ما هو البعد السيسلوجي والفرق بين صورة المليونير ود الجبل وهو يعتمر عمامته المميزة، وسط مجتمع النجوم وهو يتمني أن يتعلم القراءة والكتابة بين غمضة عين وانتباهتها، وبين صورة المليونير اسامة داؤود وهو يلعب الغولف في منتجعه بسوبا؟.هل تجسد هتان الصورتان الفرق بين اقتصاد التجربة واقتصاد المعرفة؟.
فالأول بدأ بائعا جائلا في السوق العربي حتي صار احد اثرياء السودان، والآخر ارتكز علي ارث والده التجاري وعمل علي توسعته بالتعليم والدراسة واقتصاد المعرفة حتي صار صاحب اكبر امبراطورية للتصنيع الغذائي في السودان.وجود هذين النموذجين في مجتمع أثرياء السودان يؤكد أن للنجاح في دنيا المال والأعمال ضروب متعددة وأبواب متفرقة، يحققه الفنجري الأمي وكذلك المتعلم المتسلح بالمعرفة الغربية.وأن اقتصاد التجربة والموهبة ينافس في نجاحاته اقتصاد المعرفة.
لهذه المقارنة العفوية رابط قوي بتحقيق متميز افترعته مجلة (الإيكونومست) عن النمو المضطرد للجامعات في العالم، واستصحبته بسؤال جوهري عن اثر اقتصاديات التعليم العالي في خلق طبقة متوسطة تنتشل عشرات الآلاف من اتون الفقر.فمنذ ان نجح مجلس امناء اموال واوقاف جون هوبكنز البنكي والمليونير الأشهر في أمريكا في المزج بين تقاليد كلية أوكس بريدج البريطانية ومراكز الأبحاث الألمانية عام 1876 بدأ عصر الجامعات الأمريكية في الإزدهار وتحقيق النجاحات النوعية التي اهدت البشرية اختراعات تكنلوجية ومعرفية هامة غيرت من نمط واسلوب الحياة في العالم.تصرف الدول المتقدمة نسبة 1,6% من دخلها القومي في التعليم الجامعي وفوقالجامعي لأرتباط اقتصاد المعرفة الحديث بمخرجات العملية التعليمية في الجامعات،وقد أدي ذلك الي انتشال قطاعات عريضة من دائرة الفقر الي رحاب الطبقة الوسطي وادماجها في دائرة الإنتاج القومي والاقتصاد العالمي.
لم يكن الدكتور التجاني عبدالقادر يضرب بالحصي والرمل وهو يشير في تحليله لبعض أبعاد الأزمة أن الجيل الثاني من فقراء المدن الذين نزحوا من الريف الي أطراف البنادر سيستشعرون الحاجة الملحة للتغير بالعنف ومختلفالوسائل الآخري لأنهم لم ينالوا حظا من امتيازات نخبة البندر التي اكتسبتها بتمايز المحاضن الإجتماعية والطبقية. ويعد هذا المنحي مخالفا لتراكم التجربة التاريخية وارث المجتمع المفتوح في السودان الذي ينفر من التمايز الطبقي واعتزازه بالمساواتية (ايغالتيرينزم). وكان سلم الترقي الإجتماعي في السودان من طبقة الفقراء المسحوقين الي الطبقة الوسطي والبرجوازية يرتكز علي التعليم والابداع. إذ كان نوابغ السودان من ابناء الطبقات الفقيرة يزرعون طريق الكدح بالتميز الأكاديمي واكتساب الكفاءات المهنية، ويصعدون سلم الترقي الإجتماعي درجة درجة الي اعلي مراقي النجاح.
لذا لم يكن الفقر عيبا في تاريخ السودان القريب لأنه يمكن أن يكون حالة عابرة وليس قدرا تاريخيا من المهد الي اللحد ويمكن التخلص منه وتجاوزه بالتعليم والتميز والكفاءة إذ يرتقي المهندس والطبيب والمهني الإختصاصي بكل سهولة ويسر من قاع السلم الي أعلاه دون استنكار بل يعززه المجتمع بقيم الإحتفاء والكدح والعرفان.
وكثير من الوجوه التي ارتبطت بمقاليد الحكم في تاريخ السودان الحديث سلكت طريق الترقي الإجتماعي من ادني السلم الي اعلاه عن طريق التعليم والإنتماءالي المؤسسات الحديثة.فقد قال الرئيس الراحل نميري عن سنوات حكمه انها الهمت الفقراء حق ان يحكموا السودان.
