مُجتـمـع دولــي يُنـازع !!
جمال محمد ابراهيم
27 October, 2023
27 October, 2023
(1)
ثمّة سؤالٌ مُعلق في سماء المجتمع الدولي : أين منظومة مبادئه وقيَمه وسلوكياته. . ؟ شـهدتْ البشــرية على مـدى ســنوات بل قـرون طـويلة، مســيرة عبرت خـلالـهـا محطات تداخلتْ فيها عقائد وأخلاق وفلسفات ، بوقائع في التاريخ زماناً، وبالجغرافيا مكانا، لتصل في نهاية أمـورها إلى منظومة من القيَـم والمباديء التي ظلت تحكم المجتمعات البشرية ، لعـقــود طويلة. لم يكن ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945م، ولا الإعلان العالمي لحقـوق الإنســان في عام 1948م ، ولا ما توافقت عليه الأمم بعد سنوات الحرب العالمية الثانية بعد ذلك من مواثيق واتفاقيات ، إلا بناءاً قام على قيم ومباديء إرتضها شعوب العالم . لقد عرفت البشــرية ويلات الحروب وجولات الدّمار منذ فجر التاريخ ، فأدركت جلال قيمة الحياة على كـوكب الأرض وموجبات التعاون المشترك لعمارة الأرض. لم تكن الكتب السماوية وحدها التي حضتْ على قيمة الحيـاة ، بل ظلّ الفكـر الإنســاني وعلى اختلاف مدارسـه ، شــريكاً في ترســيخ تلـك القيمة العظيـمة. ولقـد كانت لوقائع التاريخ وما انطـوت عليه ســنواتها مـن صراعـات وخــلافات وحروبات، دورها المؤثر في استخلاص العبـر، حتّى يكون لقيمة الحياة ســموّها الموحي بالتعظيم والتـداني ، ولجلال الموت ما يوحي بالنفـور والتباعد.
إن أدرنا النظر على ما حولنا في هذا العالم المضطرب ، فإني أضع إصبعاً على حادثات ثلاث أتملى فيها بموضوعية وعمق نظر. أول تلك الحادثات ما جرى ويجري في بلادي السودان من حرب يدفع أبرياء أثمان مغامرات الطامعين فيها، وثانيها هي حرب روسيا وأوكرانيا وما انطوت عليه من خسارات طالت شعوبا غير شعبي البلدين ، وثالثها ، هذا الذي جرى ويجـري في فلسطين ، ولا أقول إسرائيل.
(2)
في السودان قتال مجنون، بأيدي أبنائه ، فليس من عـدوٍّ خارجـي جاء لغزو البلاد، ولا من جارٍ قريب من جيرانها تحرّش بها، وليس من سبب واضح يبرّر هذا الذي دفع أبناء وطن واحد ، لأن ينخرطوا في حرب "هرقلية" بشعار: "عليَّ وعلى إخواني الأعداء يا رب..!"، إلا مطـامع السيطرة العمياء، والتنافس على مواقع التفوذ. غير أن تلك المطامع حملـتْ في طياتها شــبهات تتصل بمطامع أطراف خارجية، ولم يغب كلُّ ذلك عن بصر المتابعيـن المحــايديـن . لو جاءت شبهات تلك المطامع من أطراف قوىً كبرى فذلك ممّا هو متوقع، وممّا ساد خلال ســنوات حقبة الحرب الباردة التي لوّنت النصف الثاني من القرن العشرين، لكن بعض تلك الشبهات قد صدرت من بلاد لم تبلغ تطلعاتها ومطامعها ما يقرّبها إلى القوى العظمى، لكنـها استعظمت أحلامــهـا والحلم حقٌ لكل حالم- بل أرادته مطمعا يسهل تحقيقه ليصير واقعا حيّا ماثلا. وأملك أن أقول إن من بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، دولاً نالت إستقلالها من المستعمر بعد ما يربو عن عشرين عاما من بعد نيل السودان استقلاله. دول مثل هذي تسعى لتحقيق مطامع ومكاسب تتمنّاها في السودان ، ذلك البلد الذي بحسابات الأراضي والمياه ، كتبـتْ له الأقــدار أن يكون أنسـب ســلة توفّـر الغذاء لشعوب كامل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، وربما لشعوب دولٍ أبعـد من تلك المنطقة.
