العيد وما أدراك ما العيد. لا ريب أن للعيد فرحة لا تضاهيها فرحة وبهجة لا تدانيها بهجة. فالعيد لغة : إسم لما يعود من الإجتماع العام على وجه معتاد. ويقول صاحب لسان العرب ( العيد هو كل يوم فيه جمع: 3159). فهو اليوم الذي يظهر فيه الفرد الحبور وتفرغ النفوس مما علق بها من أوشاب الحياة. فالعيد في كلياته تجديد لإيقاع الحياة الرتيب كما يعنى أيضاً التواصل وصلة الأرحام ومعاودة الأهل والمعارف والأصدقاء. وهو – أي العيد – ظاهرة إجتماعية / أو دينية تلازم كل المجتمعات الإنسانية بمختلف مللها ونحلها. أما نحن معشر أمة المسلمين فقد شرع الله لنا عيدين هما: عيد الفطر وعيد الأضحى. وتنبع أهمية العيد من أنه يأتي بعد نهاية عبادة (صيام رمضان ويليه عيد الفطر ، وأداء مناسك الحج ويعقبه عيد الأضحى).
ولا تخلو أدبياتنا السودانية من مأثورات وأشعار فرحاً بالعيد وإبتهاجاً بمقدمه. وتحضرني هنا أبيات لشاعرنا الكبير محمد محمد علي صاحب ديوان"ظلال شاردة" في قصيدة له موسومة بـ "إشراقة العيد" إذ يقول في أبيات منها:
حرك دفوفك صائحاً بقوافي جذلان في فرح البلاد الضافي
ودع الجداول تنطلق مزهوة دفاقة في الروضة المئناف
واقتبس نشيدك من وضئ ساحر من كل مزدهر ومن شفاف
من بسمة الأطفال من أحلامهم من بهجة الآلاف بالآلاف
من كل مرنان وكل مغردمن كل بادٍ في الشعور وخافي
جمّع نشيدك وإونطلق مترنماًلزفاف قومك في أجل زفاف
يوم وما الأيام من أضرابه عيد وما كالعيد في الأوصاف
ولا مشاحة أن لكل إنسان ذكريات في العيد سواء في القرية أو المدينة. ولعل ذكريات الطفولة والصبا هي الأكثر إلتصاقاً بالمخيلة التي ما عادت هذه الأيام قادرة على إختزان الكثير من أحداث الماضي القريب ناهيك عن الماضي البعيد خاصة وأن إيقاع الحياة المتسارع بصورة مذهلة لم يترك للكهول والشيوخ فسحة من الزمن لإسترجاع شذرات من تلكم الذكريات التي تستمد أهميتها من أنها تبين لأبنائنا وأحفادنا واقع حياتنا الطارف والتليد.
ولا شك أن لفترة الطفولة والصبا وقع خاص في النفس، فهي من أجمل الفترات في حياة الفرد، إذ تتسم بالبراءة في السلوك والحركة الدؤوبة والشقاوة وحب الإستطلاع . ولا تزال ترتسم في الذاكرة نثار صورة نضرة لأيام العيد في الزمان الماضي بكل ما فيها من أفراح ومفارقات.وتعود بي الذاكرة إلى حقبة الستينات والسبعينات من القرن المنصرم، لمهد الطفولة والصبا بأحد أحياء أم درمان العريقة ألا وهو حي بيت المال الذي تنفست فيه عبير الحياة لأول مرة. ومثل بقية أترابنا من أبناء الأحياء القديمة كان أبناء حي بيت المال إخوة أحبة كأنهم أبناء أسرة واحدة تتسم العلاقات بينهم بالمودة والتراحم والتداخل الإجتماعي المتين. ففي الأمسيات وبعد الفراغ من صلاة العشاء كنا ندلف إلى الشوارع الواسعة لممارسة ألعاب التسلية مثل " شليل وينو" و "شدت – حرينا" و "أم الصِلص" و "سكج –بكج". كما كنا نتبارى في الليالي المقمرة مع أندادنا من الأحياء المجاورة " أبو روف ، ودأرو، السيد المكي والملازمين" .. وبعيداً عن الفوائد النفسية لهذه الألعاب الشعبية المتمثلة في تزجية أوقات الفراغ والترويح عن النفس، فقد كان مردودها الإجتماعي إيجابياً حيث أفضت إلى علاقات إنسانية لا تزال وثيقة العُرّى برغم تقادم السنوات.