هذه الخاصية عن ديناميكية الترقي الإجتماعي اكسبت السودان تميزا حيويا مقارنة بمحيطه الإقليمي، ففي مصر مثلا تتحكم التراتبية الطبقية من قمة هرم المجتمع الي أدناه، ويستحيل خرق جدار هذه الطبقات وحدودها الحاكمة إذ يظل ابن البواب وابن النجار قابعين في ادني درجات المجتمع لا ينافسون ابناء الباشوات علي الوظائف ومكتسبات النخب وطبقات رجال الحكم ومنسوبي الدولة العميقة. ولا يوجد ترقي اجتماعي في سلم التراتبية الطبقية في مصر عن طريق التعليم أو اكتساب مهارات مهنية جديدة بل هو قدر حتمي يجب ان تسلم به وتتعايش معه. ولعل انصع بيان لهذا الحكم هو قرار النائب العام المصري عن استبعاد قبول مستشارين جدد في الوزارة بحجة أن آبائهم لا يحملون شهادات جامعية. أي ان مهنة الإستشارية القانونية في الدولة لا تصلح لأبناء الطبقات الفقيرة. للأسف هذه الخاصية المرتبطة بالترقي في درجات السلم الإجتماعي التي كان مصدر الحيوية والتجدد في نسيج المجتمع السوداني اصبحت آيلة للإندثار وآخذة في التضاؤل مما يشي بظهور بؤر توتر إجتماعية جديدة، لأن التعليم العالي في ظل الإقتصاديات الربحية المتحكمة فيه تحرم بعض النوابغ والمتميزين في هذه الطبقات من الدخول في سوق التنافس المفتوح استنادا علي الكفاءة والموهبة والتفوق الأكاديمي، واصبحت منافذ التعليم العالي مفتوحة للطبقات الميسورة والمقتدرة التي تستطيع أن توفر لأبنائها مصروفات الدراسة والتعليم. هذا فضلا عن الاخراج القسري لأبناء الطبقات الفقيرة من دائرة الإنتاج لأن الجامعات أصبحت هي موئل التكنلوجيا ومعامل التدريب للإسهام في اقتصاد المعرفة المتحكم في سوق العمل والإنتاج العالمي. كما انعدمت اسس التنافس الشريف وفقا لمنظومة الطبقة الإجتماعية واصبح التفاضل ليس بالنبوغ الأكاديمي فحسب بل بنوعية ودرجة واسم الجامعة التي تخرج منها الطالب فخريج جامعة هارفارد من اسرة ميسورة الحال لا يتساوي مع احد غبش خريجي جامعة زالنجي.
كيف يمكن ان نستعيد تركيبة النظام الإجتماعي الذي كان سائدا، والذي ساهم فضلا عن عدالته في نزع مكامن الغبن التاريخية ومحاربة التراتبية والطبيقة الإجتماعية لأنه جعل سلم الترقي الإجتماعي مفتوحا عن طريق الكدح والتعليم والكفاءة والتميز. إن الحراك الإجتماعي الذي يتفاعل في السودان الآن سيقود حتما الي تكريس طبقية جديدة ترتكز علي الكسب المادي السهل عن طريق التجارة العينية والمضاربات وخدمات التسهيلات واحتراف العنف والمغامرات والإرتباط ببعض منظومات الحكم، لا عن طريق الكدح والتميز والتفوق الأكاديمي والمهني لأنه طريق شاق وطويل. إن خروج منظومة الجامعات ومؤسسات التعليم العالي عن اهداف خدمة التنمية عن طريق أخراج الطبقات الفقيرة الي فضاءات الطبقة الوسطي وادماجها في عجلة الإنتاج القومي وتعبيد الطريق لها للترقي في السلم الإجتماعي بقدر ما تكسبه من انجازات او تحققه من نجاحات سيؤدي الي توترات طبقية وانتكاسات اجتماعية تترتب عليها خسائر فادحة في عمق النسيج الإجتماعي وعمليات الإندماج القومي. ولا سبيل للحل إلا بإصلاح منتجات ومخرجات الجامعات و منظومة التعليم العالي وإعادة ربطها بتحقيق التنمية الإجتماعية واعادة دورها الحيوي في انتشال الطبقات الفقيرة و ادماجها في دورة الإنتاج وصيرورتها في ديناميكيات الطبقة الوسطي وفتح طريق الترقي الاجتماعي والتدريب علي مسارات اقتصاد المعرفة عبر التعليم والتفوق الأكاديمي والتميز المهني والكفاءات الإختصاصية.
