أذكرُ أنَّ أولَّ مرة وعيتُ فيها بوجود شخص نابه الذكر في السودان اسمه بابكر بدري ، أن رأيت هذا الاسم مرسوماً بخط جميل في إحدى كُراسات تعليم الخط المستطيلة تلك ، التي كانت تُعطى لتلاميذ المدارس الأولية ، لكي يتعلموا منها فنون الخط العربي بأنواعها المختلفة. وقد كنت إذ ذاك طفلاً صغيراً ، إما في السنة الأولى أو الثانية من تلك المرحلة. نُقش اسم بابكر بدري في تلك الكُراسة ، في هذه الجملة المفيدة والبليغة والمُعبِّرة عن مكانته ووضعه المرموق في المجتمع السوداني بكل تأكيد: " بابكر بدري خالد !! ". ولقد استبطنت سرورا بذلك أيضاً وعلى كل حال ، فقط لأن اسمي كان مكتوباً هناك ، إذ لم أكن أدرك آنئذٍ معنى " خالد " في ذلك السياق. وقد كانت مع تلك العبارة ، جمل وعبارات أخرى مماثلة ، قصد منها ذلك الرعيل الأول من تربويينا الأفذاذ ، تنبيه النائشة ، ولفت أذهانهم إلى مآثر بلادنا الشهيرة ، وأعلامها المرموقين. فمن بين تلك العبارات المماثلة الأخرى ، التي ما تزال تتراءى أمام ناظري بذلك الخط البديع ، عبارات من قبيل: " حنتوب وطقت مدرستان " ، و " وادي سيدنا أجمل مدرسة " .. الخ. فكأني بأولئك التربويين الملهمين ، قد هدفوا إلى جانب تعليم الأطفال جمال الخط وقواعده ، إلى تشجيع الصبية ، وحثهم على الجد والاجتهاد في المذاكرة والتحصيل ، حتى يلتحقوا بتلك المدارس ذائعة الصيت ، فتنفتح أمامهم آفاق المستقبل مشرعة من أوسع الأبواب. ثم إننا لما كبرنا ، وتقدمنا شيئاً ما في الدراسة ، عرفنا طرفاً يسيراً من سيرة الشيخ بابكر بدري 1864 – 1954م. ومن أبرز ملامح تلك السيرة ، أنه كان مجاهداً من أبكار أبطال الثورة المهدية 1885-1898م ، وأنه أحد كبار رواد التربية والتعليم في السودان ، وأنه ارتبط خصيصاً بتشجيع تعليم المرأة في البلاد ، وأنه كان هو المبادر إلى إنشاء أول مدرسة نظامية حديثة لتعليم البنات في السودان ، وكان ذلك في عام 1907م بمدينة ( رفاعة )، فضلاً عن قيامه لاحقاً بتأسيس مدارس الأحفاد بمدينة أم درمان بمراحلها المختلفة للبنين والبنات ، والتي تتوجت بإنشاء أول جامعة خالصة للفتيات ، طبقت شهرها الآفاق في شتى أنحاء العالم. أما مذكرات بابكر بدري الموسومة ب " تاريخ حياتي " ، فإنها عبارة عن مذكرات ويوميات الشيخ بابكر بدري التي خطها بيده عن سيرة حياته الذاتية ، وتفاصيل حياته الأسرية والمهنية ، وما مرَّ بها خلال تلك الحياة العامرة التي امتدت لنحو قرن من الزمان ، من أحداث ووقائع وتطورات سياسية واجتماعية وثقافية وغيرها ، انتظمت ثلاثة عهود من تاريخ السودان الحديث والمعاصر ، هي على التوالي: أواخر عهد الحكم التركي – المصري ، وطوال عهد الثورة والدولة المهدية إلى يوم تاريخ انتهائها ، ثم عهد الغزو الاستعماري البريطاني ، وطوال فترة إدارة الحكم الثنائي الإنجليزي