. ويلزم التنويه إلى أن الإستعدادات للعيد .تشمل ثلاثة جوانب: أولاً مساعدة الأهل في نظافة المنازل وتزيينها قبيل العيد، إختيار نوعية الملابس والأحذية المتوقع شراؤها ، فضلاً عن تحديد خيارات أماكن الترفيه والإحتفالات والتسلية التي نود إرتيادها خلال أيام العيد سواء مع الأهل أو الأنداد أو الأصدقاء في الحي. وثمة إشارة هنا، وهي أن أماكن الترفيه في ذلك الزمان كانت محدودة ، وأبرزها جنينة النزهة (حدائق الحيوان بالخرطوم – تحتل المكان الحالي لفندق كورنثيا-برج الفاتح) ، حديقة القرشي (الخرطوم نمرة 3) ، حديقة عبود (الخرطوم بحري) ، علاوة على الإحتفالات الشعبية في العديد من الميادين العامة آنذاك (ميدان العرضة بأم درمان ، ميدان عبد المنعم بالخرطوم وميدان عقرب بالخرطوم بحري وغيرها) ويضاف إليها المسرح القومي بأم درمان وبعض دور العرض السينمائي بالعاصمة المثلثة . ومَثَـل إفتتاح قاعة الصداقة في مطلع السبعينات بما تحتويه من مسرح وسينما وصالات وأسواق موسمية نقلة نوعية في وسائل الترفيه والتنزه بمحافظة الخرطوم آنذاك.
وكانت (وقفة العيد) ولا تزال تمثل يوماً فوق العادة. ولما كانت المخابز الحديثة ضئيلة العدد وقتذاك ، إرتأت العديد من الأسر الأمدرمانية أن تجهز خبائز العيد في المنازل. ويشترك جميع أفراد الأسرة في هذا العمل، فالأمهات والأخوات والفتيات يقمن بعمل صنوف متنوعة من الكعك والبسكويت (المنين) والبتي فور باستخدام مناقيش متنوعة الأشكال والأحجام . ويقوم الصبية والأطفال بحمل الصواني إلى المخبز (الطابونة). وكان الذهاب إلى المخبز والمكوث أمامه لساعات غير قليلة إلى أن يتم نضج الخبائز يمثل تجمعاً إجتماعياً إستثنائياً وفرصة مواتية للتثاقف ، بتبادل الأخبار ومناقشة شتى المواضيع التي تهم أهل الحي وربات البيوت على وجه التخصيص مما يقوي الروابط الأسرية ويعضد النسيج الإجتماعي.
وكان "الخروف" في عيد الأضحى المبارك يمثل للصغار قمة المتعة والإبهار .وعادة يشتري الناس الأضحية في يوم الوقفة فتزدحم الشوارع والزرائب بالبهائم التي كانت أسعارها في متناول الجميع. بيد أن بعضاً من أهالي أم درمان ممن لاتزال روابطهم العائلية ممتدة في الأقاليم كان أقاربهم يحضرون لهم الخراف قبيل العيد.وثمة أسر قليلة كانت تشتري الحملان قبل عدة أشهرمن العيد وتقوم بتربيتها والعناية بها إلى أن يحين يوم الفداء. وترى الصغار يتقافزون هنا وهناك حول الخروف الذي يربط في مكان بمؤخرة حوش المنزل .ويبدو البشر والسعادة على محياهم وهم يقهقهون ويتصايحون عند سماع صوت الخروف)باع،باع) (مأمأة) بين الفينة والأخرى.. ولايخلو بعضهم من شقاوة فتراهم يمدون حزمة من القش للخروف وما أن يهم بتناولها حتى يسحبها الطفل خوفاً من أن يقضم الخروف أصابع يده. ويستمر مسلسل الخروف الى أن يحين موعد ذبحه بعد صلاة العيد. وتظل ذكرى هذا الحدث "الدرامي" مركوزة في ذاكرة الأطفال والصبية إلى سنوات عديدة آتية.ويعتبر مشروب"الشربوت" الذي تعده العديد من الأسر السودانية من التمرإحدى الإضافات التي تظهر في المائدة السودانية خلال أيام عيد الأضحى.
