من وحي الرقابة الضبطية على العلوم والتقانة: طب الطيران- الفريضة الغائبة . بقلم: بروفيسور محمد الرشيد قريش

 


 

 

استهلال :

       رغم إن كثيراً من القضايا المتصلة بحوادث الطيران لا تخرج من نطاق الطب الشرعي والعلوم والكيمياء العد ليين والهندسة الشرعية، إلا أن هناك جانباً بالغ الأهمية يقع خارج نطاق كل هذه المباحث - رغم انه لصيق الصلة بها - ويتمثل هذا الجانب في طب الطيران «Aviation Medicine» والذي يقع في المنطقة الرمادية بين الطب الشرعي والهندسة الشرعية. وطب الطيران ليس له بواكي ها هنا، فان كان الطب الشرعي ليس له وجود في الجامعات، لكنه موجود خارجها، فان طب الطيران غير موجود في كليهما، ونحن إذ نتناوله هنا في معرض التعريف بالطب العدلي فذلك لأنه الأقرب نسباً له،
       الهدف من تناول هذه الأعراض المرضية هنا هو التأسيس لثقافة السلامة الجوية بصورة عامة وذلك من خلال استجلاء كنه اثنتين من أهم العلل المتصلة (بالعامل الإنساني)، والتعرف على تداعياتهما المختلفة، إذ إن ذلك من أوجب واجبات سلامة الطيران. ومن مجمل ما ذكره شهود العيان للحادث ونشرته الصحف، هناك وقائع وإفادات مختلفة تقع في نطاق تحري طب الطيران، نذكرها هنا قبل الاستطراد في عرض بعض العلل الإنسانية والتي عادة ما تتصل بحوادث الطيران،

العامل البشري «Human Factor»:

   التركيز في صناعة الطيران توجه - في العشرين سنة الأخيرة- بصورة خاصة، لقضية هذا العامل البشرى في سلامة الطيران. ونود هنا إن نحصر أنفسنا في اثنين من جوانب هذا العامل المرضية، من باب تعميق ثقافة السلامة الجوية وترك أمر احتمال تسبيهما في الحادث المأساوي للجان التحقيق الجارية. وأولى هذه العلل تتصل بنقص الأوكسجين «Hypoxia» وثانيتهما ترتبط بفقدان الحس الحيزي «Spatial Disorientation».
دعنا نمعن النظر في كلتيهما:

1-نقص الأوكسجين في أنسجة الجسم «Hypoxia »
وتجدد الهواء الرئوي المفرط «Hyperventilation»
"من يرد الله إن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعَّد في السماء" «الأنعام 521»:

     انخفاض توازن الضغط بين خارج الطائرة وداخلها ((Decompression يحدث بنسبة (30- 40) حادثة في السنة في الطيران العالمي، ويرتبط عادة بالإقلاع، لكن من الممكن إن يحدث بسبب انخفاض الهواء داخل مقصورة الطائرة، مثلاً بسبب عطل جهاز التكييف أو انغلاق صمام مدخل الهواء أو بسبب تمزق في السداد المانع للتسرب «Seal Failure» وقد يحدث أيضا بسبب أكسدة أو تآكل جدار المقصورة في الطائرات القديمة. واقل مخاطر انخفاض الضغط تتمثل في فقدان ملكة التقدير السليم والتنسيق العقلاني، لكن الأقرب للاحتمال هنا هو علة أخرى ذات صلة بانخفاض توازن الضغط، وهي تجدد الهواء الرئوي المفرط، بأكثر مما يحتاجه المرء لطرد غاز ثاني أو كسيد الكربون من خلايا الجسم ومن الدم في الشرايين، مما يمكن إن ينجم عنه حالة من شبه فقدان الوعي أو فقدان الشعور بالواقع، ويحدث هذا عادة بسبب الضغط النفسي والقلق «Emotional Stress» لشخص يجد نفسه في مواجهة كارثة جوية محتملة مثلاً، وكثيراً ما يعاني منه طاقم الطائرة في ظروف الطواريء، كما إن «20- 40%» من طلبة الطيران يعانون منه عند التدريب، لذا توصي إجراءات السلامة دائماً بعدم الطيران تحت ظروف التهاب الجهاز التنفسي الأعلى.