أكدت الدراسة التي اعدتها جامعة هارفارد بتمويل من البنك الدولي عن التعليم العالي والنمو الإقتصادي لدول أفريقيا جنوب الصحراء أن التنافس علي قاعدة اقتصاد المعرفة العالمي لا يتحقق إلا بدفع قوي من الجامعات ومؤسسات العليم العالي لأن لها القدرة علي تصميم التكنلوجيا والتدريب علي اساليب الإنتاج الحديثة ونظم المعلومات والبيانات مما يسهم في مضاعفة معدلات الإنتاج القومي والنمو الإقتصادي. تضاعفت نسبة التسجيل العالمي في الجامعات الي 32% خلال عقدين من الزمان،فيما لا تزال أفريقيا تحقق نسبة 5% فقط. وكنتيجة لذلك تصل نسبة الإنتاج في افريقيا الي 23% من النسبة التي يمكن تحقيقيها. ويعود ذلك بشكل اساسي الي تركيز الإهتمام في الماضي علي التعليم الأساس واهمال التعليم الجامعي والعالي.إذ كان العالم يركز علي التعليم العالي كأحد أبرز مؤشرات النمو الإقتصادي لقدرته علي توظيف وتفعيل التنكنلوجيا في الإنتاج فإنه في السودان يكتسب خاصية نوعية تتلخص في أنه أحد أهم بوابة الترقي الإجتماعي لقدرته علي انتشال عدد كبير من الكتل الإجتماعية من قاع الفقر الي فضاءات الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة.
انتبهت دول الخليج الي فوائد الإستثمار في مؤسسات التعليم العالي التي تتلخص أهميتها لهذه الدول في أنها محاضن منتجة للحداثة في محيط اجتماعي محافظ ومتزمت ومراكز للتدريب واكتساب مهارات اقتصاد المعرفة، لذا لجأت هذه الدول الي تأسيس فروع للجامعات العالمية في ترابها الوطني، فقد منح الملك الراحل عبدالله في السعودية مبلغ 20 مليار دولار لإنشاء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنلوجيا بالقرب من جدة ، كما افتتحت الإمارات عدد من الجامعات اهمها جامعة نيويورك في السعدية، لتلعب دورا في نقل التكنلوجيا وتدريب جيل جديد من الوطنيين علي اسس الإنتاج والإدارة الحديثة، هذه إضافة الي تجربة قطر التي انشأت عن طريق قطر فاونديشن مدينة جامعية تضم ثمانية أفرع لأهم الجامعات الأمريكية.
تكاد تخلو الدراسات التي أجراها البنك الدولي عن اثر مؤسسات التعليم العالي في تطويرالنمو الإقتصادي في الدول الأفريقية من ذكر السودان لعدم وجود بيانات اضافة الي توفر شكوك قوية في ثمرة وحصاد الجامعات السودانية في تحقيق النمو الإقتصادي. لضعف التمويل وعدم توفر البنيات الأساسية وضعف الطلاب علي التحصيل الأكاديمي لأسباب متعددة. وهذا الأمر يقتضي اصلاحا شاملا في اطار نظر مفاهيمي شامل ومتقدم لا يحصر اهداف الجامعات السودانية في اشاعة التعليم والوعي العام ولكن في تطوير النمو الإقتصادي والإجتماعي عن طريق انتاج وتطوير التكنلوجيا واساليب وطرق الانتاج الحديثة. والأهم من ذلك أن تستعيد الجامعات دورها التاريخي في أن تكون جزء من مؤسسات الترقي الإجتماعي بالتفوق الأكاديمي والتميز المهني والنجاحات العملية. وتتحول بذلك الي ناظم للعقد الإجتماعي لأنها تفتح باب الترقي الإجتماعي لأصحاب الكفاءات كما تقاوم تكريس بناء طبقي علي اسس ترابية في السودان وتعزز من منظومة المجتمع المفتوح القائم علي التنافس الحر المفتوح. الفشل في ذلك يعني اعادة انتاج الأزمة ببروز بؤر توتر اجتماعية جديدة تصب مزيدا من الزيت في النار التي تتراقص علي الهشيم وتأبي الخمود.