المصري للسودان ، إذ أن المؤلف قد تُوفي في عام 1954م ، أي قبل عام واحد فقط تقريبا من تاريخ استقلال السودان في الأول من يناير 1956م. وقد عمد نجله العميد يوسف بدري 1912 – 1995م رحمه الله ، إلى جمع تلك المذكرات واليوميات في صعيد واحد ، ونشرها في ثلاثة مجلدات لأول مرة في عام 1959م ، أي بعد وفاة والده المؤلف بخمسة أعوام. وقد صدرت المذكرات ، بتقديم الأديب المصري الكبير، الدكتور محمد فريد أبو حديد 1893 – 1967م. وكنتُ قد شاهدتُ قبل نحو ثلاثة عقود أو تزيد ، نسخةً قديمة ومهترئة جداً من تلك المجلدات الثلاثة من مذكرات بابكر بدري ، معصوبة بخيط " دُوبارة " ، ومعروضة للبيع لدى ورَّاق بميدان البوستة بأم درمان ، فساومته على شرائها منه ، فأبى إلا أن يبيعني إياها بخمسين جنيهاً ، فتركتها متحسراً ومضيت، لأنني لم أكن أملك ذلك المبلغ الكبير جداً في ذلك الحين. ثم إنني سعدتُ أيما سعادة عندما عثرت في العام الماضي ، على مذكرات بابكر بدري ذاتها ، معروضة للبيع في طبعة أنيقة وصقيلة ، وفي مجلد واحد فقط ، بمكتبة الدار السودانية للكتب ، بعد أن دلني عليها مشكوراً الأخ الصديق الأستاذ منتصر أحمد النور ، فدفعت فيها مائة وخمسين الف جنيهاً راضياً مسروراً ، وانطلقت بها في فرح وحبور ، على الرغم من أنني قد بذلت فيها ثلاثة آلاف ضعف المبلغ الذي كان قد أعياني دفعه من قبل لوراق ميدان بوستة أم درمان. والحق أن مذكرات بابكر بدري ، هي سفر ممتع ومفيد للغاية ولا غنى للباحث السوداني والمتسودن أيضاً Sudanist عنه البتة. بل لعلنا لا نغالي مطلقاً إذا ما وصفناها بأنها موسوعة ثرة ، وجمهرة عامرة بألوان شتى من المعارف والمعلومات والأفكار الموحية حقاً ، التي يمكن للدارسين والباحثين في مجالات التاريخ والفولكلور والأنثربولوجيا والتربية والتعليم والثقافة وغيرها من الإنسانيات عموماً ، أن يجنوا منها فوائد جمة في إغناء أبحاثهم ومؤلفاتهم ، إذا ما عكف كل فيما يليه على مادتها الغزيرة والأصيلة والمتنوعة ، والتي يزينها فوق كل ذلك ، ما اتسمت به من أسلوب سهل وسلس ، وتناول موضوعي ، وروح فكهة ومرحة في غير ما خفة ولا ابتذال. لقد نمَّت سيرة الشيخ بابكر بدري الذاتية ، عن ملامح شخصيته المتفردة ، وجسَّدت بكل وضوح ، ما اتسمت به تلك الشخصية من صفات وخصائص وسمات العبقرية ، والطموح ، والشجاعة ، والإيمان ، وحسن التوكل ، وبعد النظر ، والحزم ، والجدية ، وقوة العزيمة ، والحكمة ، والتدبير ، والتخطيط ، والتحسب للعواقب ، والصدق مع النفس ومع الآخرين. وتلك لعمري صفات لو انها اجتمعت في عشرة أشخاص فقط من مجايليه من أهل هذه البلاد، فلربما كان للسودان شأن آخر بين الأمم. فلكل ذلك ، نعتقد أنه قد آن الأوان لأن يُعقد مؤتمر علمي لمقاربة هذه المذكرات من تلك الجوانب وأخرى كثيرة غيرها ، وذلك حتى