من نيالا إلى أم روابة عبر أم دوم: حرب الحواكير في تخوم العاصمة. بقلم: د. عبدالوهاب الأفندي
د. عبد الوهاب الأفندي
2 May, 2013
2 May, 2013
من نيالا إلى أم روابة عبر أم دوم: في عشرية دارفور، حرب الحواكير في تخوم العاصمة
عندما تحدثنا في مقال الجمعة الماضي على هذه الصفحات عن وصف إليوت لابريل بأنه أقسى الشهور في سياق التناول لمأساة العراق المتجددة، أشرنا إلى أمثلة أخرى لتفجر الأوضاع في مناطق أخرى، منها تفجر الحرب الأهلية في لبنان في أبريل عام 1975، وتفاقم أزمة درعا في سوريا التي كانت بداية عسكرة الثورة السورية. العراق نفسه شهد بداية الاحتلال مع سقوط بغداد في أبريل 2003.
ولكن أبريل يصادف أيضاً الذكرى العاشرة لحدث جلل آخر، هو تفجر أزمة دارفور التي تزامنت مع غزو العراق، وتشابهت معه في جوانب كثيرة. وكان الأكاديمي المرموق في جامعة كولومبيا بروفيسور محمود ممداني أجرى في سياق نقده لردود الفعل الدولية والامريكية على أزمة دارفور في كتاب شهير صدر عام 2009 ، مقارنة بين الموقف من العراق ودارفور. ورأى ممداني في اهتمام الرأي العام الأمريكي بدارفور بدل بالعراق مؤشراً على خلل مزدوج، خاصة وأن عدد الضحايا في العراق كان أكبر، والمسؤولية الأمريكية عنه أوضح. فهناك خلل في الوضع الدولي، يتمثل في إعادة إنتاج الاستعمار تحت مسمى التدخل الإنساني، وخلل في المشهد السياسي الأمريكي، حيث يفضل الأمريكيون لعب دور المنقذين الإنسانيين في مناطق بعيدة، على لعب دور المواطنين الذين يحاسبون حكومتهم على أخطائها وخطاياها.
وقد اختلفت مع صديقي العزيز ممداني في تحليله الذي يعيد إنتاج مواقف اليسار القديم والراديكالية الافريقية في تبرير الكبائر والمنكرات التي ترتكبها الأنظمة الافريقية تحت شعارات الممانعة والسيادة ومقاومة الامبريالية. وبحسب تحليلي فإن أوجه التشابه بين العراق ودارفور تتعلق باستخدام الميليشيات، من شيعية وكردية ثم صحوات (والشركات الخاصة، وهي "ميليشيات" مأجورة)، وهو أمر حتمه موقف الضعف الذي واجهه كل من الاحتلال الأمريكي والنظام السوداني، من ناحية أزمة الشرعية وضعف الإمكانيات. وقد ارتكبت كل هذه –ومعها القوات الأمريكية- فظائع لا تحصى من التعذيب والقتل على الهوية والتدمير، ولكن كل ذلك تم التجاوز عنه لان الاحتلال ما كان ليبقى، أو كان سيكون باهظ الثمن بأكثر مما كان، بخلاف ذلك. نفس الشيء يمكن أن يقال عن استعانة النظام السوداني بميليشيات الجنجويد وغيرها، حيث كان الباعث عليه الوضع اليائس الذي يدفع صاحبه على تبرير كل ما يراه ضرورياً.
من هنا لا يمكن مقارنة التدخل الإنساني بالحرب على الإرهاب كما فعل ممداني، وربط كليهما بالاستعمار، لأن الدوافع مختلفة في الامرين. فالحرب على الإرهاب يحركها الخوف والفزع من أخطار لا يعرف صاحب القرار من أين تأتي، وبالتالي تبرر بموجبها الكبائر باعتبارها أهون الشرين. أما التدخل الإنساني فينبع من وضع يشعر صاحبه بالاطمئنان والقدرة على بسط فائض من الأمن على غيره، والتصدي لكبائر الآخرين وتجاوزاتهم، لا ارتكاب تجاوزات. ومن هنا يمكن أن يقال أن سلوك النظام السوداني في دارفور، وليس التصرفات الأمريكية، هو الذي كان يعيد انتاج سلوكيات الحرب على الإرهاب.