سؤال المليون الذي يطرح هنا ، هو: أين موقف المجتمع الدولي بجماع منظماته الأممية ووكالاتها وهيئاتها، وبجماع تلك الدول المصنّفة دولاً كبرى، ممّا يجري في في السودان وأحوالها تنحـدر إلى مايشبه حالة انتحــار وإفـناء ذاتــي. . ؟ لا أحتـاج لتفصيل لما هـو واضح ويشاهده كبار المجتمع الدولي على شاشات الفضائيات. .
(3)
ثم هنالك حرب روسيا وأوكرانيا ، وما آلت إليه أحوالها بما يشبه مســرحية بطلها الرئيس الأوكراني فولاديمير زيلنسكي– وهو الممثل بالفعل والمهنة- والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، فلا يبين أفق لنهاية المواجهات العسكرية بين البلدين ، فيما المجتمع الدولي ، وإن لم يقف متفرجاً على تلك المسرحية الميلودرامية، لكنه دلف إلى حالة من التصارع ، بما يكاد أن يعيد إلى الذاكـرة جولات المواجهات الباردة ومغامرات الجواسيس، في السنوات الوسيطة من القرن العشرين ، وبما صار معروفا بسنوات حقبة الحرب الباردة. ليست حرب روسيا وأوكرانيا حرباً باردة ، لكنها صارت تمريناً لمصـارعة خفـية في المنظـمة الأممـية ، وبيـن الأعضاء دائمي العضوية في مجلس أمنها. ها نحن نشهد مواجهة بين الشرق والغرب لا يراد لهما أن يلتقيا ، ولم يبق لنا إلا أن نرى من جديد الرئيس الروسي بوتيــن يخرج حـذائه الثقيـل ويخبط به منصّة الجمعية العامة للأمم المتحدة ، مثلما فعل خروتشوف رئيس الاتحاد السوفيتي السابق ، في مواجهته التاريخية للولايات المتحدة، على أيام الرئيس الأمريكي المغتال جون إف. كيندي في أوائل سنوات ستينات القرن الماضي. . !
(4)
الأنموذج الثالث الذي أقودك للنظر إليه ، فهو ما يتصل بالحرب غير المتوازنة بين دولتين في الشرق الأوسط، هما فلسطين وصنيعة الإمبريالية الظالمة إسرائيل. وإني إذ أقولها لك وكأني أسـاوي بين السّـارق والمسروق منه، لكنها خطة ظالمة رسمها عتاة الاستعماريين الكولونياليين، في ملهاة سياسية وقحـة، منحت أرضا لا يملكها المانح لطرف لا يستحقها ، فصار الواقع يحـدّث عن استعمار استيطاني جــديد، وجدت سـيطرته مباركة خائنة من كبار المجتمع الـدولي، بل مساندة سياسية واقتصادية وعسكرية ومعنوية، أنشأت مظلومية تناقض رغبات الشعوب . شعوب العالم حتى في عقر دار الظالمين ، صدحت تطالب بوقف حرب إبادة لشعب فلسطيني له الحق في الحياة وفي الكرامة.
لعلّ إنشاء كيان إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط على حساب شعب وأرض دولة فلسطينية قائمة، هو الإسفين الأول الذي دق عن عمد ومن طرف أقوياء العالم ، في الميثاق الذي توافقت على مبادئه جميع دول العالم المستقلة، والذي أسّس لتعاون دولي يحفظ الســلم والأمن الدوليين، ويحفظ حقوق الشعوب في الحرية والاستقلال والنماء الاقتصادي. ثمّة مواثيق عديدة عملت على ترسيح أسس وركائز ذلك التعاون الدولي، أولها وأهـمها هـو ميـثاق الأمـم المتحدة، وثانيها هو الإعلان العالمي لحقـوق الإنسان.
