من “لاميـّة العجم” إلى “لاميـّة العرب” وبالعكس
الشكر للأخ إبن الدفعة د. علي حمد إبراهيـــــم الذي أكثــر في مقالاته الأخيـــــرة من الإستشهاد ب" لامية العجم " لمؤيد الدين الطغــرائي و ذروة سنامها ذلك البيت الشهير الذي صار مثلاً :
أعلـل النفس بالآمـــال أرقبها *** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
و حق للأخ علي أن يفعل و ذلك لأسباب يقدرها من يعرف الأديب والدبلوماسي الكبير الدكتور علي والظلم الذي تعرض له في مسيرته المهنيّة .
هـذا الأمر حفزني للاستنجاد بالمراجع والاستعانة بمحركات البحث للوقوف على نص اللاميّة و معرفة صاحبها - فوقعت على الآتي :
لاميّة العجم قصيدة شهيرة للعميد مؤيّد الدين أبو إسماعيل الحسين بن علي الطغرائي المتوفى سنة 514 هـ وكان قد عملها ببغداد سنة 505 هـ يصف حاله ويشكو زمانه أولها:
أصالة الرأي صانتني عـن الخطل *** وحلية الفضل زانتني لدى العَطَلِ
حاكى بها الطغـرائي "لاميّة العرب" للشاعر الجاهلي الشنـفــرى الأزدي المتوفى سنة 70 ق. هــ التي أولها :
أقيـــمــــوا بنــــي أمــي صدور مطيـــكم *** فإني إلى قـــــوم ســواكــــــم لأَمْيـــــــَـل
و بالرغم من أن عدداً من قصائد العرب الجياد قد جمعت في مجموعات مميزة كالمعلقات و الأصمعيات و المفضليات إلاّ أن قصيدة واحدة لم تنفــرد باسم خاص بها كما حدث ل " لاميّة العرب " - يميزها عن غيرها من القصائد مما يثير التساؤل عن سبب تفردها بهذه الميزة .
و لا شك أن للنقاد الذين أطلقوا عليها اسـم " لاميّة العرب " أسبابهم المقبولة.. و لو لم يكن الأمر كذلك لوجدنا من يعارض هذه التسمية أو ينكرها لكن شيئاً من هذا لم يحدث.
يقول الدكتور صلاح الدين الهواري - في كتابه عن اللاميّة الذي اعتمدت عليه بشكل كبير في هذه المقالة :
" صدرت اللاميّة عن طبيعة صافية و فطرة ساذجة لا تكلف فيها و لا تصنع و لا رياء لذلك جاءت معانيها مواكبة لآلام الشاعر و آماله و طباعه و أحداث حياته .. و اشتملت على فضائل إنسانية و محامد خلقية لم نجدها في كثير من قصائد معاصرية مثل الصبر و العفة و سمو النفس و علو الهمة و إباء الذل و الضيم " .
و يشير " حسب هذه القصيدة فخراً أن الرواة نسبوا للنبيّ ( ص ) قولاً جاء فيه { علموا أولادكم لاميـّـة العرب فإنها تعلمهم مكارم الأخلاق } فإذا صحت هذه الرواية تكون هذه القصيدة و صاحبها قد بلغــا درجة رفيعة لم يبلغها أصحاب المعلقات على عظمة قدرهم الشعري و نفاسة قصائدهم و ذيوع صيتهم في الآفـاق " .
و يضيف أن من الملاحظات المهمة التي تميزت بها اللامية :
- ليس فيها مثل قول طرفة الذي ربط حياته بلذات ثلاث لولاهنّ لم يكترث متى جاءه الموت:
فـلـولا ثلاث هنّ من لــذة الفــتـــــى و عيشك لم أحفل متى قام عودي
- بعكس كثير من قصائد الشعراء الفحول، كعنترة و عمرو بن كلثوم ، فقد خلت من حديث الخمر و المباهاة بشربها و الإنفاق عليها .
