لم يعد المجلس العسكري - غير المتجانس - في مأمن من الالفاف على الأحداث الجسام التي تمر بها البلاد. فزيارة دول الجوار المباشر والاقليمي ليست للشكر وحده، ولكن للنُصرة في وجه ثورة جديدة تبشر بالديمقراطية، وتسعى لتسلم السلطة المدنية. وهي قضية لم تعد مرحبٌ بها، أن يكون في السودان في حكم مدني ينشر الديمقراطية. فمصر لم تعد مصالحها في مأمن إلا وفق نظام عسكري في السودان. وقد صرح نائب رئيس المجلس العسكري، أن المخاطر يرغب أن يراها كثيرون متحققة في السودان، وأن الحرب في ليبيا والحرب في سوريا، هي مألات أهداف غير مرئية، ترغب أن تجر السودان إلى ذات المصير. تلك دعوة نحن نعرف منْ وراءها.
هذه نصيحة مصر، و استخباراتها، أن السودان مستهدف. أين كانت استخبارات مصر حين كان يتهدد السودان الانقسام؟. صبرت مصر حتى يتحقق هدف التقسيم، وبدأت تستثمر في تنمية جنوب السودان دون خجل. (2) تحدث نائب رئيس المجلس الانتقالي العسكري بلغته العامّية المرتجلة، وقال إن الجيش يُحظى بجماهير!. وهو ينسى أن هبوب رياح التغيير هبت من صغار الضباط، وضباط الصف، حين فتحوا مباني القيادة العامة لجماهير الثوار. وهو الأمر الذي جعل اهتزاز مقعد البشير من تحته لا مفر منه ثم سقط. يمكننا أن نسأل: من أين لهذا الجيش من شعبية؟ وأي جيش هو: هل هو عصابات الدعم السريع ( التي دربتهم الاستخبارات العسكرية 40 يوماً لكل جندي) أم قوات الأمن والمخابرات أم قوات الشعب المسلحة؟. إن ضباط قوات الشعب المسلحة الأحرار وسعتهم القبور الضيقة، بعد أن تم دفنهم وبعضهم أحياء أثناء حكم الإخوان المسلمين، أو هم الذين خرجوا من السودان نافدين بجلودهم. ولم نشهد قوات الدعم السريع تقف مع جماهير الثورة، إلا بعد أن سقط القائد الأعلى الذي كانت تحميه، بتاتشراتها، وأسلحتها، ولم تزل عينها مصوبة على السلطة. تحدث نائب رئيس المجلس الانتقالي العسكري، أمام قادة الإدارة الأهلية، التي لم نسمع بوجودها إلا الآن. لم يعد في السودان إدارة أهلية. وهؤلاء لم يثوروا مع الثوار على النظام السابق، وليست لهم مكانة في كل السودان. (3) كل الضباط العظام الذين شكلوا المجلس العسكري الانتقالي، رغم التناقضات بين أعضائه، لم يجدوا الشجاعة لإزاحة البشير. إن" الدعم السريع" الذي كان يستجدى قائدها القوات المسلحة، حتى تستخرج لجنوده بطاقات الانتماء للجيش، وهو اليوم يتضخم إلى أن صار رقماً في المجلس العسكري!. إن الإضراب لمدة يومي 28 و 29 مايو 2019، قد أعاد التفويض لقوى التغيير والثورة, وذابت قوى التفتيت التي تلعب دور المناضلين، بعد أن خلعوا ثوب انتهازية الإخوان المسلمين، ولبسوا ثوب الثورة. هؤلاء سوف يحاسبهم الشعب وبالقانون، وليس بالتشريعات القمعية الجزافية التي عبث بها النظام السابق وأجهزته الحقوقية. يتعين نزع أضراس النظام السابق، وتفكيك دولته العميقة، التي يبشر بها الدجاج الإلكتروني، و التي جمعت الكذابين والنفعين والمجرمين. كانوا يظنون أن لن يحاسبوا، ولكنهم إلى سوء المنقلب سيذهبون. و سينالون