لا أحدثك عن ذلك الصراع التاريخي، ولا عن الحروبات التي دارت، ولا الاتفاقيات التي حبّـرتْ، والتي أسفرتْ - في آخر الأمـر إلى ما بات جلـياً - عن إصـرار كبار المجتمع الدولي لأن يكون التزامهم بمقرّرات قـيم ومباديء التعاون الدولي، التزاماً إنتقـائيا ، يُغلف بدبلوماسية ممـوِّهة ، وبمكرِ سياسي غير خافٍ ، ولكنها الحقيقة التي لا تنكرها عين، ولا تتغافل عتها ضمائر.
(5)
ها نحن نشهد بعيونٍ مفتوحة كيف يتذاكى أقوياء المجتمع الدولـي على مواثيـق التعـاون الدولي، يتمسكون بقيمه ومبادئه بما يوافق أهوائهم ، وكأن ليـس في ذلـك إخـلالٌ بقـيـم عــدالة مطلوبة، ولا بموجبات حفظ السلم والأمن الدوليين. إنَّ أجواء الحرب الباردة التي سادت في حقبة سنوات النصف الثاني من القرن العشــرين، قـد احتشدتْ وقائعها بالكثير من الخفـايـا والكثيـر من المناورات، والكثير الكثير من الأكاذيب، بما جعل ســنوات تلك الحقـبة، أكثر برودة من ثلـوج القطب الشمالي.
إلا أن الألفية الثالثة شهدت رسوخاً في الانفتاح، وشيوعا في المعلومة، وحضوراً مشاهداً، بما جعل مناورات التـذاكي ومغامرات الخداع، أصعب منالاً لتمرير المظلوميات ، وأوضح مـن أن لا تلحظها عيون الشعوب المستهدفة. إنَّ أقوياء العالم في جنوحهم لاصطياد أطماعهم، لن تكون مؤامراتهم مخفية وراء ســتار ، ولا سلوكياتهم في انتقاء ما يروق لهم، تجري في جنـح ظلام الدبلوماسية ، بل إنّ ما يعينهم على ابتلاع فقراء العالم وضعفائه، تراه الشعوب بعيون مفتوحة. ما أصدق الرجل الذي نضبوه أميناً عاما للمنظمة الأممية ، فقد صاح في وجوه كبار العالم ، بأن ثمة حاجة ملحة لتجاوز سياسة المناورات والتذاكي من طرف الأقوياء ، وأن الحاجة- بقراءة صائبة للظرف العالمي الماثل- باتت ملحة لصياغة نظام دولي جديد .
إن النظام القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يشهد وفق ما أوردنا من أمثلة قليلة أعلاه، حالات فارق فيها كبارُ العالم وأقوياءُه، ركائز حملتها مواثيق أممية ملزمة ، باتت الآن متآكلة وحان أوان مراجعتها .
(6)
مَن تابع مقـررات أجازها كبار العالم في اجتماعاتهم ومؤتمرانهم، بدءاً بالجمعــية العامة للأمم المتحدة ومجلس أمنها ، ومروراً باجتماعات لجان حقوق الانسان ولقاءات دول العشرين وسواها، فقد يرى المتابع أنَّ كلّ تلكم المقرّرات تصدر عن ضمير حي يستجيب لقضايا العالم وأزماته في الظاهر. كلا. . إذ ليست بالطبع تلك هي الحقيقة. لن يغـيـب عن بصـر المتـابعـيـن ذلـك الاهتمـام الانتقائي بقضايا العـالم وأزمـاته، بل هيَ تـنـبي عن عـجـزٍ بنـائي مـردّهُ إلى ضـعـف الإرادة الدولية لتحقيق مسعىً حقيقيٍّ لسلامة المجتمع الدولي وأمان شعوبه ، والتي هي روح وأسّ بقائه ، وليس اللهـث المرَضيّ وراء تحقـيق المصالح الضيقة والمطامع الظالمة، على حساب شعوب هٌضمت حقوقها.