2-فقدان الحس الحيزي «الفضائي» والجغرافي «Spatial Disorientation»:
«ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحور ون» «الحجر 51- 61»:
     
      واحدة من اكبر أسباب خفض أداء الطيارين ومن ثم فقدانهم التحكم في الطائرة، هو فقدان الحس الحيزي والجغرافي «والذي يطلق عليه أيضا» «Aviator's Vertigo» ومن الممكن القول بأن كل أطقم الطيران- في وقت من الأوقات أثناء مسيرة حياتهم المهنية - يعانون من هذه العلة. وفي حالة طائرة ايروبص المنكوبة، توافرت لحدوث هذه العلة ظروف بيئية عديدة مثل الظلام وضعف الرؤية المرتبطة بالعواصف والأمطار «كالطيران تحت ظروف تدني الرؤية «IMC» والمناورات الجوية «كالدوران حول المطار قبل الهبوط» والضغط النفسي الشديد المرتبط بإجهاد السفر الطويل والمتصل بالظروف الجوية التي أجهضت محاولة الهبوط الأولى بمطار الخرطوم، وكلها عوامل يمكن إن تؤدي - في اجتماعها معاً- إلى فقدان الحس الحيزي.
ماهية الحس الحيزي:
       في عالم الطيران، هنالك ما يسمى «الوعي الموضعي» للطيار «أو الجشتالت Gestalt» أي الادارك «البيولوجي والسيكولوجي» للحالة التكتيكية «الديناميكية» لبيئة الطيران، ويتمثل ذلك في نوعين من المظاهر:
أ-الحس الفضائي Spatial Orientation.
ب-الحس الجغرافي «المكاني» Geographic Orientation.

      هذه المظاهر الحسية ترتبط أساسا بالبصر، وبدرجة اقل بالسمع ، وتعمل هاتان الحاستان وفق نظام «الزوجية الوظيفية» والذي ينبغي أن نشرحه هنا قبل تبيان كيف تعمل هذه الحواس وفقه.


"الزوجية الوظيفية" "كنظام خبرة ذكي" لأنظمة الكون:
 «الشفع والوتر (الفجر3) والشمس والقمر(الحج 81):

       وفق سنة الله في الكون، عندما تكون هنالك وظيفتان-مثلاً: للعضو الحسي- تتطلب أحداهما جهداً منخفضاً ومتصلاً والأخرى جهداً عالياً لفترات قصيرة، يهييء الله لها آليتين «ماكينتين» مختلفتين بدلاً من آلية واحدة للقيام بالدورين المختلفين، وذلك غاية الكفاءة في التصميم ومبلغ الاقتصاد في التشغيل، على نحو ما نجده  مثلا:
◊    في الجهاز العصبي التلقائي «Autonomic N.S» الذي يتحكم في الدورة الدموية..الخ. في مقابل الجهاز العصبي المتصل بالوظائف الجسدية الإرادية الموقوتة ذات الجهد العالي «Somatic» أو كما هو الحال
◊     في الجهاز العصبي «السمبتاوي» «Sympathetic» للشحن العصبي الموقوت للمواجهة «أو الفرار!» ومتطلباته عالية الجهد في مقابلة الجهاز العصبي «نظير السمبتاوي «Parasympathetic N.S» للتحكم العصبي - مثلاً- في دقات القلب الهادئة والدائمة.
         نفس السنن الإلهية هذه تجرى:
◊    على تصاميم الطيور حيث يهبها الله العضل الأبيض لمتطلبات الإقلاع العالية وقصيرة الأمد في مقابل العضل )اللحم( الأحمر لمتطلبات الطيران المستوى «Cruise» الأطول أمدا.
◊     ونجد نفس هذا القالب التصميمي عند الأسماك «لمقابلة احتياجات مناورات السباحة ذات الجهد الأعلى في مقابل السباحة الهادئة».. الخ.     
         سنشير --إن شاء الله-- عند الحديث عن الهندسة العدلية، إلي كيف لم يأخذ مصممو الطائرات بهذه السنة الإلهية في الطائرات لفرز الإقلاع عالي الجهد والموقوت عن التطواف «Cruise» المستوى، ملتفين حولها بنظم أخرى، فزادوا الطيارين رهقاً ، بينما اخذ بها القائمون على التوليد الكهربائي «بتخصيص التربينات الغازية والتوليد المائي لمقابلة متطلبات الذروة عالية الجهد وقصيرة الأجل مع تخصيص التوليد الحراري لمتطلبات التوليد الأساسي» فأفلحوا.

