من ينطق اذا أسكتت السلطة الدينية وزير العدل؟
Khaliddafalla@gmail.com
اثارت تصريحات السيد وزير العدل الدكتور عِوَض الحسن النور حول عقوبة الرجم والرِّدة وغيرها في إطار جهود الاصلاح القانوني وتعديل التشريعات العديد من ردود الأفعال والتعليقات خاصة من دوائر الفتاوي الدينية. و لعل هذا الجدل يعيد تسليط الضوء علي منهج الشيخ الراحل حسن الترابي وهو يلغي في عشرية الإنقاذ الاولي حينما كانت له الصولة والجولة والدولة مجمع الفتاوي والفقهيات؟ ، وذلك منعا لبروز اي سلطة دينية تحتكر الفتاوي وتصبح سيفا مسلطا علي طبيعة الحراك الاجتماعي والفكري والثقافي. بعض منتقدي الشيخ الراحل اوّلوا ذلك الصنيع بانه كان يريد ان يكون لوحده المفكر والمفتي والقائد السياسي تكريسا لسلطته المطلقة.
ما ان انحسر ظل الترابي من الدولة حتي تم اعادة تأسيس المجمع الفقهي، وتولي رئاسته أفاضل العلماء والفقهاء فضيلة الشيخ الراحل احمد علي الامام، وخلفه الفقيه العالم الجليل الدكتور عصام احمد البشير. وقدم المجمع خدمات جليلة في مجلات الفتاوي والدعوة والإرشاد ونشر العلم الديني، وحماية بيضة الدين ومراجعة الانحرافات وإعلان مواقيت المناسبات الدينية وإعادة الاعتبار للوظيفة الدينية. ولعل مشاهد الفيديو المسرب لجلسة الحوار والاستتابة التي عقدها العلماء والفقهاء مع النيل أبوقرون تكشف بعض جوانب الازمة، ولولا حنكة وحكمة الشيخ الدكتور عصام البشير لحدث ما لا تحمد عقباه.
برزت اثار السلطة الدينية الناهضة في مجمل سوح الحوار الذي فجره وزير العدل وهو يبتدر مشروع اصلاح تشريعي لمراجعة ما يسمي ( يبقي لحين السداد)، وقدم الوزير حججا قوية حتي يتم التفريق بين المعسر والمماطل، سيما وقد وجد في قعر السجون الآلاف ممن تم حبسهم لمبالغ ضئيلة في ظل غياب آلية من الدولة لتسديد غرامات المعسرين. اعترض علي مشروع الاصلاح التشريعي في هذا الموضوع عدد من وزراء القطاع الاقتصادي واصحاب العمل والمحامين واصحاب المصلحة. لكن رجح من خيارات القرار السياسي دخول الفتوي الدينية التي كادت ان تحسم الجدل وتم فُض الاشتباك بتكوين لجنة عليا برئاسة السيد رئيس الجمهورية التي ستقدم القول الفصل في القضية.
تجددت الازمة مرة اخري بعد المؤتمر الصحفي لوزير العدل الذي اقترح فيه استبدال حكم الرجم بالإعدام ، معليا من قيمة بعض الترجيحات الفقهية مثل رأي الامام محمد ابوزهرة الذي عد الرجم حكما تعذيريا للحاكم. كما اعلي وزير العدل من اهمية إنفاذ التزامات السودان الدولية وادخال ذلك ضمن مشروع الاصلاح القانوني وهي تطبيقا للمادة 27 من الدستور الذي يقر بدستورية الاتفاقيات التي وقع عليها واعتمدها السودان. وكان راي الامام ابوزهرة قد فجره في مؤتمر العلماء بالدار البيضاء في المغرب عام 1972 وهو راي كتمه لمدة عشرين عاما، يتلخص في ان الرجم كان شريعة يهودية أقرها الرسول (ص) في باديء الامر ثم نسخت بحدالجلد بعد نزول سورة النور للزاني المحصن. وهو مجرد رأي فقهي من حق السيد وزير العدل ان يستشهد به دون ارهاب فكري من هيئة العلماء، و من حق الآخرين ان يحتجوا بالأدلة والبراهين. لكن الأصل هو استمرار هذا الجدل والحوار الفكري والمناظرة الفقهية دون عسف او حجر لرأي. فأذا كان وزير العدل يقمع في رأي فقهي يحتمل الحوار والتناظر والجدل فمن باب أولي ان ينزوي من هم دونه في العلم والمنصب والعمل. وهذا المناخ هو ما يولد الدوغما، و الجمود الفكري.
. ولعل ما يزعج المراقبين من امثالي هو بروز وتضخم دور السلطة الدينية في الفتوي في قضايا يمكن ان يترك امرها لطبيعة الحوار الفكري والثقافي الحر في البلاد الذي يملك القدرة علي كبح جماح الاّراء الشاذة وما يعارض تراث وعقائد الأمة. ولعل مصدر التخوف من التوسع في قاعدة الفتاوي والتدخل المستمر من السلطة الدينية في تفاصيل قضايا المجتمع هو اثرها السالب في كبت طبيعة الحوار الفكري والجدل الحر الذي يعتبر كفيلا لاستبانة الحقيقة.
ما ندعو اليه هو ترشيد استخدام سلطة الفتوي الدينية في تفاصيل وتشعبات الحياة المختلفة ، وان يترك الكثير من هذه القضايا للحوار والجدل والمناظرات و حتما سينتصر التيار الذي يتميز بالحكمة والواقعية دون تدخل بالفتوي الدينية. ويمكن ان يدخل طلب الفتوي في القضايا التي تتوقف عليها مصير الأمة في العبادات والمعاملات والمعاش والتجارة والاقتصاد والسياسة. و تتوفر للشيخ عصام البشير رئيس هيئة العلماء و المجمع الفقهي العلم والفقه والدراية ونفاذ البصيرة لترشيد عمل الفتاوي حتي لا يقمع تطورات الحراك الفكري والثقافي الحر في المجتمع. وان يحرر احتكار الرأي الفقهي لعلماء الشريعة المختصين، و ان يفتح باب الاجتهاد في الرأي الفقهي لاصحاب الرواية والدراية والتخصص المهني المحض . و الا سياتي يوم يتحسر فيه الناس علي ذهاب نهج الترابي الذي حارب حتي الرمق الأخير قيام سلطة دينية تحتكر الفتوي وتكرس لقمع الرأي والجمود الفكري.
----
عمود (بلا مزاعم) نشر في الرأي العام