حين تتعامل منظمات وهيئات ووكالات، بما فيها قيادات تمثل المجتمع الدولي، مع أزمات العالم وصراعاته وخلافاته وحـروباته، بما يشبه العجـز أكثر من التجـاهل المتعـمّـد، فإنـك ترى الشعوب أقدر على الوقـوف مع ضمائرها الحيّـة لتذكّر بقيم العيشِ المشترك وبمباديء التعاون الدولي القائم على العدالة والحرية والكرامة الإنسانية. حيـن تفارق قيـادات العالم في انشــغالها بقدراتها على التنافس فيما بينها، فإنها تتجاهل الشعوب التي تطحـنها الصّراعات والحـروبات، فتتهرأ تلك المباديء وتتهاوى قيم التعاون الدولي . لك أن ترى دولة مثل السودان وهي من بين أكبر دول القارة الأفريقية، تنحدر إلى حالة من الإفناء والهلاك الماثل لصراعات داخلية تدار بالوكالة عن أطراف خارجية طامعة، ، أو أن ترى حربا تطول لسنوات في قلب قارة آسيا بين روسيا وأوكرانيا، أو أن ترى - وفي هذا العصر الرقمي المفتوح- حرباً بين فلسطينييـن ودولة إســرائـيـلـية نهبت دولتهم لصالح كيان مصنوع صناعة ظالمة ومشـوَّهة على أراضـيــهم . لن تعجــب إن رأيت شعوب وقد غُـلبـت على أمورها وأزهقـت حقوقها ، تنتفض لتسمع أصواتها لمجتمعٍ دولي تنكر لأصول مبادئه وقيمه لترسيخ تعاون دولي عادل.
إننا - وفيما يبدو عياناً بياناً - إزاء مجتمع دولـي ينازع في البقاء وقـد اختـلـتْ موازينـه وفقد أكثر مبرّرات بقاء هياكله ، ولم يبـقَ له وبعد أن تآكلت أطرافه، إلّا أن يتهاوَى وتتآكل مثلما تآكلتْ منسـأة النبي سليمان فتهاوى جثمانه حتى تأكـد للشـياطين موته . إننا بالفعل أمام مجـتـمـع دولي ينازع. .
٢١/١٠/٢٠٢٣
ثمّة سؤالٌ مُعلق في سماء المجتمع الدولي : أين منظومة مبادئه وقيَمه وسلوكياته. . ؟ شـهدتْ البشــرية على مـدى ســنوات بل قـرون طـويلة، مســيرة عبرت خـلالـهـا محطات تداخلتْ فيها عقائد وأخلاق وفلسفات ، بوقائع في التاريخ زماناً، وبالجغرافيا مكانا، لتصل في نهاية أمـورها إلى منظومة من القيَـم والمباديء التي ظلت تحكم المجتمعات البشرية ، لعـقــود طويلة. لم يكن ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945م، ولا الإعلان العالمي لحقـوق الإنســان في عام 1948م ، ولا ما توافقت عليه الأمم بعد سنوات الحرب العالمية الثانية بعد ذلك من مواثيق واتفاقيات ، إلا بناءاً قام على قيم ومباديء إرتضها شعوب العالم . لقد عرفت البشــرية ويلات الحروب وجولات الدّمار منذ فجر التاريخ ، فأدركت جلال قيمة الحياة على كـوكب الأرض وموجبات التعاون المشترك لعمارة الأرض. لم تكن الكتب السماوية وحدها التي حضتْ على قيمة الحيـاة ، بل ظلّ الفكـر الإنســاني وعلى اختلاف مدارسـه ، شــريكاً في ترســيخ تلـك القيمة العظيـمة. ولقـد كانت لوقائع التاريخ وما انطـوت عليه ســنواتها مـن صراعـات وخــلافات وحروبات، دورها المؤثر في استخلاص العبـر، حتّى يكون لقيمة الحياة ســموّها الموحي بالتعظيم والتـداني ، ولجلال الموت ما يوحي بالنفـور والتباعد.
