من “ترومان شو” إلى “بشار شو”: دروس في الغباء الإعلامي

 


 

 



(1)

في الأسبوع الماضي، سمحت السلطات السورية لمراسلة هيئة الإذاعة البريطانية ليز دوست بالوصول إلى دمشق لتغطية بعض ما يجري هناك. ,وما أن بدأت المراسلة تطوف في بعض أنحاء دمشق حتى تعرضت لملاسنة من شاب التقاها "مصادفة"، وأخذ يتهمها والبي بي سي بالكذب، مؤكداً أن كل مواطني سوريا الثلاثة والعشرين مليون منهم (الرقم من عنده) يحبون بشار الأسد. ويبدو أن الشاب –الذي لم يكن يحسن اللغة الانجليزية- تدارك نفسه فأضاف إنه ربما يكون هناك "عشرة آلاف" لم ينعم الله عليهم بحب الرئيس الأوحد.


(2)

لعل فكرة استضافة الإذاعة البريطانية –وذلك في الشهر السابع لاندلاع الثورة- قصد منها تحميل الهيئة البريطانية رسالة مفادها أن كل شيء هادئ في سوريا، خاصة عندما يسمح لها بالطواف في بعض أحياء دمشق التي لم تشهد تظاهرات. وهكذا يتم إفحام الجزيرة وبقية "قنوات التحريض" –ومنها البي بي سي العربية- ويدرك العالم كله أن ما كان يشاع عن اضطرابات في سوريا كذب من قبل المتآمرين.

(3)

يذكر هذا بقرار "حكيم" مماثل اتخذه ابن أبيه الآخر سيف القذافي، حين استدعى ليس صحفية واحدة، بل جيشاً من المراسلين، وأودعهم أحد فنادق طرابلس الفخمة، أصبح سجناً ومقراً في نفس الوقت. ولم يكن يسمح للمراسلين بالتنقل إلا إلى الجهات التي تحددها لهم السلطات، مع "مرافقين" يحصون عليهم أنفاسهم ويردعون كل من تسول له نفسه أن يقترب منهم. وقد جاءت هذه الدعوة بعد أن قمعت كتائب القذافي كل احتجاجات العاصمة، فأصبحت بالفعل هادئة هدوء المقابر.

(4)

لعله خيل عندها لسيف القذافي، كما خيل لرصيفه بشار، أن حصر المراسلين في سجن ضيق، ومتابعتهم بالجواسيس في كل مكان يسمح لهم ببلوغه، سيضمن وصول الرسالة المحددة التي يراد أن تذاع، وهي أن البلاد مستقرة، والجماهير تؤيد الزعيم، وأن المعارضة، إن وجدت، معزولة. وبالطبع لم يحدث هذا في ليبيا ولن يحدث في سوريا، لسبب بسيط، وهي أن ليز دوست ليست هي مراسلة البي بي سي الوحيدة في العالم كما لم يكن جيريمي بوينغ هو المراسل الوحيد في ليبيا. فللهيئة عيون في أركان الدنيا، وإن لم يكن لها فإن الانترنيت والهاتف المحمول تكلفا بالمهمة.

(5)

في ليبيا كان لكل القنوات الممثلة في طرابلس مراسلين في بنغازي، وآخرون طوافون بمناطق أخرى يسيطر عليها الثوار. وكان مراسلو طرابلس مع ذلك يبدأون تقاريرهم بالتأكيد على أن حركاتهم محصورة، ويعطون تلميحات مباشرة أو غير مباشرة بأنهم لا يصدقون ما يسمعونه من المسؤولين. ولم يكونوا في حاجة لذلك، لأن المشاهد والمستمع كان يرى في التقارير وما يرد من مراسلين آخرين أن الرواية الليبية الرسمية كانت محض هراء. والأمر نفسه في سوريا. وقد كشفت دوست خلال يومين من أكاذيب النظام ما يذهل العقل.