والملاحظ أن تجهيزات الملابس الجديدة للعيد، كان معظمه يتم عن طريق الخياطة ، إذا لا يحبذ الكثيرون الألبسة الجاهزة . ولعل أبرز محلات بيع الأقمشة بالقطاعي بأ م درمان فيالستينات والسبعينات هي: "عباس رشوان"، "كبيدة" و"شلقامي" بجوار جامع أم درمان الكبير،وبوسط السوق كانت هناك محلات "حسن والأمين الصافي"،"أميل والفرد دبسية" وسوق الشوام .أما محلات "إبراهيم مهدي" و"خليل حسين" للأقمشة فتقع حينها بجوار محل "العدني" اليمني الشهير للخردوات بشارع كرري. وظهر على الساحة الأمدرمانية ترزية معروفون في خياطة الملابس الرجالية لعل من أبرزهم (محمد الديب، مهدي شريف والشيخ أحمد الشيخ) . وآخرون تخصصوا في خياطة الملابس النسائية ومن أشهرهم (التوم بارودي والنعيم بكراوي ومحمد سينما) وآخرون لا تسعفني الذاكرة بإيراد أسمائهم. وإشتهرت في العاصمة المثلثة محلات شركة "باتا-Bata"ببيع الأحذية بمختلف أنواعها .وكان لهذه الشركة أفرع بمختلف محافظات(مديريات)السودان.وظهرت في السبعينات شركة أخرى أصبحت منافسة ل"باتا" وهي شركة "لاركو" بالمنطقة الصناعية في الخرطوم بحري.
ويحرص العديد من الأمدرمانيين خلآل إحتفالات العيد على أخذ الصور التذكارية لهم ولأسرهم سواء عن طريق المصورين الجوالة الذين كانوا يرتادون منتزهات العاصمة لتقديم هذه الخدمة للمواطنين أو يذهبون إلى الإستديوهات في أماكنها.وأشهر إستديوهات التصوير بالخرطوم :إستديو النيل(غردون سابقاً) و"إستديو محمدين" بشارع الجمهورية. أما أبرز الإستديوهات الأمدرمانية فهي:
إستديو "دينو" لصاحبه الإيطالي الأصل ويقع شرق جامع أم درمان الكبير. وهناك إستديو "محمد علي" قبالة صينية المحطة الوسطى بالجهة الجنوبية الشرقية.
أما الإستديو العريق والذي لايزال يواصل عمله منذ الستينات وحتى اليوم بأم درمان فهو "إستديو الوادي" بالطرف الشرقي للسوق عند بداية شارع أبوروف.
وعلى الصعيد الأسري ، كان حدث العيد يجد إهتماماً خاصاً، إذا كان معظم أفراد أسرتنا الممتدة من كبار السن على قيد الحياة ويقطنون على مقربة من بعضهم في العديد من أحياء أم درمان القديمة (بيت المال، أبوروف، الخنادقة ،الركابية والمسالمة) . وتعود بي الذاكرة إلى النصف الأول من الستينات الماضية ، إذ كان للعيد في أسرتنا (آل خبير وآل شمام) طعم خاص بوجود عميدة الأسرة الحبوبة (من جهة الوالد) ست النفر بت شمام والتي كانت تمثل واسطة العقد بين أهلها في أم درمان وحلفاية الملوك كما كانت شديدة الإعتزاز بأنها حفيدة شمام الكبير (شمام بن عجيب بن العقيليين بن عجيب المانجلك) مك العبدلاب الذائع الصيت وسليل عبد الله جماع –مؤسس أول دولة إسلامية في السودان عام 1504م.
وكان أطفال العائلة يوم (الوقفة) لا يغشاهم النوم حتى الهزيع الأخير من الليل ، فالكل في حركة مائجة من نظافة وتنظيم للمنزل مع ترتيب لأثاثه على بساطته في ذلك الحين. أما ملابس العيد والأحذية فقد كانت توضع على مقربة من مضاجعهم. وبرغم السهر نصحو مبكراً للإستحمام وارتداء ملابس العيد والأحذية الجديدة. وبعد هنيهة يهرع الجميع إلى الشارع عند سماع "بوري" البص المعد لأفراد العائلة الذين يتقاطرون من المنازل المجاورة للذهاب إلى مقابر "أحمد شرفي" بودنوباوي بغرض زيارة قبور الموتى من الأهل والترحم عليهم ورفع الفاتحة على أرواحهم الطاهرة .