"الزوجية الوظيفية" "كنظام خبرة ذكي" لحاستي السمع والبصر:

    يعتمد الإدراك الحسي في الأرض على الإذن:  "فضربنا على أذانهم في الكهف سنين عدداً" (الكهف 81) وتتمثل الزوجية الوظيفية في الإذن الداخلية «Cochlea» المخصصة للسمع وفي تجويف الإذن الرد هي «Vestibular System» لتحقيق التوازن على الأرض. لكن الإذن لا تفيد كثيراً في الفضاء «باستثناءات قليلة كسماع أزيز محركات الطائرة مثلاً»، بل وغالباً ما تعطي الإذن الطيار معلومات خاطئة:

Source: www.agen.ufl.edu/.../lect/lect_24/lecture_24.htm
i


العين ودورها المحور في الطيران، - رغم هشاشته
- "وإذ زاغت الإبصار" (الأحزاب 10):

       الادراكية  الحسية في الفضاء تعتمد بصورة أساسية على الأبصار ونفاذ البصيرة، لذا عندما تحدث القرآن عن المعراج إلى سدرة المنتهى قال مخاطباً المكذبين للحدث المعجزة من قريش: "ما زاغ البصر وما طغى ،  لقد رأى من آيات ربه الكبرى" (النجم 71-81)
       ووفقاً لنفس السنة الربانية، فان للبصر عند الإنسان نظامين مختلفين لمعالجة المعلومات الضوئية:
•    النظام البصري المحيط (Ambient Visual System) الذي يستعمله الناس في حياتهم اليومية، وعادة بدون وعي منهم :"وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون" (الأعراف 891).
•    النظام البصري البؤري (Focal Visual System) الذي يستعمله الناس بوعي منهم للتمعن وتحديد التفاصيل الدقيقة للأشياء :"وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" (النور 13).
      وفي ظروف الطيران مع انعدام الرؤية «Instrument Meteorological Condition--IMC» ، يصبح فقدان الحس الحيزي أكثر احتمالاً، وهذا بدوره يؤدي إلى أمرين:
◊    الإدراك الخاطيء من قبل طاقم الطائرة لمسار الطائرة:
        كعدم إدراك موقعها وحركتها وتفهم أدائها ، أو إخفاقهم في إدراك موقعهم من نظام الإحداثيات الجغرافية الثابتة (Fixed Coordinate System) . مثل هذه العلل يمكن إرجاعها إلى قصور الوظائف الفسيولوجية للجهاز الحسي لدى الإنسان في التعامل مع الفضاء، فالإنسان خلق ليمشي على الأرض، ولقد ذللها الله تعالى له- رغم دورانها- بجعلها بيئة ثابتة ومستقرة ("1g" Environment) ، تتسق مع فيسولوجيا الجسم البشري "وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً. فامشوا في مناكبها" (الملك 15) ، ولم يخلق الإنسان لبيئة الفضاء التي تتعدد فيها معدلات تسارع الجاذبية الأرضية  -Environment)   (G-، مما ينجم عنه في الفضاء تكرار فرص الخطأ الادراكي البصري للمكان - تماماً كما رأينا الأذن تعطي معلومات خاطئة في تلك البيئة - خاصة في ظروف أحوال الأرصاد والرؤية المتدنيين «IMC» مما يستوجب الطيران بأجهزة القياس الآلية «IFR».
◊    الخداع البصري- "أفسحر هذا أم انتم لا تبصرون" (الطور 15):
                فقدان الحس الحيزي قد يفضي إلى أوهام «خادعة بصرياً ومضللة عقلياً لطاقم الطائرة مثل الإحساس «الوهمي» بالدوار (والأشبة بإحساس الدوار الحقيقي على الأرض – Vertigo) ، وقد يفضي فقدان الحس الحيزي إلى التصور الخاطيء لوضعية الطائرة (المعروف طبياً "Somato-gravic Illusion) ، كالإخفاق في تقدير زاوية الانعطاف والذي يرتبط عادة بالإقلاع، لكنه يمكن أن يرتبط أيضا بالدوران المتصل حول المطار، كالذي حدث في حالة الطائرة المكنوبة قبل هبوطها.
             وفقدان الحس الحيزي «الفضائي والمكاني» يحدث عادة على نهجين:

    في النوع الأول (والذي يسمى بالخطأ المركزي – USD)، وهو الأكثر حدوثاً، يتلقى عقل الطيار المعلومات الحسية الصحيحة لكن بسبب إثارة وانفعال الطيار تحت ظروف الطواريء أو الإجهاد قد يخفق بصورة كاملة في إدراك هذه المعلومات الصحيحة على نهج سليم "إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم  مسحور مسحورون" ،
•     وقد يكون مدركاً للمعلومات الصحية على نهج سليم لكنه يحصر تركيزه على جهاز قياس معين في لوحة القيادة «مثل التركيز على جهاز قياس السرعة «Air Speed» مع الإخفاق في متابعة التغييرات الخطيرة - في اللوحة أمامه- حول ارتفاع الطائرة وأدائها (Coning of Attention)،
•     كما يمكن للخلل الحسي أن يحدث نتيجة ظروف إثارة منخفضة نتيجة لانخفاض الكفاءة العقلية في قدرات التمييز واتخاذ القرار لدى قائد الطائرة «مثلاً بسبب النعاس» الناجم عن الإرهاق أو السفر الطويل، وهذا يؤدي بدوره إلى الخطأ في تفسير بيانات حركة الطائرة المنشورة على لوحة القيادة.
         ولان الطيار قد لا يدرك أن حسه الفضائي والمكاني قد اختل أو انه واقع تحت تأثير الرؤية النفقية «Tunnel Vision»، يكون تحكمه في الطائرة مبنىاً على باطل الاعتقاد منه، مما يفضي عادة إلى نتائج كارثية.

     وفي النوع الثاني من فقدان الحس الحيزي «أو خطأ المدخلات RSD» تكون فيه المعلومات الحسية المرسلة لعقل الطيار متضاربة والطيار على وعي كامل بالمشكلة، فان استطاع التوفيق بين تلك البيانات المتضاربة- مثلاً بتجاهل بعضها- تمكن من التحكم السليم على الطائرة، وان لم يستطع، يتدنى أداؤه ثم يفقد التحكم على الطائرة، وهذا بدوره يؤدي إلى النتيجة الكارثية الحتمية.
تلك هي الإخفاقات المحتملة والمرتبطة بطب الطيران، وفي الحلقة القادمة سنتناول إن شاء الله- الإخفاقات المحتملة المرتبطة بالهندسة العدلية وبتقنية طائرات ايروبص (031A) على وجه الخصوص.
والله من وراء القصد
*مهندس مستشار
مركز تطوير أنظمة الخبرة الذكية
لهندسة المياة والنقل والطاقة والتصنيع

     
E-mail: blacknims2000@hotmail.co.uk

 

آراء