مياه النيل وتحديات القرن الحادى والعشرين … بقلم: السفير أحمد عبد الوهاب جبارة الله

 


 

 

 

                             إنفجرت مؤخرآ على مسرح حوض النيل الأزمه المعروفه الآن بالخلاف المحتدم بين دول هذا الحوض التسعه حول موضوع تقسيم المياه ، وموضوع سريان الإتفاقيات القديمه التى ظلت تحكم مبادئ وأسس وحصص البلدان المعنيه، سواء كانت من دول المنبع السبعه ( إثيوبيا، كينيا ، يوغندا‘ تنزانيا، الكونغو الديمقراطيه، رواندا وبوروندى ) و بلدى الممر والمصب الإثنين ( السودان ومصر). ويمكن هنا الإشاره الى إريتريا باعتبارها دولة مشاطئه لمرور رافد " الستيت" المرتبط بنهر عطبره بأراضيها.

                         لا شك أن هذه الأزمه تتعلق بنقاط حيويه ، وهى لم تكن أزمة مفاجئه فى ظهورها مؤخرآ ، لأن المتابع لأوضاع قضايا المياه والأنهار فى العالم ، لم يكن يخفى عليه أن هذه الأزمه تلوح فى الأفق ، على الأقل طوال العقد الماضى . ولعل ما دفع بهذه الأزمه إلى السطح الآن يرجع إلى إنهيار المباحثات التى جرت بين دول حوض النيل التسعه فى شرم الشيخ مؤخرآ ، وإقدام الدول السبعه على خطوة التوقيع على إتفاقية إطارية لم يرض عنها السودان ولم ترض عنها مصر . وإثر ذلك إنتقلت نقاط الخلاف إلى كل وسائل الإعلام  حول الحصص المائيه، وحول حق دول المنبع فى إستخداماتها، وحول حق مصر والسودان فى حقوقهما المكتسبه فى ظل القانون الدولى، وحول مسألة تمتع مصر والسودان بامتياز إخطارهما فى حالة نية إحدى دول المنبع  إقامة منشآت أو سدود تؤثر على وضع ونصيب بلدى الممر والمصب.والمحدد حاليآ بمقدار55  ونصف مليار متر مكعب لمصر و 18 ونصف مليار متر مكعب للسودان ، بناءآ على إتفاقية 1959.

                    ليس الغرض من هذا المقال أن أخوض فى أمور " فنيه" تتعلق بتطورات هذه القضيه ، لأننى لست من الخبراء الذين يحق لهم الخوض فى الأمور الفنيه ...وأنا أعلم أن لدينا من الخبراء الذين لا يشق لهم غبار فى هذا المجال. وأحب أن أنوه فى هذا الصدد إلى مقال بالغ الأهميه كتبه صديقنا الخبير الدولى المرموق الدكتور سلمان محمد سلمان ، ونشره فى صحيفة " الأخبار" يوم السبت 22 الجارى و صحيفة  سودانيل الإلكترونيه ، هذا الأسبوع. وأنا أشجع كل المهتمين أن يطلعوا عليه.

 

                     ما أصبو إليه فى مقالى هذا ، التنويه إلى بعض القضايا الهامه المرتبطه بهذه القضيه الحيويه والتى لن تبارحنا تداعياتها فى المستقبل القريب، وعلينا أن ننظر إليها بوصفها قضية إستراتيجيه تستوجب الحكمة والبراجماتيه  فى كل جوانبها واستحقاقاتها. وملاحظاتى كما يلى :

 