تعظم الفائدة من هذا السفر البديع حقا. ولعل لنا أسوة حسنة في المؤتمر العلمي الذي انعقد حول كتاب " طبقات ود ضيف الله " بمناسبة الاحتفال بسنار عاصمة للثقافة الإسلامية في عام 2017م. لقد انتبه نفرٌ من العلماء والباحثين من سودانيين وأجانب في الواقع ، إلى أهمية مذكرات بابكر بدري ، ونوهوا بخطرها وقيمتها التي أشرنا إليها من قبل. ونود أن نذكر من ذلك في هذه العجالة على سبيل المثال: الأستاذ نصر الحاج علي ، وهو أول مدير لجامعة الخرطوم ، الذي نشر مقالاً ضافياً عن السيرة الذاتية للشيخ بابكر بدري ، بعدد عام 1967م من مجلة السودان في رسائل ومدونات (1) ، وكذلك مقال الأمريكية Eve M. Trout Powell بعنوان: Babiker Badri`s Long March with Authority الذي ترجمه البروفيسور بدر الدين الهاشمي ، ونشره تحت عنوان: " مسيرة بابكر بدري الطويلة مع السُلطة ". (2) وبدوره ، نشر البروفيسور عبد الله علي إبراهيم مؤخراً ، مقالاً قصيراً طريفاً ، استلَّ مادته أيضاً من " تاريخ حياتي " لبابكر بدري ، هو مما يمكن إدراجه في باب الخواطر الأدبية بالنسبة للقارئ المتعجل ، ولكنه في حقيقة الأمر ، أمكن في باب علم الثقافة والتأويل الثقافي ، جاء بعنوان: " بابكر بدري وأمُّه: أحيْ يا رقيدة في ضُل القبَّة ". وهذه العبارة الأخيرة هي في الواقع أُمنية غالية تمنتها في حياتها والدة بابكر بدري الأنصارية الصميمة ، وهي تعني أنها ترجو أن تكون اتكاءتها الأخيرة ، ومرقدها الأبدي ، في ظل قبة الإمام المهدي بأم درمان. (3) وبالطبع فإنَّ " تاريخ حياتي " لبابكر بدري ، قد مثَّل دوماً ، محور تركيز للمشتغلين بعلم السير والتراجم عموماً في السودان ، من لدن البريطاني ريتشارد هِل ، إلى بعض المعاصرين من أمثال البروفيسور عبد الله حمدنا الله ، والبروفيسور معتصم أحمد الحاج ، والدكتور مصطفى الصاوي وغيرهم. وبهذه المناسبة ، فإن البروفيسور عبد الله حمدنا الله ، قد اجترح إطلاق عبارة ما دعاها ب " المدرسة الرباطابية " في تأليف السير الذاتية ، جاعلاً من الشيخ بابكر بدري رائداً أول بالنسبة لتلك المدرسة ، وهو يعني مدرسة الصراحة ، والوضوح ، وعدم المداراة ، والمجئ من الآخر في كل شيء ، مهما كان ذلك الشيء ، ومهما كان الشخص الذي اتصف به أو اقترفه ، ولو كان مؤلف المذكرات المعني نفسه. وقد أدرج البروف حمدنا الله في سلك تلك المدرسة أيضاً ، كلاً من الأستاذين الراحلين: محمد خير البدوي ، ومحمد أبو القاسم حاج حمد. (4) وتأكيداً لما مضت الإشارة إليه من أهمية كتاب " تاريخ حياتي " كمصدر موثوق به من مصادر تاريخ الحقب التي عاشها المؤلف بوصفه شاهد عيان ، بل مشارك فعلي في كثير من الأحيان ، وكمثال واحد فقط على عناية الشيخ بابكر بدري بضبط تواريخ الحوادث التي أوردها في مذكراته ، والتي يمكن مضاهاتها مع مع ما ورد