الجزاء العادل في القريب العاجل. (4) للذين وقعّوا مع قوى التغيير، وحاولوا سرقة الجهد، وأقاموا المؤتمر الصحفي يهدفون شق قوى الثورة، نقول لهم إن الباب لم يزل مشرعاً، لاستقبال جماهير الشعب وأحزابه المناضلة. رغم أن زعيم حزب الأمة يزايد على الذين مهروا الثورة بدمائهم بأنهم (يركبون بوخة المَرْقَة)! في استهجان وضيع. * {الخرطوم 30 مارس 2019، قدم زعيم حزب الأمة القومي في السودان "الصادق المهدي"، مرافعة مطولة في مواجهة سيل من الانتقادات، بعد صدور بيان عن مكتبه نفى مشاركته في مظاهرات ود نوباوي، الجمعة الداعية لسقوط النظام، وقال إن قيادات المعارضة تعمل على ترتيبات للمشاركة في الاحتجاجات بصورة "مخططة" لتحقيق مطالب الشعب. واضطر زعيم حزب الأمة ورئيس تحالف "نداء السودان" المعارض الى إصدار توضيح صحفي بعد ساعات من بيان لمدير مكتبه نفى فيه مشاركة المهدي في احتجاجات شعبية عقب صلاة الجمعة. وأثار البيان ردود أفعال عنيفة في وسائل التواصل الاجتماعي، بوصفه محاولة للتبرؤ من المطالبات الداعية لرحيل النظام الحاكم، كما أنه صُنف كنوع من التخذيل للمشاركين في المظاهرات المستمرة منذ منتصف ديسمبر الماضي.}
(5) ونفى البيان مثار الجدل، ما تداولته تقارير صحفية عن قيادة "الصادق المهدي" مظاهرة من مسجد الهجرة بود نوباوي، وأوضح أن "المهدي" خرج بعد الصلاة راجلاً لواجب عزاء شرق المسجد، وسار خلفه عدد كبير من المصلين مرددين هتافات ثورية. وأضاف "علما بأن الإمام لم يشترك في أي مظاهرة ولو تعنت النظام، ولم يستجب لمطالب الشعب المشروعة، سيأتي اليوم الذي تخرج فيه كل القيادات السياسية متقدمة الصفوف". وفي رده على ما خلفه هذا البيان، سارع "المهدي" الى إصدار توضيح قائلا "بالإشارة لردود الفعل على بيان الحبيب إبراهيم علي.. مساجدنا هي الأكثر ثورية في دعم ثورة التحرير، وحزبنا أيد ويؤيد ويشارك ثورة التحرير المنطلقة منذ ديسمبر".وأشار الى أنهم عاكفون الآن لتوحيد الصف الوطني "لإقامة النظام الجديد ". وتابع البيان يحكي واقعاً، ولا يتبرأ من التظاهر ولا من مظاهرة الشباب الأسبوعية، وهم جميعاً وجدوا الترحيب لما يقدمون من تضحيات شملت المجتمع بمن فيهم عدداً معتبراً من أبناء وبنات وأحفاد وحفيدات الرحم. وأردف "كما أني لا أترفع من النزول للشارع، بل نحن نعمل على نزول كل القيادات بصورة مخططة لتحقيق المطلب الشعبي لإقامة النظام الجديد المنشود، وهذا يتطلب تحقيق وحدة الصف وراء هذا الهدف، وأن يكون التحرك في وقته مليونياً وسلمياً وعاماً للعاصمة والأقاليم، وفي خارج الوطن. وكانت قوى المعارضة ترتب لحشد كبير، مركزه العاصمة السودانية في السادس من أبريل للتوجه صوب القيادة العامة للقوات المسلحة وتسليمها مذكرة تدعو لتنحي النظام ورحيل الرئيس عمر البشير. (6) نقطف من كتاب : محمد أحمد محجوب ( الديمقراطية في الميزان )، طبعة 2004 ص 200: {برزت خلافاتي مع السيد "الصادق" في الأشهر الأولى من عام 1966. فذات مساء جاء بعض أفراد عائلة "المهدي" إلى