(6)

مهما يكن فإن الروايات الرسمية في الحالين كانت من الغباء والسماجة بحيث لم تكن قابلة للتصديق حتى لو لم تناقضها الصور والشواهد. فعندما تنتزع حنجرة مطرب غنى في هجاء بشار، وتقطع أوصال فتاة عارض أخوها النظام، أو تهدم بيوت مطلوبين، وتسلم جثث المعتقلين بعد سويعات من استياقهم من بيوتهم وهم شباب أصحاء، يقول شبيحة النظام الإعلاميين إن عصابات إجرامية هي التي استهدفتهم. وهم في ذلك صادقون، لأن العصابة التي يرأسها بشار وأخوه هي بالفعل مسؤولة عن هذه الجرائم البشعة. ولكن كان الأقرب إلى التصديق أن يقال أن ملائكة من السماء عاقبت الضحايا لأنهم من العشرة آلاف الذين حرموا من حب بشار.

(7)

مشكلة بشار وبطانته وشبيحتهم هي أنهم لا يحسنون الكذب، لأن مشاعرهم تفضحهم، كما أن رواياتهم يناقض بعضها بعضاً. فهم يكثرون الحديث عن عصابات مسلحة ملأت السهل والجبل، وأخذت تقتل الناس ذات اليمين والشمال، دون أن يبدو عليهم الخوف والهلع، ناهيك عن أدنى تأثر بمصير الضحايا الأبرياء، ودون أن نسمع تساؤلات منهم عن كفاءة الأجهزة الأمنية في بلد أصبح فجأة مستباحاً. فالقوم ممثلون فاشلون لم يلقنوا الدور كما يجب. وبالتالي لا يحتاج المحقق المتوسط الكفاءة إلى أي دليل سوى أقوالهم ليتأكد من أنهم هم القتلة لا سواهم.

(8)

مشكلة القوم هي أنهم مردوا على الكذب لدرجة أنهم أصبحوا يصدقون أكاذيبهم، ويركنون إلى بيت العنكبوت الذي اتخذوه لأنفسهم، نسجاً من الأكاذيب، حتى لم يعودوا يرون شيئاً خارجه. ولعل حالهم يذكر ببطل فيلم "ترومان شو" (1998) الذي اكشتف وهو في منتصف العمر أنه ظل يعيش طوال عمره حياة وهمية. فالقرية الساحلية التي كان يقيم فيها لم تكن سوى استديو تلفزيوني ضخم يبث للمشاهدين وقائع حياة البطل على مدار الساعة، بينما كان كل جيرانه وزملائه في العمل و "أقاربه" و "أصدقاءه" وكل معارفه ممثلين مدفوعي الأجر مردوا على خداعه لضمان استمرارية البرنامج ذي الشعبية الواسعة.

(9)

الحال نفسه كما يبدو كذلك في "بشار شو" وقبل ذلك "القذافي شو"، ولا نريد أن نطيل قائمة الأسماء، لأن الحذر مطلوب. فالكل عبارة عن ممثلين في برنامج هو مزيج من الفكاهة وأفلام الرعب. الكاميرات تتابعهم على مدار الساعة، ولا تكشف فقط أكاذيبهم، بل تصورهم وهم يقولون لبعضهم البعض: دعونا نكذب على الناس، ونقول لهم كذا حين نقصد كذا. ولكن هذه الثلة من الممثلين، مثل ترومان المسكين، هم آخر من يعلم.

(10)

حين اكتشف ترومان الخدعة غادر الاستوديو ولم يرتض أن يعيش حياة الغش والكذب. ولكن رصفاءه في "بشار شو" وغيرها عاجزون عن مغادرة المسرح. العقيد القذافي ما يزال يؤكد أنه "يعيش في قلوب الملايين"، ويلقي الخطب النارية عن سلطة الشعب بعد أن تحقق بالفعل ما كان يدعو له، وامتلك الشعب السلاح والسلطة وأسمعه رأيه فيه وفي أبنائه وبطانته. ومبارك ظل يقول "إن مصر تعرف من هو مبارك" (وهو صادق) بعد أن خرجت مصر عن بكرة أبيها لتعبر عن رأيها فيه بلا واسطة. وأنا أؤكد أن بشار سيحمل إلى المشنقة وهو يؤكد أن الثورة ضده أكذوبة ومؤامرة من الجزيرة ومعها كل الأجهزة الإعلامية في العالم.

Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء