في المحاكمات التي تمت لرموز العهد المايوي عقب أنتفاضة أبريل 1985 وقف أحد المتهمين بالفساد في ذلك العهد وهو رجل الاعمال خضر الشريف متحدثا عن جهوده في دعم الاقتصاد السوداني ثم حدق في كاميرا التلفزيون التي كانت تقوم بتصوير الجلسة وأشار اليها قائلا: " وحتى هذه الكاميرا تبرعت بها الى التلفزيون".
الدول لا تتصرف مثل الافراد، لكنها وفي سعيها لخدمة مصالحها يمكن أن تقوم بما هو أخطر. ووفقا لتقرير عن وكالة رويترز الاخبارية فأن دولة الامارات العربية أسهمت في أسقاط الرئيس الاسبق عمر البشير بحجبها للعون المالي الذي كانت تقدمه له وبلغ في فترة عام واحد وحتى مارس من العام الماضي مبلغ 7.6 مليار دولار عبر دعم لبنك السودان وأستثمارات من خلال صندوق أبوظبي للتنمية. الدور الخارجي الذي أسهم في أسقاط البشير ويسجل حضورا طاغيا في مرحلة الانتقال بداية بدفع أطراف المعادلة السياسية الى اللقاء سيكون له تأثيره الملموس في تشكيل مستقبل البلاد اذا أستمرت الامور بمثل هذه الوتيرة.
فقبل 48 ساعة فقط من أزاحة البشير من السلطة وقف محافظ بنك السودان حسين جنقول أمام البرلمان متحدثا عن الوضع المالي ومشيرا الى حجم الاحتياطيات من العملات الصعبة الموجودة لدى البنك المركزي لا يزيد عن 1.4 مليار دولار في نهاية ديسمبر في الوقت الذي قاربت فيه فاتورة الواردات ثمانية مليارات دولار.
لقد مرت فترة ثلاثة أشهر والبلاد بدون حكومة، مما يشير الى انها فعلا في ملتقى طرق تتجاوز وجهتها السياسية لتطال الاسئلة حتى مجرد وجودها دولة لها سلطة تمارس نشاطها داخل حدودها المعترف بها ولها عليها السيادة. وبسبب هذا الوضع المقلق الذي أسهم من غير قصد في تظهير القيمة الجيوستراتيجية للبلاد فأن جيران السودان والمهتمين بشأنه من الولايات المتحدة والدول الخليجية تدافعوا للضغط في أتجاه دفع كلا من المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير للعودة الى طاولة المفاوضات المباشرة ولتقوم بتنحية أهدافهم الخاصة في التعامل مع الشأن السوداني، ولو مؤقتا، وذلك خوفا من أستعار وتيرة الصراع في دولة هشة، الامر الذي يمكن أن يلقي بها في أتون الفوضي وهو ما حذر منه مساعد وزير الخارجية الامريكي للشؤون الافريقية تيبور ناجي كلا من مصر وأثيوبيا أنه ليس من مصلحة الاولى حدوث فوضى في حدودها الجنوبية الى جانب ليبيا غربا كما حذر حكام أثيوبيا انهم لا يودون رؤية صومال أخر، والاشارة الى السودان، في حدودهم الغربية. وحمل مبعوثه دونالد بووث رسائل مماثلة الى كل من الرياض وأبوظبي.
وضع السودان الجيوستراتيجي هذا هو الذي دفع بريطانيا لأتخاذ قرار أعادة فتح السودان واصدار الامر الى هوراشيو كتشنر في أكتوبر 1897 بذلك. وبعد معركة كرري الشهيرة في الثاني من سبتمبر 1898 ودخول أم درمان بستة عشر يوما فقط أنطلق كتشنر بقواته الى منطقة فاشودة لمواجهة الكابتن الفرنسي مارشاند وتأمين المصالح البريطانية في منابع النيل.
الى جانب وضعية السودان الاستراتيجية، فأن المرحلة الجديدة التي دخلتها البلاد الان يمكن أن نطلق عليه مرحلة التكوين الثالث التي لم تتبلور بعد. فالتكوين الاول للسودان يعود الى العام 1820 وفتح محمد علي باشا الذي أعطى السودان حدوده المعروفة التي استمر بها حتى أنفصال الجنوب في 2011، الذي قوبل بقدر من اللامبالاة العامة مما يشير الى مدى الفشل في أداء النخبة التي تم الانفصال تحت اشرافها وفشلت حتى في الاعداد لتبعات ذلك الانفصال سياسيا وأقتصاديا، وهو ما فتح الباب أمام التكوين الثاني الذي تميز بعاملين: تغيير صورة ومساحة البلاد وتركيبتها السكانية ونقصانها في كل هذه المجالات وأبرزها في المجال الاقتصادي الذي تتالت تأثيراته وارتداداته المركبة حتى أطاحت بالبشير. أما العامل الثاني في هذه الفترة فهو وصول أخر مشاريع النخبة ببعدها الايدولوجي الاسلاموي هذه المرة الى نتيجتها الحتمية في الفشل وتسليم قيادها الى فرد دخل مرحلة الفرعنة ولتختتم فترة تزيد على العقود الستة من التجريب بدون هدى و لا سراج منير.
وهكذا تبدو البلاد وكأنها تعود الى منصة التكوين وهي في مفترق طرق وتتهيأ للدخول في مرحلة ثالثة في تاريخها: فأحد الاحتمالات التي أنعشتها أيام الامل في جمهورية الاعتصام التي أستمرت فترة شهرين أمام القيادة العامة للقوات المسلحة تكوين دولة متكاملة تستوعب كل أبناءها وتعلي من شأن القانون والممارسة الديمقراطية التي تحقق قدرا من النجاح السياسي والاقتصادي بما يسد الطريق نهائيا أمام أي مغامرات عسكرية مستقبلية. ومع أن أيام الاعتصام توضح أمكانية أخراج هذا الحلم الى أرض الواقع، الا ان هناك الكثير من العوائق التي يمكن أن تعترض طريقه وعلى رأسها الضعف البين في تحويل تلك الرؤية الى برنامج عملي يجد طريقه الى التنفيذ بسبب ضعف ان لم نقل غياب القيادة والآلية اللازمة لتحقيق ذلك. وأهم من ذلك أن العملية الديمقراطية تقوم على مفردات وممارسات حزبية، وتشير الصدقية التي يتمتع بها تجمع المهنيين مقارنة بالأحزاب السياسية الاخرى الى أشكالية تنتظر التجربة الديمقراطية المأمولة مالم تقم الاحزاب بالكثير من النقد الذاتي لآداءها وعدم الاكتفاء بالتحجج بالقمع الذي مارسته الآنقاذ ضدها كي تتمكن من التواصل مع الاجيال الجديدة. فالقمع الذي تعرض له تجمع المهنيين يعتبر أكبر مما تعرضت له الاحزاب بينما تمتعت بهامش من الحرية والعمل تحت رايتها المستقلة أكثر من تجمع المهنيين.
وهناك الاحتمال الثاني أن تصبح الطريقة التي تم بها التغيير والدور المحوري لقوات الدعم السريع في أنفاذه مدخلا لأعلاء الدور الذي تقوم به قوى الهامش في تشكيل المشهد السياسي السوداني وذلك لأول مرة منذ عهد الخليفة عبدالله التعايشي. ويبقى التحدي الرئيسي أمام هذا الاختيار أن كان يستطيع حشد كل قوى الهامش خلفه أم يقتصر على دارفور فقط، خاصة ودارفور تمثل الثقل السكاني الأكبر في السودان اليوم كما ان سنوات الحرب المتطاولة فيها قد دفعت الكثيرين من ابناءها الى شحذ هممهم وأكتساب مهارات ومعارف نوعية الى جانب الانفتاح على تجارب ثرية ومتنوعة بسبب الهجرة واللجوء. وكل هذه يمكن أستخدامها لآستغلال الموارد الناضبة من المعادن وتلك المتجددة من زراعية وحيوانية التي تذخر بها دارفور خاصة اذا تمكنت من أجراء مصالحات تضع الاساس لتوافق قومي، لكن مثل الآحتمال الأول فأن هناك غيابا واضحا لرؤية وبرنامج سياسي يستوعب هذا الخيار، الامر الذي يمكن أن يتقزم في أطار عملية أحلال لسيطرة المركز النيلي وأنتقال تلك السيطرة الى الهامش بقيادة دارفور.