إن أدرنا النظر على ما حولنا في هذا العالم المضطرب ، فإني أضع إصبعاً على حادثات ثلاث أتملى فيها بموضوعية وعمق نظر. أول تلك الحادثات ما جرى ويجري في بلادي السودان من حرب يدفع أبرياء أثمان مغامرات الطامعين فيها، وثانيها هي حرب روسيا وأوكرانيا وما انطوت عليه من خسارات طالت شعوبا غير شعبي البلدين ، وثالثها ، هذا الذي جرى ويجـري في فلسطين ، ولا أقول إسرائيل.
(2)
في السودان قتال مجنون، بأيدي أبنائه ، فليس من عـدوٍّ خارجـي جاء لغزو البلاد، ولا من جارٍ قريب من جيرانها تحرّش بها، وليس من سبب واضح يبرّر هذا الذي دفع أبناء وطن واحد ، لأن ينخرطوا في حرب "هرقلية" بشعار: "عليَّ وعلى إخواني الأعداء يا رب..!"، إلا مطـامع السيطرة العمياء، والتنافس على مواقع التفوذ. غير أن تلك المطامع حملـتْ في طياتها شــبهات تتصل بمطامع أطراف خارجية، ولم يغب كلُّ ذلك عن بصر المتابعيـن المحــايديـن . لو جاءت شبهات تلك المطامع من أطراف قوىً كبرى فذلك ممّا هو متوقع، وممّا ساد خلال ســنوات حقبة الحرب الباردة التي لوّنت النصف الثاني من القرن العشرين، لكن بعض تلك الشبهات قد صدرت من بلاد لم تبلغ تطلعاتها ومطامعها ما يقرّبها إلى القوى العظمى، لكنـها استعظمت أحلامــهـا والحلم حقٌ لكل حالم- بل أرادته مطمعا يسهل تحقيقه ليصير واقعا حيّا ماثلا. وأملك أن أقول إن من بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، دولاً نالت إستقلالها من المستعمر بعد ما يربو عن عشرين عاما من بعد نيل السودان استقلاله. دول مثل هذي تسعى لتحقيق مطامع ومكاسب تتمنّاها في السودان ، ذلك البلد الذي بحسابات الأراضي والمياه ، كتبـتْ له الأقــدار أن يكون أنسـب ســلة توفّـر الغذاء لشعوب كامل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، وربما لشعوب دولٍ أبعـد من تلك المنطقة.
سؤال المليون الذي يطرح هنا ، هو: أين موقف المجتمع الدولي بجماع منظماته الأممية ووكالاتها وهيئاتها، وبجماع تلك الدول المصنّفة دولاً كبرى، ممّا يجري في في السودان وأحوالها تنحـدر إلى مايشبه حالة انتحــار وإفـناء ذاتــي. . ؟ لا أحتـاج لتفصيل لما هـو واضح ويشاهده كبار المجتمع الدولي على شاشات الفضائيات. .
(3)
ثم هنالك حرب روسيا وأوكرانيا ، وما آلت إليه أحوالها بما يشبه مســرحية بطلها الرئيس الأوكراني فولاديمير زيلنسكي– وهو الممثل بالفعل والمهنة- والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، فلا يبين أفق لنهاية المواجهات العسكرية بين البلدين ، فيما المجتمع الدولي ، وإن لم يقف متفرجاً على تلك المسرحية الميلودرامية، لكنه دلف إلى حالة من التصارع ، بما يكاد أن يعيد إلى الذاكـرة جولات المواجهات الباردة ومغامرات الجواسيس، في السنوات الوسيطة من القرن العشرين ، وبما صار معروفا بسنوات حقبة الحرب الباردة. ليست حرب روسيا وأوكرانيا حرباً باردة ، لكنها صارت تمريناً لمصـارعة خفـية في المنظـمة الأممـية ، وبيـن الأعضاء دائمي العضوية في مجلس أمنها. ها نحن نشهد مواجهة بين الشرق والغرب لا يراد لهما أن يلتقيا ، ولم يبق لنا إلا أن نرى من جديد الرئيس الروسي بوتيــن يخرج حـذائه الثقيـل ويخبط به منصّة الجمعية العامة للأمم المتحدة ، مثلما فعل خروتشوف رئيس الاتحاد السوفيتي السابق ، في مواجهته التاريخية للولايات المتحدة، على أيام الرئيس الأمريكي المغتال جون إف. كيندي في أوائل سنوات ستينات القرن الماضي. . !
