهي ساخنة فقال:
- ما رأيكم يا سعادة السفير في عملية تسليم رمزية؟
قال السفير الامبريالي بتأفف:
- هل تظنون ان هيبة الدول الكبرى (لعب عيال) ؟ نحن حتى الآن لم نسمع منكم شيئاً عن دية الكلب؟
اضطر مندوب السودان للمس أذنيه بغرض التأكد من وجودهما في مكانيهما، وأنهما يعملان بصورة جيدة، ولما تأكد من ذلك تساءل بصوت مبحوح وقد التوت حبال حنجرته:
- دية الكلب؟
زمجر السفير:
- نعم عليكم ان تقوموا اولا بدفع دية الكلب قبل الحديث عن اى عملية تسليم.
قال المندوب وهو يبلع ريقه محاولاً ضبط حبال الحنجرة:
- كم المبلغ المطلوب منا لتغطية مبلغ الدية ؟
كان المندوب يعتقد ان مبلغ الدية سيكون حوالي مليونين أو ثلاثة ملايين دولار أو ربما يقفز المبلغ لعشرة ملايين وفي أسوأ الفروض لن يزيد عن عشرين مليوناً، وفي ذهنه مبلغ كل قتيل من قتلى طائرة لوكربي، ورأى أن الموضوع لن يفرق كثيراً حتى ولو جرت مساواة الكلاب بالبشر.
لكن السفير رد وهو ينفث دخاناً كثيفاً من سجاره بطريقة لا تجاريه فيها مؤخرة ركشة متهالكة:
- لن يقل عن دخلكم الاجمالي القومي لمدة خمسين سنة قادمة.
قال مندوب السودان وهو يحس بالدوار:
- الدخل الاجمالي القومي لخمسين سنة قادمة؟
اجاب السفير:
- ومعها مائة عام من العزلة ان تعثرتم في السداد. ولن ينفعكم للهروب من السداد موسم هجرة للشمال أو الشرق أو الغرب أو الجنوب، هجرتكم الوحيدة ستكون لباطن الأرض.
أضطر مرافقو مندوب السودان الى استخدام (جك) الماء البارد الموضوع على الطاولة
لانعاش المندوب من الغيبوبة التى دخل فيها، وبعد الإستعانة بعدد آخر من الجكوك التي لا تقل برودة عن الجك الأول؛ تمكن المندوب أخيراً وبصعوبة من فتح احدى عينيه،. قال المندوب وهو يجاهد لفتح العين الأخرى مع شعوره بحالة من عدم التركيز:
- بهذا الطلب المجحف قد نضطر لارتكاب حماقات ضدكم.
قال السفير مستهجناً ما سمعه:
- هل جرت على لسانكم كلمة حماقات؟ هل لك أن تعطيني مثالاً لها!
قال مندوب السودان متراجعاً وقد تمكن من فتح عينه الأخرى وبدأ يشعر ببرودة الماء على ملابسه:
- مثل أن نخطف هذا الرجل منكم ثم نقوم بتسليمه لكم بعد نصف ساعة من اختطافه.
قال السفير وهو ينتفض:
- احذركم من القيام بعمل متهور مثل هذا لأن انتقامنا سيكون رهيباً، سنحول عاصمتكم الخرطوم الى مجرد ( خروم). أما بورتسودان فسيكون اسمها الجديد (Poor Sudan).
استعان السودان بعدد من بيوت الخبرة العالمية لحل هذا المعضلة فجاءت نصيحة من احد الخبراء بضرورة الاستفادة من تكنولوجيا الاستنساخ لإنتاج بديل للمتهم، اتجه مندوب السودان مجدداً الى الامم المتحدة وعقد اجتماعا مع السفير الامبريالي، قال المندوب:
- لدينا يا سعادة السفير افكاراً جديدة بخصوص الاستفادة من الاستنساخ، ما رأيكم في تسليمكم نسخة طبق الاصل من المتهم المعتقل لديكم ؟
رد السفير :
- نحن لا نثق في مقترحاتكم، لا تنس انكم دولة مارقة، أنتم بلغتنا (آوت لو)، وثقافة الآوت هذه يا اهل السودان منتشرة بينكم بكثرة وفي كل شيء، حتى كرة القدم عندكم اصبحت كلها (آوت) ولم تكسبوا اى بطولة منذ فترة طويلة، يؤسفني ابلاغك ان المتهم قد اصبح في ذمة الله، لقد جرى اعدامه بعد ادانته.
وقع الخبر وقع الصاعقة على مندوب السودان وهو يرى تبخر هذا الأمل، فتسمر في مقعده دون حراك.
قال السفير الإمبريالي:
- لا تبتئس يا صديقي، سنبرهن لكم على مرونتنا الدبلوماسية وسنقدم لكم عرضاً جديداً، سنقبل بطرحكم الإستنساخي وسنمنحكم فرصة ذهبية لتسليمنا نسخة من الرجل الذي تم اعدامه ما رأيكم؟
قال المندوب:
- كيف سنسلمكم نسخة من رجل ميت والبشرية لم تتوصل حتى الآن لتقنية تتمكن بها من استنساخ الموتى؟
رد السفير:
- هذا من سوء حظكم ، ليس امامكم من حل سوى الانتظار حتى تتوصل البشرية لتلك التقنية.
- قال المندوب محتجاً:
- لكن ربما لا تتوصل البشرية لاختراع مثل هذا إلى يوم القيامة.
قال السفير:
- عليكم اذن الانتظار الى ذلك التاريخ.
تساءل المندوب وهو لا يصدق اذنيه:
- تقصد يوم القيامة؟
قال السفير:
هذا اقرب تاريخ ممكن.
بعد جدل طويل قال مندوب السودان مستسلماً:
- ان كان الحل في يوم القيامة فليكن.
اغتاظ السفير الإمبريالي عندما رأى ان مندوب السودان وجد بارقة أمل في حل مشكلة بلاده يوم القيامة، لذا فقد بادر بالقول مطفئاً هذه البارقة:
- عليكم ان تضعوا في اذهانكم أيها السودانيون انه إذا خُلق هذا الكون من جديد، وهبطنا جميعا الى الارض مرة اخرى، فأن اول ما سنفكر فيه فور ملامسة اقدامنا التراب، هو مطالبتكم بالناتج الإجمالي القومي الذي لم تسددوه ومعه الفوائد المتراكمة، والناتج الإجمالي القومي لخمسين سنة جديدة، يجب الا يكون لديكم مثقال ذرة من الشك في ذلك.

nakhla@hotmail.com

 

آراء