بشأنها في المصادر التاريخية الأخرى المعتمدة ، إليك هذه الفقرة من كتابه المومى إليه ، عن بعض وقائع أواخر سني المهدية ، وذلك على سبيل التمثيل فقط: " .. دخلت سنة 1316 بعد أن سبقها من الحوادث الحربية والسياسية ما زعزع اعتقاد المعتقدين إلا من عصم الله قلبه، وقليل ما هم. فمن الحربيات سقوط كسلا ( يعني في أيدي الطليان ) يوم 7 ربيع الآخر سنة 1312 ، وسقوط دنقلا في 15 ربيع ثاني سنة 1314 ، وواقعة المتمة وسائر الجعليين في غرة صفر سنة 1315 ، وسقوط أبي حمد في 8 ربيع أول سنة 1315 ، وجلاء أبي الخليل من السلمات في 7 ربيع أول سنة 1315 ، وقيام الزاكي عثمان من بربر في 25 ربيع أول سنة 1315 ، ودخول هنتر باشا بربر في غرة ربيع ثاني ، ووصول السكة حديد أبا حمد يوم 7 جمادي سنة 1315 ، واحتلال شندي يوم 29 شوال سنة 1315 ، وأكبر من كل هذا انكسار جيش الأمير محمود ببلدة النخيلة بنهر أتبره يوم الجمعة 13 القعدة 1315... ".(5) وبالطبع ، فإنَّ التحقق من صحة ما أورده المؤلف هاهنا ، ميسور ومتاح ، بالرجوع إلى وثائق المهدية ، التي غدت جميعها تقريبا ، مجموعة ومبوبة ومحققة ومطبوعة ومنشورة ، بفضل الجهود المقدرة التي بذلها الراحل البروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم. هذا ، ولما كان ما لا يُدرك جله لا يُترك كله ، فإنني كانت قد استوقفتني من خلال مطالعتي في هذا السفر الماتع خلال الأسابيع الفائتة ، وخصوصاً أثناء هذه العزلة الكرونية المجيدة ، فكَّ الله طوقها الخانق عن الجميع بالعافية والسلامة ، عدة أشياء في متن الكتاب ، همَشتُ عليها بقلم الرصاص ، فاجتمعت لي من ذلك جملةٌ صالحة ، فأحببت أن أُشرك معي حضرات القراء الكرام فيها. وهي وقفات تركز كما سيلاحظ القارئ ، على مسائل بعينها ، وتحديداً في مجالات اللغة والأنثربولوجيا والفولكلور ، وبقدر ما ما تهيأ لي من منطلق ذاتي بطبيعة الحال ، من حواشٍ وتعليقات على تلك المسائل ، آمل أن تكون ملائمة ومفيدة.
إحالات مرجعية: (1) Nasr El Hag Ali, “Shaykh Babiker Badri`s Autobiography: Tarikh Hayati”, Sudan Notes & Records, XLVIII, 1967, pp 71-76. (2) بدر الدين الهاشمي ، " مسيرة بابكر بدري الطويلة مع السلطة " ، ترجمة وعرض لمقال الأمريكية: إيفا م. تي . باول ، صحيفة سودانايل الالكترونية ، نُشر بتاريخ 2 يناير 2017م. www.sudanile.com (3) عبد الله علي إبراهيم ، " بابكر بدري وأمُّه : أحيَّ يا رقيدة في ضل القبة " ، صحيفة سودانايل الالكترونية ، نشر بتاريخ 22 مارس 2020م. www.sudanile.com (4) عبد الله حمدنا الله ، " المسكوت عنه في مدرسة الرباطاب التاريخية " ، صحيفة الصحافة السودانية ، الأربعاء 24 ديسمبر 2003م. (5) بابكر بدري ، تاريخ حياتي ، الدار السودانية للكتب ، الخرطوم ، الطبعة الأولى ، 2015 ، ص 159.