أولآ : لقد شكلت التطورات السكانيه لدول حوض النيل ضغطآ هائلآ على موارد المياه للنيلين الأبيض والأزرق ومنابعهما وفروعهما . وقد تداعت هذه التطورات بصورة قلبت الموازين القديمه للأسس التى تحكم التوزيع والترشيد لاستخدام هذه المياه والتى ظلت مصدرآ للحياة لآلاف السنين ، على ضفاف أطول مجرى نهرى فى العالم (  6650 كيلومترآ).  ويظهر بوضوح فى هذه المعادله أن خطر " الفقر المائى " بحساب المعايير الدوليه، أصبح يهدد مصر التى يبلغ سكانها الآن 80 مليون نسمه ، وإثيوبيا التى أصبح تعداد سكانها 82 مليون نسمه ، والسودان الذى بلغ سكانه 39 مليون نسمه . هذا مع اعتبار أن سكان الكونغو الديمقراطيه أصبحوا حوالى 67 مليون نسمه. وبإضافة تنزانيا وكينيا ورواندا وبوروندى ، فإننا نتحدث عن كتلة سكانية تبلغ  فى مجموعها 300 مليون نسمه. وبما أن الماء هو عصب الحياه، فإن الضغوط السكانيه هذه ، تفرض على دول حوض النيل أن تعمل يدآ واحده وبتفاهم كامل من أجل الإنتفاع الأمثل بمياه الحوض ، مع الإلتزام بأنهم أصحاب مصير واحد نسجته مياه النيل ، ولا يمكن لأى من هذه الدول الفكاك من هذا المصير المشترك، منفعة واستقرارآ ورخاءآ وسلامآ.

ثانيآ : فى تقديرى أن هذه الأزمه ، تشكل تطورآ إيجابيآ على الساحة الإفريقيه. وقبل أن يسارع القارئ للإستغراب على هذه المقوله، فأنا أتعجل أيضآ بالقول والتوضيح . فالوضع الآن أن الدول الإفريقيه  - فى إطار حوض النيل- لن يجدى تصنيفها كدول شمال الصحراء ودول جنوب الصحراء ... وهنا يظهر خطل ذلك التقسيم الإستعمارى ( الذى لم يكن يخلو من غرض سياسى) ! فالحقيقة الماثله والساطعه كالشمس الآن هى الإرتباط العضوى لمصالح دول حوض النيل . وهكذا فإن السياسات الخارجيه والتنمويه لهذه الدول لا بد أن تتعامل مع بعضها من خلال هذا المنظور . ولا مجال لمعجزات من خارج القارة الإفريقيه لبلورة هذا المفهوم لدى دول حوض النيل. ويترتب على الثقل الإقتصادى والسكانى والسياسى لهذه الدول فى المحيط الإفريقى ،أن المرء ليتوقع من الإتحاد الإفريقى النهوض بالمزيد من الإهتمام العملى بهذه القضيه . وذلك يستوجب أخذ مبادرات إفريقيه يدعمها البنك الدولى ومنظمات الأمم المتحده المعنيه ، بعد أن يتم التفاهم التام بين دول الحوض فيما بينها أولآ. ولننظر إلى هذه الأزمه بانها نوع من العلاج بالصدمه shock treatment"" لنفوق من ثبات عميق !!

 

ثالثآ: دار هناك الكثير من الحديث حول " نظرية المؤامره " الإسرائيليه أو الأجنبيه للإيقاع بين دول المنبع والمصب فى حوض النيل...وفى تقديرى أن هذا التفكير سيصرفنا عن التعامل الموضوعى مع هذه المسأله . صحيح أن بعض الجهات قد تسعد بما تراه من خلافات بين دول حوض النيل...ولكنها ليست هى التى صنعت المعطيات التى أدت الى هذه الخلافات! وعلينا أن نكف عن ممارسة هذا النوع من الإسقاط الكسول ونسعى للعمل الدؤوب لوضع ترتيبات دائمه لمنظومة دول حوض النيل . وأنا أحذر بألا تتوارى هذه الدول وراء التأجيل والإنتظار لأن مصالحها واستقرارها رهينان بالتوصل الى نتائج تخدم مصلحة الجميع.

 

رابعآ: حسب ما تناقلته وسائل الإعلام  ، فإن هناك الآن مبادرات على مستوى القمه من جنب مصر والسودان لتلافى أى تدهور قد يطرأ على مسيرة البحث عن حلول مرضيه ترعى مصالح الجميع. وفى تقديرى أن هذا مسلك حميد. ولكن على الخبراء والفنيين فى البلدين تقديم مقترحات عمليه لمتخذى القرار فى البلدين ، بمعنى أن يكون حوار القمه  مسنودآ ببدائل ذات قيمه واقعيه ومفيده يكون فيها مخرج للذين وقعوا على الإتفاقية الإطاريه فى يوغندا وللذين لم يوقعوا عليها.