(4)
الأنموذج الثالث الذي أقودك للنظر إليه ، فهو ما يتصل بالحرب غير المتوازنة بين دولتين في الشرق الأوسط، هما فلسطين وصنيعة الإمبريالية الظالمة إسرائيل. وإني إذ أقولها لك وكأني أسـاوي بين السّـارق والمسروق منه، لكنها خطة ظالمة رسمها عتاة الاستعماريين الكولونياليين، في ملهاة سياسية وقحـة، منحت أرضا لا يملكها المانح لطرف لا يستحقها ، فصار الواقع يحـدّث عن استعمار استيطاني جــديد، وجدت سـيطرته مباركة خائنة من كبار المجتمع الـدولي، بل مساندة سياسية واقتصادية وعسكرية ومعنوية، أنشأت مظلومية تناقض رغبات الشعوب . شعوب العالم حتى في عقر دار الظالمين ، صدحت تطالب بوقف حرب إبادة لشعب فلسطيني له الحق في الحياة وفي الكرامة.
لعلّ إنشاء كيان إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط على حساب شعب وأرض دولة فلسطينية قائمة، هو الإسفين الأول الذي دق عن عمد ومن طرف أقوياء العالم ، في الميثاق الذي توافقت على مبادئه جميع دول العالم المستقلة، والذي أسّس لتعاون دولي يحفظ الســلم والأمن الدوليين، ويحفظ حقوق الشعوب في الحرية والاستقلال والنماء الاقتصادي. ثمّة مواثيق عديدة عملت على ترسيح أسس وركائز ذلك التعاون الدولي، أولها وأهـمها هـو ميـثاق الأمـم المتحدة، وثانيها هو الإعلان العالمي لحقـوق الإنسان.
لا أحدثك عن ذلك الصراع التاريخي، ولا عن الحروبات التي دارت، ولا الاتفاقيات التي حبّـرتْ، والتي أسفرتْ - في آخر الأمـر إلى ما بات جلـياً - عن إصـرار كبار المجتمع الدولي لأن يكون التزامهم بمقرّرات قـيم ومباديء التعاون الدولي، التزاماً إنتقـائيا ، يُغلف بدبلوماسية ممـوِّهة ، وبمكرِ سياسي غير خافٍ ، ولكنها الحقيقة التي لا تنكرها عين، ولا تتغافل عتها ضمائر.
(5)
ها نحن نشهد بعيونٍ مفتوحة كيف يتذاكى أقوياء المجتمع الدولـي على مواثيـق التعـاون الدولي، يتمسكون بقيمه ومبادئه بما يوافق أهوائهم ، وكأن ليـس في ذلـك إخـلالٌ بقـيـم عــدالة مطلوبة، ولا بموجبات حفظ السلم والأمن الدوليين. إنَّ أجواء الحرب الباردة التي سادت في حقبة سنوات النصف الثاني من القرن العشــرين، قـد احتشدتْ وقائعها بالكثير من الخفـايـا والكثيـر من المناورات، والكثير الكثير من الأكاذيب، بما جعل ســنوات تلك الحقـبة، أكثر برودة من ثلـوج القطب الشمالي.
إلا أن الألفية الثالثة شهدت رسوخاً في الانفتاح، وشيوعا في المعلومة، وحضوراً مشاهداً، بما جعل مناورات التـذاكي ومغامرات الخداع، أصعب منالاً لتمرير المظلوميات ، وأوضح مـن أن لا تلحظها عيون الشعوب المستهدفة. إنَّ أقوياء العالم في جنوحهم لاصطياد أطماعهم، لن تكون مؤامراتهم مخفية وراء ســتار ، ولا سلوكياتهم في انتقاء ما يروق لهم، تجري في جنـح ظلام الدبلوماسية ، بل إنّ ما يعينهم على ابتلاع فقراء العالم وضعفائه، تراه الشعوب بعيون مفتوحة. ما أصدق الرجل الذي نضبوه أميناً عاما للمنظمة الأممية ، فقد صاح في وجوه كبار العالم ، بأن ثمة حاجة ملحة لتجاوز سياسة المناورات والتذاكي من طرف الأقوياء ، وأن الحاجة- بقراءة صائبة للظرف العالمي الماثل- باتت ملحة لصياغة نظام دولي جديد .