وعليه ينبغي أن يكون مرور عشر سنوات على تفجر الأزمة مناسبة لإعادة التأمل بصورة أعمق في العبر من هذه الأزمة وطريقة معالجتها. ويضاعف من هذا المطلب أنه حتى لو شئنا التغافل عن هذه الذكرى بإدارة ظهرنا إلى الروزنامة، فإن الواقع الماثل يفرض علينا التذكر. فقد شهدت الأيام الماضية أحداثاً جساماً أعادت إلى مقدمة الاهتمام ليس فقط تلك الأزمة، بل دوافعها ومسبباتها.
وقد كانت أول تلك الأحداث الاحتجاجات التي شهدتها ضاحية ام دوم الريفية جنوب الخرطوم أمس الأول السبت ضد قرار السلطات السودانية بيع جزء من أراضي المنطقة الزراعية والسكنية لمستثمرين عرب ومتمولين محليين. وقد قتل في تلك الاحتجاجات شخص واحد على الأقل واعتقل أكثر من مائة اطلق سراحهم فيما بعد بينما جرح العشرات. وقد سبق ذلك بيوم قيام مقاتلي "الجبهة الثورية" المعارضة بهجوم على مدينة أم روابة الواقعة قرب الحدود بين ولايتي جنوب كردفان وشمال كردفان، وذلك في نفس اليوم الذي اعلن فيه فشل جولة المفاوضات بين الحكومة السودانية وقطاع الشمال في الحركة الشعبية، أحد مكونات "الجبهة الثورية" (في تحالف مع حركات من دارفور).
ولأول وهلة، قد لا يبدو أن هناك رابطاً بين الأمرين. فضاحية أم دوم تقع في قلب السودان النيلي، بين جزيرة خصبة في قلب النيل الأزرق وقرية متاخمة لها، ويسكنها مجتمع نيلي مترابط وذو جذور عميقة في المنطقة. واشتهر أهالي أم دوم بالعمل في التجارة، وكان كثيرون منهم يعملون في جنوب السودان، وعرف عن جزء منهم تأييدهم للنظام الحالي. ولهذا كان أحد الشعارات التي رفعوها "منحناكم الأصوات فأخذتم أرض الأجداد". أما "الجبهة الثورية" فتقول إنها تمثل أهل الهامش من العناصر غير العربية، خاصة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، ولا تخفي عداءها لكل ما يمثله النظام ومن يمثلهم.
ولكن بعض التأمل سرعان ما يكشف الرابط. فالصراع على الأرض هو أحد أهم العوامل التي فجرت الصراع في دارفور، وذلك على خلفية تقاليد الحيازة القبلية للأراضي التي تعرف بالحواكير (جمع حاكورة). ولهذه الحيازة جذور تاريخية تعود إلى حقبة ما قبل الدولة الحديثة، حيث كانت الكيانات القبلية دويلات أو شبه دويلات تتملك الأرض بينها جماعياً. ولكن مع وصول الاستعمار البريطاني، صدر قانون يعلن أن أي ملك لا يكون في حيازة شخص بعينه يعتبر من أملاك الدولة. وفي مناطق كثيرة استغل شيوخ القبائل والعشائر والعمد هذا القانون فقاموا بتسجيل الملك المشاع على أنه ملك شخصي لهم ولأسرهم. ولكن في مناطق أخرى كثيرة، خاصة المناطق الريفية البعيدة عن المدن، لم يتم تطبيق هذا القانون، وظل القانون العرفي هو السائد.
وقد كان هذا التضارب هو أحد أسباب النزاع في دارفور (وكذلك في منطقة أبيي)، خاصة وأن التعامل مع القوانين العرفية تم بانتقائية، خاصة فيما يتعلق بحقوق الرعاة الرحل في الأرض المشاع بحسب الحاجة، وهي حقوق ظلت ثابته لمئات السنين. ولكن مع زيادة السكان وانتشار الجفاف والتصحر ونشوء العقلية الراسمالية الحديثة، أصبح كثيرون يعلنون حيازة الأرض المشاع كمزارع خاصة ويمنعون من كان يستخدمها في السابق، مما أدى إلى صدامات ومشاحنات. الأمر نفسه حدث في الأراضي الريفية القريبة من المدن أو التي تقع في أماكن خصبة أو مناطق تم اختيارها كمشاريع.
