من كوكب آخر؟ السودان يعلن الخروج على مجلس الأمن
بسم الله الرحمن الرحيم
من كوكب آخر؟ السودان يعلن الخروج على مجلس الأمن المهيمن علي كوكب الأرض
مقدمـة:
مجلس الأمن هو الهيئة العليا التي بيدها حل وعقد القرارات النهائية الخطيرة التي تنظم حياة الناس ومصائر الشعوب على كوكب الأرض. هذه حقيقة لا تتناطح عليها عنزتان. هذه القوة المطلقة التي بيد مجلس الأمن لا دخل فيها لشخوص أعضاء المجلس, ولا حتى لدولهم, وإنما هي قوة تواثقت عليها المجموعة البشرية القاطنة على كوكب الأرض على إثر الدمار الماحق الذي حاق بالبشرية إبان الحروب الكونية في القرن الماضي. فهي إذن قوة تجسد الإرادة الكونية أو إرادة المجتمع البشرى الدولي في نهايتها. وبناء حلية يتحتم على كل الدول والشعوب احترام إرادة الإنسان الجمعية واحترام الهيئة التي تمثل تلك السيادة والإرادة للمجتمع الإنساني على كوكب الأرض (ممثلة في مجلس الأمن). وتنبني على ذلك أن الخروج على هذا الإجماع هو خروج وتمرد على الإرادة الكونية والإجماع البشرى الذي ارتضاه الناس لتنظيم العلائق فيما بين الأمم والشعوب.
زيارة وفد مجلس الأمن للسودان وموقف الحكومة والمعارضة الناشز:
طالعتنا الأخبار بزيارة قام بها أعضاء من مجلس الأمن للسودان, وهذا بحد ذاته يعطي مؤشراً خطيراً للأوضاع بالسودان باعتباره يمثل تهديداً للسلم والأمن الدوليين, والزيارة دليل على القلق المتعاظم لدى المجموعة الدولية لمجريات الأحداث في السودان تداعياتها الخطيرة, وإلا لما قام المجلس بهذه الزيارة - وهي ليست الأولى التي يخصصها المجلس للسودان. طبيعة الأشياء ومنطق الحكمة يقول أن السودان كان يجب أن يبادر بمباركة زيارة وفد المجلس ويعمل كل ما في وسعه لإبداء الترحيب والاحترام الواجب نحو الهيئة التي تحكم مصير العالم, احتراما واجباً ليس لتكريم الأعضاء في شخوصهم, بل احتراماً ل "الصفة الاعتبارية" التى يمثلونها - كونهم موفدو الإرادة الكونية والضمير البشري الإنساني الذي تقلقه الأوضاع فى السودان ويبادر لحلحلتها. لكن الشيء المخزي حقاً أن قادة السودان - حكومة ومعارضة - تعاملوا مع المجلس بكل الازدراء وعدم الاحترام الذي لا يليق لا برجال الدولة ولا بقيادات الأمة بتجاهلهم المشين لزيارة أعضاء المجلس.
قد لا يعني هذا التجاهل وعدم الاحترام شيئاً كثيراً بالنسبة لأعضاء المجلس, لكنه على أية حال يعطى انطباعاً سيئاً جداً عن طبيعة عقلية الناس الذين يمسكون بزمام الأمور في هذا البلد الهام على الخارطة الدولية, كما تبين الهوة السحيقة التي تفصل بين الجانبين في فهمهم لأمور العلاقات الدولية وموازين القوى والتعاطي الإيجابي في التعاون لحلحلة المشاكل. وأحسن تعبير عن هذا الوضع الشاذ هو ما صرحت به سوزان رايس مندوبة الولايات المتحدة في المجلس حين قالت أن السودان فقد فرصة عظيمة لتوضيح وجهة نظره للمجلس. هذا يعني أن المجلس يأتي الى السودان على فرضية أن السودان يمثل تهديداً للأمن والسلم الدوليين, وبمقاطعته لزيارة المجلس يضيع الفرصة في بيان حجته ودفوعاته حول الاتهام الموجه إليه بتأزيم الأمور في محيطه الجيوبولتيكى. ويعني ذلك - ضمن ما يعني - أن المجلس قفل راجعاً ولم تتغير نظرته, بل إن حكومة السودان - وأيضاً المعارضة تقف معها فى ذات الخندق - أثبتت ما يؤكد الاتهام, بل وتأكد ذلك عملياً باجتياح الجيش الحكومي لمدينة آبيي وما تلا ذلك من أعمال عسكرية طالت الفرق التابعة للأمم المتحدة. هذا (البيان بالعمل) يتم لسوء الطالع تزامناً مع زيارة وفد مجلس الأمن, ما يؤكد عملياً أن السودان خارج عن الإرادة الدولية وليس له لهذه الإرادة الدولية لا احترام ولا تقدير, ناهيك عن الامتثال لمقرراتها.