إن النظام القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يشهد وفق ما أوردنا من أمثلة قليلة أعلاه، حالات فارق فيها كبارُ العالم وأقوياءُه، ركائز حملتها مواثيق أممية ملزمة ، باتت الآن متآكلة وحان أوان مراجعتها .
(6)
مَن تابع مقـررات أجازها كبار العالم في اجتماعاتهم ومؤتمرانهم، بدءاً بالجمعــية العامة للأمم المتحدة ومجلس أمنها ، ومروراً باجتماعات لجان حقوق الانسان ولقاءات دول العشرين وسواها، فقد يرى المتابع أنَّ كلّ تلكم المقرّرات تصدر عن ضمير حي يستجيب لقضايا العالم وأزماته في الظاهر. كلا. . إذ ليست بالطبع تلك هي الحقيقة. لن يغـيـب عن بصـر المتـابعـيـن ذلـك الاهتمـام الانتقائي بقضايا العـالم وأزمـاته، بل هيَ تـنـبي عن عـجـزٍ بنـائي مـردّهُ إلى ضـعـف الإرادة الدولية لتحقيق مسعىً حقيقيٍّ لسلامة المجتمع الدولي وأمان شعوبه ، والتي هي روح وأسّ بقائه ، وليس اللهـث المرَضيّ وراء تحقـيق المصالح الضيقة والمطامع الظالمة، على حساب شعوب هٌضمت حقوقها.
حين تتعامل منظمات وهيئات ووكالات، بما فيها قيادات تمثل المجتمع الدولي، مع أزمات العالم وصراعاته وخلافاته وحـروباته، بما يشبه العجـز أكثر من التجـاهل المتعـمّـد، فإنـك ترى الشعوب أقدر على الوقـوف مع ضمائرها الحيّـة لتذكّر بقيم العيشِ المشترك وبمباديء التعاون الدولي القائم على العدالة والحرية والكرامة الإنسانية. حيـن تفارق قيـادات العالم في انشــغالها بقدراتها على التنافس فيما بينها، فإنها تتجاهل الشعوب التي تطحـنها الصّراعات والحـروبات، فتتهرأ تلك المباديء وتتهاوى قيم التعاون الدولي . لك أن ترى دولة مثل السودان وهي من بين أكبر دول القارة الأفريقية، تنحدر إلى حالة من الإفناء والهلاك الماثل لصراعات داخلية تدار بالوكالة عن أطراف خارجية طامعة، ، أو أن ترى حربا تطول لسنوات في قلب قارة آسيا بين روسيا وأوكرانيا، أو أن ترى - وفي هذا العصر الرقمي المفتوح- حرباً بين فلسطينييـن ودولة إســرائـيـلـية نهبت دولتهم لصالح كيان مصنوع صناعة ظالمة ومشـوَّهة على أراضـيــهم . لن تعجــب إن رأيت شعوب وقد غُـلبـت على أمورها وأزهقـت حقوقها ، تنتفض لتسمع أصواتها لمجتمعٍ دولي تنكر لأصول مبادئه وقيمه لترسيخ تعاون دولي عادل.
إننا - وفيما يبدو عياناً بياناً - إزاء مجتمع دولـي ينازع في البقاء وقـد اختـلـتْ موازينـه وفقد أكثر مبرّرات بقاء هياكله ، ولم يبـقَ له وبعد أن تآكلت أطرافه، إلّا أن يتهاوَى وتتآكل مثلما تآكلتْ منسـأة النبي سليمان فتهاوى جثمانه حتى تأكـد للشـياطين موته . إننا بالفعل أمام مجـتـمـع دولي ينازع. .
٢١/١٠/٢٠٢٣