في هذا المقام، كان ينبغي على الدولة، باعتبارها الممثل الشرعي للإرادة الجمعية، أن تتدخل لتكون هي الحكم في هذه النزاعات. ولكن هنا لب المشكلة، لأن الدولة تفتقد الشرعية في نظر المتنازعين، الذين يقدحون في تمثيلها للمواطنين وعدالتها. إذا كان ممداني اعتبر أن انحياز الدولة في دارفور للرعاة ضد المزارعين عدلاً، لأن الرعاة كانوا هم المهمشين في دارفور والمتضررين من الأوضاع المستجدة، إلا أن المشكلة هي أن الثقة في الدولة كانت ولا تزال معدومة. وفي النزاع الذي تفجر في منطقة أم دوم، كانت التهم واضحة للدولة بأنها أعطت الأفضلية في توزيع الأراضي للمحاسيب والمقربين من السلطة، مما عزز عدم الثقة في نزاهتها وتمثيلها للصالح العام. وقد أضيفت إلى هذه تهم أخرى قديمة-جديدة في حق النظام، تمثلت من جهة في استخدام القوة المفرط تجاه الاحتجاج السلمي وانفصالها التام عن المجتمع ومشاعره، ومن جهة أخرى في التقصير في الدفاع عن المدنيين. وقد تركز الاتهام على وزير الدفاع الذي كثر الحديث عن تقصيره، وعن جهاز الأمن الذي عجز عن كشف تحركات المتمردين رغم أن هذه التحركات كانت معلومة لدى لعامة لعدة أيام قبل الهجوم.
يؤكد كل هذا أن لب المسألة في دارفور وأم دوم (ومناطق أخرى) يتلخص في أزمة الشرعية لدى الدولة، وهذا يقودنا إلى مفاوضات أديس الفاشلة وعملية أم روابة (الفاشلة ايضاً). ففي المفاوضات وقع الخلاف بين الطرفين حول عدة نقاط، أولها أن قطاع الشمال أصر على أن تكون الأولوية في المفاوضات للشؤون الإنسانية، بينما أصرت الحكومة على أن يكون وقف إطلاق النار هو نقطة البداية. في مسألة أخرى أصرت الحركة الشعبية على أن تتم مناقشة قضايا الحكم في السودان ككل، بينما أصرت الحكومة على أنها لن تناقش إلا قضايا المنطقتين.
ولا شك أن قطاع الشمال محق في أن حسم قضية الحكم بصورة شاملة ضرورة حتمية، خاصة في ظل تحليلنا أعلاه بأن لب الأزمة هو فاقد الشرعية لدى الدولة. ولكن قطاع الشمال والنظام ليسا هما المخولين حسم هذه المسألة، وإنما لا بد من أن يكون هناك تمثيل لكل قطاعات الراي في السودان في مثل هذه المداولات. فحمل السلاح وحده لا يؤهل جماعة بعينها لكي تتحدث نيابة عن الشعب بأكمله.
ويتعزز هذا الحكم بما وقع في عملية أم روابة التي تثبت ما ظللنا نؤكد عليه مراراً من قبل بأن العمل المسلح لا خير فيه. فبحسب الروايات المتواترة فإن مسلحي الجبهة الثورية قاموا بمهاجمة ام روابة واربع قرى أخرى لا توجد بها ثكنات عسكرية، وقاموا بتدمير محطات المياه والكهرباء وقطع الطريق السريع ونهب المتاجر ومخازن الحبوب وممتلكات المواطنين، خاصة السيارات والهواتف النقالة، كما قتلوا العديد من المواطنين ورجال الشرطة، بما في ذلك بعض رجال شرطة المرور. وأسوأ من كل ذلك قاموا بارتكاب جرائم حرب تتمثل في تصفية بعض المعارضين السياسيين وأقارب المسؤولين. وهذه كلها ممارسات ستعزز الانقسامات في الشارع السوداني، وتخلق صورة سلبية لهذه الحركات باعتبارها تفتقد السلوك الحضاري الذي يمنحها القبول العام. فإذا كانت هذه الحركات تمارس النهب والتصفيات في مناطق الهامش التي تدعي الدفاع عنها، فماذا ستفعل لو اقتربت من مدن الوسط والشمال؟
المطلوب هو إذن وقف هذه الممارسات البربرية من حركات تتحدث عن المواطنة المتساوية ولكنها تمارس الاستهداف القبلي والعرقي. وهذا أمر لا يتم إلا بوقف الحرب تماماً والجلوس إلى مائدة مفاوضات تكون كل القوى السياسية والاجتماعية مشاركة فيها حتى لا ينهار المجتمع السوداني بعد أن انهارت الدولة.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]