- لم تتضمن ذكر النساء و التهالك على التلذذ بهنّ و سمت أبياتها عن الإقرار بالفحش و الزنى كما في بعض شعر امرئ القيس.
ينتمي الشنفري إلى الفئة التي عرفت ب " صـعــاليك العــرب " وهي فئة انتفضت من قلب طبقة الفقــراء و المظلومين ثارت على أعراف القبيلة و ظلم أغنيائها حاولت بطريقتها الخاصة إرساء قواعد لمجتمع يسوده العدل و التكافل .. و يقال أن أفراد هذه الفئـة قد امتازوا بالشجاعة و الأنفة و الإقدام و أنهم لم يخرجوا على قبائلهم لسفه أو دناءة خلق لكن من أجل تغيير الأعراف الجـائرة . و لأنهم كانوا يؤمنون بعدالة قضيتهم ، فقد كان الصعاليك يفتخرون بأعمالهم و غــاراتهم و إن كان يتخللها نهب و سبي و قتل . ولا ينسى هؤلاء الصعاليك و هم يغيرون و يقتلون أن يحافظوا على فضائلهم و قيمهم الخلقية.
يقول عروة بن الورد :
فلا أترك الإخوان ما عشت للردى *** كما أنه لا يتــرك المـــاء شاربه
و لا يستضام الدهــرَ جاري ولا أُرى *** كمن بات تسري للصديق عقــاربه
و إن جــارتي ألــــــوت رياح ببيتهـــــــا *** تغـافلت حتى يسترَ البيـتَ جانبـُه
و قد مثل الشنفري حركة الصعلكة بقيمها و مظاهرها أدق تمثيل و كان مثالاً للصعلوك المتسلح بالصلابة و الشجاعة و الجرأة فمن حيث القوة البدنية كان يسابق الخيل حتى ضرب به المثل في سرعة الجري فقيل " أعدى من الشنفري " إلى جانب تحليه بالفضائل و القيم الخلقية و السلوكية و كان يقيم أطيب العلاقات مع زملائه الصعاليك من أمثال تأبط شراً و عامر بن الأخنس و عمرو بن براق وغيرهم .
و حين قتل الشنفري أقسم تأبط شرّا أن ينتقم له و رثاه بقصيدة عدد فيها مآثره و سجاياه منها قوله :
على الشنفري ســاري الغمام و رائــح *** غـزير الكُـلى و صـيّب الماء باكــُر
و يومـــك يوم العبكـتــيــن و عطفـه *** عطفت و قد مس القـلوبَ الحناجـــرُ
تحــاول دفعَ المـوتَ فيهـــمِ كأنهــم *** بشـوكتك الحــذَّا ضئيــن عـواثـــــُر
فــلا يبعـــدَنّ الشــنـفــــري و ســـلاحه *** الـحــديـــدُ و شـــد خـــطـــوه متـــواتـــرُ
هوامش :
1. كما سـبقت الإشارة فقد اعتمدت في هذا المقال بصفة أساسية على كتاب د. صلاح الدين الهواري " لاميـّة العرب للشنفري " الصادر عن المكتبة العصرية - بيروت سنة 2012 م و كتاب " PDF " من ويكيبيديا بعنوان " شرح و إعراب لامـيـّة العجـم " لأبي البقــــاء العكبــري .
2. لا أنكر أنني أقحمت نفسي في ساحة لست من فرسانها و كان حريّـاً ترك الموضوع للأدباء الضالعين في النقد الأدبي - غير أني رأيت اعطاء نبذة تعريفية أوليّة للقارئ غير المتخصص بأمل فتح شـهيته للقــراءة المتعمقة عن اللاميتين في وقت لاحق قانـعـــاً بأن أظــفـــــر من هذا الجهد المتواضع بأجـــر المناولة .
الخرطـــوم في :
أول يــونيــــو 2015 م
abasalah45@gmail.com