(1) العالم كله كرامات، وأبدعها كرامة العلم. به نشدوا ونفرح في زمان الحُزن. الليل حوى الظلمة، فصار للنور إشراق لم يكُن يظهر في لؤلؤته إلا في الليل. هكذا يدُرّ الصفاء وَجداً و سعادة لو عرفتها الملوك لجالدون أهلها بسيوفهم. ونار الوجد تزوي في القلب وتحيا فيه. في لفائف الحُب أغوى المحبوب محبوبه، وأنيس النفس للنفس يرِنّ هاتفاً إيّاه، كجرسٍ في معبدٍ. لهذا الجسد ثقلٌ غريب. وإلى خلاص الروح ساعة وزمان. تصعد الروح حين يأتي وقتها، ويسقط الجسد في بئرٍ لا قرار لها. * لهذا الجسد ثقلٌ غريب، ولكن فيه الروح و ما أبدعها. وما أدقّ شفافيتها. وإلى خلاص الروح زمن سوف يأتي لا محالة. حين تصعُد هي، ويسقط الجسد في بئرٍ عميقة لا قرار لها. للنفس ذوق من جنان عبِقة أزهارها. وفي الصفاء همسٌ أدقُّ، وبحر الشوق أعمق غورا. في كل رائحة تفوح، زقاق يسير فيه المُتيّم نزهته التي يُحب. لكل مُبدع حالة صفاء، تتنزّل فيها الخواطر بثقلها، إلى الذهن وتتجمّع، وتتفكّك وتتجمّع ثانية وتُغازل بعضها بعضاً، وتُغزل خيوطها. ويعيد الصفاء تكوين الأحداث وتلوين مراياها.
(2) إن التحيّز الذي تُبديه القناعة الراسخة بالمفاهيم، والنظريات الساكنة في أعشاش الأذهان، والتي اتخذت طابعاً عقدياً، وراح يرتقي بها عاشقها فيما يرى هو، إلى مستوى يسمّيه الصدق المُطلق، كأنها هي كذلك وهو لا يدري. ذلك مظهر من مظاهر المأساة التي نعيشها اليوم. * منذ القرن السابع عشر وإلى القرن العشرين، فقد العلم شفافيته. وابتعد ونأى عن همسات الأرواح وشاعرية الكون. والتصق بجوانب الطبيعة الصلبة، وبأكثر قوى العقل البشري بُعداً عن المواهب الحسّية النافذة إلى صميم الأشياء. كان لتلك الرؤية نتائج فلسفية وخيمة على الإنسانية، لأنها جمّدت عواطف الإنسان. وأغلقت منافذه الروحيّة، التي بدأت تتراجع مكانتها في نفسية الإنسانية ، وحلّت محلها قيّم اللبرالية، التي تفتقر إلى أسلوب أو آليات معالجة الانحراف الإنساني. وإيقاف قتل الإنسان لأخيه الإنسان ببرود خال من حسّ التضامُن.
(3) إن هنالك قوى إدراكية خارج كلاسيكيات الكون "الديكارتي"، الذي دشّنت أُسسه الأولى كُشوفات "كيلر" و" كُبرنيك" وغاليليو". وهو حقل ما وراء الوعي، الذي يتخذ أحياناً قوى إدراكية، تظهر في شكل تخاطر، وجلاء بصري. وأحياناً التأثير على الأشياء المادية بكل أشكالها وصورها. وكانت جميعاً مُيسّرة في حياة الإنسان البدائي الأول، عرف أسرارها بفطرته. يمارسها بتلقائية ويعرف كيف يضبطها وفق قدراته. تلك الحواس الشفّافة جفّت منابعها في الإنسان أو تكاد. و بقيت كاليتيمة. وعندما أحسّ الإنسان بانفتاح البوابة إلى دُنيا الإشراق وعودة التصوّف إلى دُنيا البشر، نهضت تلك الآمال من جديد. وعادت إلى الاتصال بين الأحياء، وتربط الكائنات الحيّة مع بعضها، وترتبط مع الكائنات الميتة أيضاً. وتشترط الروح معرفة، فوق معارف الوعي المُعتادة، وتعمل من خلال الكائنات الحيّة، فهي لا تحاث الجمادات، إذ تعمل دوماً من خلال نظام بيولوجي. وهي تظهر لنا إن انتبهنا لهذه القوة الحيوية، وتفهمناها كما تفهمها أجدادنا الأقدمين بإحساسهم الفطري الذي لا يخيب. ووجدنا الخيط الذي يربطنا بتلك الطاقة الجبّارة التي أهملها البشر. * عادت الخبرة الصوفيّة، لموردها البارا سيكولوجي، تستقي منه منابعها الزاخرة، وعادت الروح للشفافية والقدرات الثرية للتعامُل فيما وراء الطبيعة، لتحتل موقعها من جديد. مُحدثة عودة الوحدة الكونية والمضمون الباطني للعالم، واشتراكه مع الوعي الكلي في وحدة لا تنفصم. ومعطيات علمية جديدة تُعيد للكون بُعده الشاعري الذي افتقدته الإنسانية. قُم إلى نفسك الآن واسألها. وأنت وحيد في مكان منعزل عن الآخرين تنشُد الصفاء، عند السكون والظلمة، لعلك تحسّ مسارب تنفتح و تدخل منها إلى داخلك، تدخل أنت المعرفة الحقّة لقصْرها الهُلامي الضخم، عندها سوف تعرف أن الإنسان غنيٌ ما استطاع أن يكتشف ذاته.