خامسآ: لقد لاحظت أن ملف المياه فى السودان  فى أبعاده الخارجيه ،قد ظل دائمآ فى يد وزارة الرى... وبالطبع فإن لهذه الوزاره إختصاص تقنى أصيل فى مسألة المياه، إلا أن البعد الخارجى للتعامل مع دول حوض النيل  يستوجب معالجات مؤسسية أكثر شمولآ ...فلا بد أن يكون لوزارة الخارجيه باع فى هذا الأمر، وكذلك الجهات السياديه المرتبطه بالأمن القومى ومراكز الأبحاث المعنيه وعلماء الإجتماع الدارسين لدول حوض النيل وأيضآ المختصين بأمور الإتحاد الإفريفى والتعاون الإقتصادى  الإقليمى والدولى . كم كنت أود أن يكون السفير الدكتور أشول دينق حاضرآ بيننا ، فقد رحل ذلك الصديق العزيز عن دنيانا ، وكان هو أعلمنا فى وزارة الخارجيه بملف دبلوماسية المياه، ولن أنسى محاوراتى معه فى هولنده فى مطلع الأعوام التسعينات .. وقد تنبأ بالكثير مما يحدث الآن فى هذه المسأله!

ومقصدى من إثارة هذه النقطه ، أن تتكون فى السودان هيئه إستشاريه دائمه ، تابعه لرئاسة الجمهوريه ،ويكون موقعها فى وزارة الرى لتتولى المساعده فى إعداد الدراسات والتقارير وإقتراح البدائل المدروسه التى تساعد على إتخاذ القرار.( سررت برؤية الدكتور أحمد المفتى مستشارآ لوفد السودان مؤخرآ) . غير أن إقتراحى هذا يطمح إلى أن نتعامل مع مسألة حوض النيل بصورة إستراتيجه ومستدامه ، حتى لا تخضع للجانب الفنى وحده ، أو تخضع للجانب الدبلوماسى وحده ، او تخضع للجانب الأكاديمى وحده .   

سادسآ : سييفرز إنفصال جنوب السودان دوله إضافيه لدول الحوض. وهناك تكهنات كثيره حول موقف هذه الدولة الوليده. والذين ينظرون إلى الأمر فى شكل محاور بين المنبع والممر والمصب، يتوجسون حول سياسة  هذه الدوله الجديده إذا ظهرت للوجود فى العام القادم . وفى تقديرى فإن النظرة الإستراتيجية الشامله للمصلحه الكليه لدول حوض النيل تقتضى أن نتحرر من  عقلية المحاور آنفة الذكر، ووقتها لن تكون الدولة الجديده سوى إحدى الكيانات التى تجد نفسها ضمن المنظومة المتكامله لدول الحوض. خاصة وهناك الكثير من الدراسات التى تؤكد ضرورة عمل كبير فى جنوب السودان ( مشروع جونقلى ) للتقليل من المياه المهدره .وقد لا يكون هذا الأمر أولوية لجنوب السودان كما صرح السيد سالفا كير مؤخرآ ، إلا أنه إذا ارتبط بدعم دولى تنموى فى إطار منظومة حوض النيل، ربما يكون لقادة جنوب السودان رأى آخر.

 

                   خلاصة القول أن التعاون بين دول حوض النيل قد أصبح الآن ضرورة من أجل التنميه المتكامله والتقدم والإستقرار والسلام. وبرغم ما نراه من توترات هنا أو هناك فى ضبط العلاقة ين هذه الدول، فإن الحوار الموضوعى فيما بينها ، هو السبيل الوحيد للحفاظ على مصالحها المشتركه وحماية مستقبل أجيالها. وإن كان لى أن أختم بأسطر لا تخلو من شئ من الرومانطيقيه ..فنحن عندما كنا نقرأ كتابى " النيل الأزرق" و "النيل الأبيض " وهما من أروع ما كتب آلان مورهيد ...وعندما كنا – ولا زلنا - نطرب لرائعة التيجانى يوسف بشير وهو يشدو لنيل سليل الفراديس ...ولرائعة محمود حسن إسماعيل "النهر الخالد" ...لم يكن يخطر بأذهاننا أنه سيأتى اليوم الذى تنقلب فيه تلك الرومانطيقيه  إلى لغة للمصالح العابرة للحدود والمليارات من الأمتار المكعبه!

 

 

* نقلا عن صحيفة الأحداث بتارخ 27 مايو 2010

Ahmed Gubartalla [ahmedgubartalla@yahoo.com]

 

آراء