منزلي طالبين مني الاستقالة حتى يصبح "الصادق"، الذي بلغ الثلاثين من العمر، رئيساً للوزراء، بعد أن تم إفراغ أحد المقاعد البرلمانية وانتخابه لهذا المقعد. وكان جوابي ( إن هذا طلب غريب، و"الصادق" لا يزال فتياً والمستقبل أمامه وفي وسعه أن ينتظر. وليس من مصلحته ولا مصلحة الحزب أن يصبح رئيس الوزراء الآن). بيد أنهم أصروا، فتصلبت وساندني مجلس الحزب. وفي هذا الوقت كنت على وشك الذهاب لحضور مؤتمر وزراء دول شرق أفريقيا ووسطها في آزار 1966، فطلبت من الحزب تجميد الأمور حتى عودتي. وغبت مدة أربعة أيام فقط. ولدى عودتي وجدت الحزب منشقاً على نفسه، فطلبت من "الصادق" مقابلتي من أجل إصلاح الضرر. واجتمعنا وأبلغته أني مستعداً للاستقالة وإعطائه الفرصة ليصبح رئيساً للوزراء، لو لم يكن السودان في خطر. لقد كان السودان يمر بمرحلة حرجة من التطور، وكان في وسعي أن أرتكب أخطاء لمعرفتي أن الشعب سيسامحني. ولم يكن في وسعه هو، إذ أن أي خطأ بسيط سيؤدي إلى سقوطه، وذكرته بأنه سيتعامل مع الرئيس "الأزهري"، السياسي الحاذق، الذي يستطيع أن يلوي ذراع أي شخص. وليت "الصادق" رد علي قائلاً أنني مخطئ، بل قال( إنني أعرف ذلك ولكني اتخذت موقفاً ولن أتزحزح عنه). وكان تعليقي( إنني مقتنع الآن أكثر من أي وقت آخر، بأنك لا تصلح لرئاسة الوزارة. وقد تصبح رئيساً للوزراء يوماً ما، ولكنك لن تدوم أكثر من تسعة أشهر). انتهى حديثي هنا، والغريب أن "الصادق" بقي تسعة أشهر عندما أصبح رئيساً للوزراء في وقت لاحق من تلك الاسنة. لم يدهشني بعد ذلك الحديث، أن يتابع السيد "الصادق" دسائسه ضدي، لا سيما بعد أن طلب بعض أنصاره في الحزب مني أن أستقيل. قلت إن المجلس التأسيسي هو الذي انتخبني، ولن أستقيل إلا إذا سحب المجلس ثقته. فنقلوا مناوراتهم بسرعة إلى المجلس، حيث رتّبوا تصويتاً على توجيه اللوم إلي، مع أنهم لم يسموا ذلك بالاسم، بل قالوا إننا في حاجة لرئيس جديد للوزراء. وقد قُدم مشروع قانون اللوم بواسطة أحد نواب حزب الأمة، وكانت النتيجة معروفة سلفاً. إذ كان "الصادق" قد حصل على موافقة من الرئيس "الأزهري" ومن أعضاء في حزب الاتحادي الوطني} (7) عندما استقبلت الجماهير السيد "محمد عثمان الميرغني" أواخر العام 1988، بعد اتفاقه مع "قرنق" وكانت تسمى حينها ( اتفاق قرنق والميرغني)، واجتمع زعيم الاتحادي الديمقراطي مع السيد "الصادق" في إطار الائتلاف الذي كان بين حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي. ورأي السيد "الصادق" أن ينقل الأمر للبرلمان، الذي انعقد في أوائل عشرينات ديسمبر 1988، وكان قد بيت النية لإفشال الاتفاق، وفوض بالفعل البرلمان السيد "الصادق المهدي" رئيس الوزراء بعقد المؤتمر الدستوري في 31 ديسمبر 1988. أي بعد عشرة أيام!. وبعده سافر السيد "الصادق" للجزيرة "أبا" وانتهى الأمر، بعد أن كاد للحزب الاتحادي الديمقراطي ليخرجه من الائتلاف، ليتآلف من الجبهة القومية الإسلامية. و بقية القصة معروفة!. إذن، من يقف في خندق أعداء الثورة؟