ويبقى الاحتمال الثالث وهو أستمرار حالة التجريف في الدولة السودانية التي أرتقت لها قمما جديدة في عهد الانقاذ. وفي الاداء المتواضع للمجلس العسكري الذي ينتمي أعضاءه باستثناء حميدتي الى مؤسسة خلفها تاريخ طويل من الاستمرارية والتقاليد والتدريب ما يشير الى حالة التجريف هذه التي يمكن أن تزداد تجريفا بسبب حالة الشد والجذب المتوقعة بين المجلس العسكري وقوى التحرير خلال الفترة الانتقالية وربما بين الجيش والدعم السريع، وهو ما ينقل الدولة السودانية من حالة الفشل لتصبح أكثر أقترابا الى مرحلة الانهيار حتى وان تدخل العسكر مرة أخرى بأي شكل تحت حجة منع الفوضى.
وفي أي من هذه الخيارات فأن عناصرها تظل عرضة للقوة والضعف حسب أداء القوى السياسية المختلفة، هذا الى جانب العامل الخارجي والتدخل الاجنبي الذي سيلعب دورا مؤثرا وبصورة تتجاوز ما عهده السودان من قبل مالم يتم ترتيب أوضاع البلاد وتقوية الجبهة الداخلية بالصورة التي تحد من ذلك التدخل.
الاشكال الرئيسي الذي يواجه خياريي التكوين الاوليين غياب الكتلة السياسية الكبرى التي يمكن أن توفر الرافعة للمضي قدما في أي منهما. وفي واقع الامر فأن هذا أحد أسباب عدم الاستقرار السياسي الذي يعتبر الملمح الرئيسي للعقود الستة الماضية وكان يتم التعويض عنه بالثنائيات التي ميزت الحياة السودانية في مختلف المجالات السياسية والثقافية والتعليمية والرياضية وأحد ثمراتها أن الفترات البرلمانية كانت تقوم على أئتلافات ضعيفة لا تتوفر لها القدرة على مخاطبة جذور قضايا البناء الوطني، وهو ما فتح الباب أمام دورات متتالية من الحكم العسكري المتطاول والبرلمانيات القصيرة العمر.
تجربة ثورة ديسمبر- أبريل المتطاولة تعطي الامل بأمكانية حدوث حالة أختراق شريطة توفير مناخ من الحريات لبلورة الخيارات وأدارة الفترة الانتقالية بأفق يستلهم روح 6 أبريل في نسختيها لهذا العام وتلك التي أطاحت بالنظام المايوي قبل 34 عاما.
واذا كان توازن القوى قد فرض تعاونا بين العسكريين وقوى الحرية والتغيير فأن كوابيس احتمال خيار التجريف الثالث يفترض أن تدفع بالقوى المكونة للخيارين الاوليين الى قدر من التنسيق والتعاون بينهما وتجذير فكرة التعايش المشترك لتجنب خيار الانهيار. ويساعد على ذلك تطاول فترة الحراك السلمي لاسقاط الانقاذ من ناحية وأضمحلال خيارات الحلول الفردية من الاغتراب الى الهجرة وذلك من خلال الاصرار على حد أدنى من التوافق والحريات والعمل على تعزيز مكانة السودان الجيوستراتيجية التي دفعت بمختلف القوى الى شيء من التعاون لمنع أنهيار الدولة في أتون الفوضى. ومن المفارقات ان نظام الانقاذ في أخريات أيامه كان يسعى الى أستضافة قمة للأيقاد في الخرطوم حيث يتم خلالها الاعلان عن ربط البحر الاحمر ببحيرة فيكتوريا عبر السكة حديد وذلك في اطار برنامج تسهم فيه الصين وتركيا وكل لآسبابه، لكنه في النهاية يسهم في تقوية موقع الاستراتيجي وخدمته للدول المغلقة. وجاء ذلك في أطار استراتيجية أستغلال موقع السودان لتحقيق نقاط لصالح نظام الانقاذ على الساحتين الاقليمية والدولية كما يظهر في المجهود الذي بذلته الخرطوم لآنجاز أتفاق سلام جنوب السودان، بل ومدت يدها للتوسط في متاعب أفريقيا الوسطى، بينما كان الاوفق حلحلة مشاكل البلاد الداخلية وحروبها المشتعلة. والفرصة الآن أمام السودان لتقديم صورة مختلفة من واقع عملية التغيير التي تجري شريطة القيام بترتيب أفضل للأولويات وقراءة فاحصة للواقع، لا للرغبات، والتعامل بالجدية اللازمة التي يمكن أن تحول اشكاليات التغيير الى فرصة للبناء، وهو في كل الاحوال لن يكون سريعا ولا حاسما، ويحتاج الى كل الدعم الممكن من كل فرد لآحداث الاختراق المأمول.