هل السودان يعيش في كوكب آخر غير كوكب الأرض؟
مجلس الأمن يمثل القوة النهائية الفاصلة على كوكب الأرض, مفوضاً من مجموعة الأمم والشعوب التي تقطن على هذا الكوكب بعد أن تواثقت هذه الشعوب أن الصيغة الحالية للأمم المتحدة والجمعية العمومية ومجلس الأمن هي أفضل ما أنجز- حتى الآن - للحفاظ على السلم والأمن الدوليين. بالطبع هذه الصيغة ليست المثلى- ولكثير من الشعوب تحفظاتها وتظلماتها, حتى داخل أروقة الأمم المتحدة هناك أصوات كثيرة تنادي بإصلاح هياكل الأمم المتحدة. لكن إلى أن يتحقق ذلك, تظل هذه الصيغة هي التي تحكم العالم وتتحكم في مصائر الحكومات والشعوب. وإلى حين ذلك وإلى حين أن تتغير قوانين اللعبة بين الأمم, لا تسمح المجموعة الدولية أن يأخذ بعض الحكام القوانين الدولية في أيديهم, ويفسرونها على هواهم.
الصح بيّن والخطأ بيّن لمن هداه الله لمعرفة النجدين:
قد لا تتفق حكومة الخرطوم مع مجلس الأمن في كثير من الأمور التي ترى حكومة الخرطوم - ومعها قادة المعارضة السودانية - أنها "صح", بينما يرى مجلس الأمن والمجموعة الدولية أنها "خطأ". من هذه الأمور:
_ الحروب المستمرة التي ظلت تشنها حكومة الخرطوم على مواطنيها شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً راح ضحيتها ملايين من الأنفس.
_ الانتهاكات التي تمارسها الحكومة يومياً في حقوق الإنسان.
_ انتهاكات حرية الصحافة والتنكيل بالصحفيين وقادة الرأى مثل محاكمة الدكتور القرّاى.
_ انتهاكات حرية التجمع والتعبير والحريات العامة.
_ الاغتصاب كوسيلة من وسائل الحرب والتدمير ضد المناوئين.
_ انتهاكات قوات الأمن وإطلاق يدها دون محاسبة أو مراقبة.
_ الحبس والسجن التعسفي والتعذيب والإرهاب.
_ التجويع والإفقار كنهج سياسي لتركيع الخصوم.
_ الفساد العام والفوضى العامة وعدم الشفافية.
_ تقويض المؤسسات المدنية وعدم المؤسسية في الممارسة فى مؤسسات الدولة.
_ عدم حيدة القضاء وسن القوانين لحماية النظام ومنتسبي النظام.
_ تصدير الفكر الجهادي والإرهابي لدول الجوار.
_ الاثراء غير المشروع لمحاسيب النظام وتهريب ثروات البلاد إلى الخارج.
_ تكوين ميلشيات مسلحة مؤدلجة مهمتها حماية النظام مستعدة لارتكاب كل الفظائع.
هذه وغيرها من الأمور التي يرى المجتمع الدولي ممثلاً في مجلس الأمن أنها تمثل انتهاكات خطيرة في القانون الدولي وتضع تهديداً حقيقياً للأمن والسلم الدوليين. كما أن الضمير الإنساني والفطرة السوية تتفق مع نظرة المجلس بخطورة هذه الانتهاكات. لكن حكومة الخرطوم - ومعها قادة المعارضة - لا يرون كذلك, بل يعدونها أنها من حقوقهم "السيادية" أن يحكموا كيفما يروق لهم, ولا يرون في ذلك انتهاكاً. مفهوم السيادة تخطته قيم المجتمع الدولي المبنية على احترام الكرامة الانسانية ومبادئ حقوق الانسان وصون الحريات العامة. فلم يعد من حصانة لحاكم أو حكومة تنتهك حقوق مواطنيها بحجة ممارسة السيادة. فهل حكام السودان ومشايعيهم من قادة المعارضة يعيشون في كوكب آخر غير كوكب الأرض؟
إن سلوك حكومة الخرطوم تجاه أعضاء مجلس الأمن والتجاهل وعدم الاحترام بما يليق بمكانة المجلس إنما يقف دليلاً بيّناً على الحمق والجهل والغرور الأجوف والاستهتار بالناس والقيم وعدم تقدير العواقب. ولكأني بهم سوف يندمون على ذلك ندامة الكسعي, أو ندم صدام حسين حين تحدّى الإرادة الكونية والإجماع البشري.
د. أحمد حموده حامد
fadl8alla@yahoo.com
السبت 28 مايو 2011 الموافق 25 جمادى الآخرة 1432ه