ويعود الجميع سريعاً للحاق بصلاة العيد التي يؤديها أهالي حي بيت المال بجامع السيد المحجوب الميرغني والتي يحرص الكل عليها مع الإستمتاع بأهازيج طائفة الختمية الدينية الجيدة السبك والرائعة الأداء والتي تنشد في مثل هذه المناسبات.
وبعد الفراغ من أداء شعيرة صلاة العيد تبدأ المعايدات ، إذ يتوافد الناس فُرادى وزُمراً لزيارة بعضهم البعض، والسرور والبهجة تعلو محياهم ،إذ تسمع على الدوام عبارات "العيد مبارك، كل عام وأنتم بخير، القابلة على منى وعرفات والعفو لله والرسول" وغيرها من عبارات المودة والتسامح والفأل السعيد. ويبدأ نحر ذبائح الفداء منذ صباح اليوم الأول للعيد والأيام التالية.ويقوم الصبية بحمل الصواني وعليها كيمان اللحم وتوزيعها على الجيران.ويقوم الجيران أيضاً بنفس التوزيع،أي أن كوم لحم الخروف يرجع للمرة الثانية لأصحاب الذبيحة. أما الأطفال والصبية فهم يزورون أهاليهم في الأحياء المختلفة وتقدم لهم "العيدية" أي "هدية العيد" على هيئة خبائز و "حلويات" وعملة معدنية (فئات التعريفة والقرش والفريني "القرشين") . ويلاحظ أن ملابس الأطفال سرعان ما تعتريها الأوساخ (بقع من الدهون والغبار) ولا يعبأ الصغار بهذا إذ كان همهم الأساسي هو الحصول على العيدية وإكمال مشوار الفرح لليوم الأول من العيد.
أما ألعاب الأطفال والصبية فتشمل المسدسات والمزامير والبالونات والدُمي وصناديق "شختك بختك" الكرتونية الصغيرة الأحجام.وإشتهرت محلات "الطوخي" و"الزيات" في أم درمانببيع مختلف أصناف الألعاب المستوردة من مصر. وتعرض هذه الألعاب للبيع في العديد من الساحات الشعبية وأبرزها ببيت المال "ساحة أم سويقو" و "دكاكين الطاهر خال العيال"،وبساحة الربيع ،الموردة،حي العرب،السوق الجديد بودنوباوي وبأبي روف. وهناك المراجيح التي يعشقها الأطفال وتتسم بالبساطة في الشكل والتركيب مقارنة بنظيراتها المتنوعة والحديثة المنتشرة اليوم في مختلف مدن الملاهي بالعاصمة القومية.
وتخصص بقية أيام العيد للترفيه والتسلية في الحدائق والساحات العامة، ففي الفترة الصباحية كانت جنينة النزهة (حديقة الحيوان سابقاً والتي يحتلها الآن فندق كورنثيا- برج الفاتححالياً) هي الملاذ للأطفال والصبية والأسر من جميع أنحاء العاصمة المثلثة . ولم تكن زيارة "جنينة النزهة" تقتصر على رؤية الأصناف المتنوعة من الحيوان والطيور والزواحف والإستمتاع بمناظرها وسلوكياتها المتباينة ، إنما كانت أيضاً بغرض التمتع بما في الحديقة من مباهج ووسائل ترفية عديدة كمسارح الأرجوز ومشاهدة ألعاب الحواة والمهرجين . ويختار بعض الشباب الفترة المسائية لمشاهدة الأفلام السينمائية في دور العرض التي كانت عامرة في ذلك الوقت (الوطنية، أم درمان، بانت، العرضة والثورة) وتعج بالرواد من كافة شرائح المجتمع، إذ تقدم فيها أشهر الأفلام المصرية والأمريكية والهندية.
ويقضي الجميع يوماً ممتعاً ملؤه البهجة والسرور قبل العودة إلى الديار وهم سعداء بما حازوه من نصيب في التسلية والترفيه البرئ . وتظل ذكرى أيام العيد وما خالجها من أحداث ومواقف عالقة بالأذهان إلى أن يحين موعد العيد القادم حيث تتجدد ثانية الأفراح والليالي الملاح وكل عام وأنتم بخير.