مِن ثقافتهم في المُسدار (2) .. يكتبها: عبيد الطيب (ودالمقدم)

 


 

 

شاعرات البادية وتحديدا غنا الجراري لهنَّ وعي جمعي،وشعرهن رقيب علي المجتمع، ويتفاعلن مع تضاريس البادية بوعي جمالي وإجتماعي،حتي في
(حُواضة/حَوَّاضَة/ الضِّمي/الضِّما).
(الضما/الظماء)(ظمأ/ظمآن/) وفي التنزيل: (لايُصيبُهم ظمأٌ ولا نَصَبٌ)
يقول الكميت:
(إليكم ذَوي آل النبيِّ تَطَلَّعتْ نَوازعُ من قلبي ظِماءُ)
(ظِمْءُ) مابين (الشَّربتين والوِردتين)
ومن مأثور الفصحى:(مابقَيِ منه إلا ظِمْءُ الحِمارِ) وأهل المعاجم يقولون:
(ليس شئ أقصر من الحمار ظمئاً) وأهل بوادي السودان يقولون:
(قصير ضِمي حمار) أي أن الحمار يرد (غِب أو رِبِع) "يوم /ويومين"
و(الحُواضة ) أو(الحَوَّاضة/ظ):هي قبل يوم الورود(الضِّما) وفي الفلاة(المُسدار) كل أصحاب الإبل،يتواعدون في مراح أحدهم لكي يكون مكانا للإنطلاق،و كل صاحب مراح يسرج بعيره السريع ويتسابق اهل النِّعم من مكان "سِدور" الإبل (المُسدار) الي المنهل أو المورد
(أضاة أو خور) والذي يسبق يكون الفائز، ويختار أحسن مكان بالمورد لمعطن إبله،ويصنع حوضه،لسقي إبله.
*(الدوانكي والعِد والسواني).
(لايحوّض لها لأن كل بدوي يعرف ضِما سعيته،و"الحواضة" لمناهل المطر وتكون في الدّرت والشتاء).
قالت شاعرتهم فاطنة بت الدليل حَمدين الجراري:
(أُمّك عيل منصقرِه
وأبوك محارب النّقرَه
يوم حوّاضْة الشَّقره
الناس في همومك تقْرَه)
وفي نفس التضاريس الشاعر حمدودحاج عبدالله ودالسغيِّر الكباشي الراحلي:
(النّاس هَدُّوا والناس باعُو
واني ربّيت أبوالزرّيق عرفت طباعو
مابمشيبو في اللّيم الجماعتو براعو
بشرب غُرّة الحوض الحَبَس قَرّاعو)
(والحوض الحبس قرّاعو) عن شراب الإبل ومعطنها يرافقه (شاشاي) طروب،أو (ندّاه)(المجاجاة) والشخص الذي يشاشي لإبله وهي تكرع الماء يسمونه (الندّاه) ،يقول شاعرهم ومن غنا توية:
(جاب ليكي ضريري ودواكي
وخلط العطرون ب سقاكي
(الندّاهه) تكب هاكي هاكي
وياجقلة الببهر نداكا
محتار القاعد وراكي)
وعن (شاشاي) الورود أو (المجاجاه) بصوت (الندّاه) الطروب قالت شاعرتهم ومن غنا الجراري تتندر من سفيه الدكّة،وتسافر مع خيالها ووعي ذاكرتها:
(النّفّش قَجَّاجه
بنت فوق أُمُّو الحاجه
هسّاع حامد وين جاجاه!؟
ل دوختو اللجّاجه)
وكذا شعراء الغنا( مربوع/مطولات/جالسة/توية) لهم وَعي عميق،بحياتهم الإجتماعية والإنسانية،يقول المطعون السليماني الكباشي يتندر من سفيه الفرقان والدكّة:
(بَزّوُر لايْبِي جو ناطِّينْ
فوق الرُّوسْهِن أسْمَحْ من جَنا الوِزِّينْ
دقُّو وجاجُو كِرْعينْهُنْ مَلانَاتْ طِينْ
وأسْمَح مِنْ سَراوِيل البَزِر وَاحْدِينْ)
(لايْبي/لايبة/لوّابة)إسم جمع للنّوق، وهنا يخاطبها بغزَلٍ شفيفٍ، وكأنّه يقول: أَفاطِمَةُ، ثمَ يُكْتنيها ب"أم سناباً" مايح، ويبلغ غزله فيها، مرتبة عالية،حين شبّه رائحة العَبَسْ وهو بول الإبل، الذي يسيل علي عرقوبها،وهو خلاف العَبَل، شبّهَهُ برائحة عطر وعسَّاف العروس،"اللَّوَنْدِي" وفوح العبس ، يَدُلُّ علي أن مراعيها خصبةٌ، ثم يَلُومُها بدلَعٍ: أنّ فِصالَها"حشَّاوِكْ"، ضلَّ منكِ وفارَقك، متجولا لوحده في المُنْحَدَرِ"دَوْ"، حيثُ يرعي،ثِمَار شجرِ السَّرْح،"الكَمُوقْ"،ثم شبابِك صنعوا لك الأحواض"دقُّو" وغنُّوا الأراجيز، وأيديهم تخلط لكي الماء بالملحَ"جاجُو" حتي تَعُبِّ الماء وترتوي، ومنظرَ أرجُلَهُم وهي ممتلأةً بالطيِّنِ، أجْمَلُ من سراويل الأفندية،و"سواحين الدكك" "السفيه"،ولعمري هذا سجال ثقافي إجتماعي وثورة مضادة،لظاهرة وحشية منبوذة،إتحول لفعل عام من ناحية إسلوبية لذهنية الشاعر العالية.
قال الشاعر الفلتة عبدالوهاب،وعبدالوهاب كان طروبا جدا، إذا مدح الدليل الخريت الحاج عبدالقادر ودخاطر مد الله في عمره،ويسميه (أخو شُكْلة):
(أخو شُكلة الطعامُو موفِر
نزل الليلي في القايم عَضِي ومتقفِّر (بالقاف المعطشة)
دَزَّ جمالو لي أكال السخيِّي مسفِّر
وأبعد ناينا من شيكة التملّي مغفِّر)
(عبدالقادر آبذّورنا نوا بي الفزَّة
ابعد ناينا من دور أم حويجباً نزَّة
رشيد وصميم ومو الب الفارغة يوت بتمزة
لي دورهِن بقول لي الراعي أعقل أبوخزَّة)
*ولأن فننا الشعبي يقوم علي الثقافةلا اللّفظ،فهنا (فزّة) في سياقها الثقافي لا اللّفظ، أي دليل خرّيت،رحيله متواصل،ولاتهمه عقبة الطريق الكؤود من "محلاية"،وكما تقول شاعرتهم من غنا الجراري:
(أخو الدّغسة وكحلِي
شكرَك بتلامحلِي
أصبح طابق الرّحلي
وقال: قِدّامهن مَحْلِي)
والشاعر الدليل فرج الله ودعبدالرحمن،ريّس وعقيد بركَة الزعيم المُر:
(مابتنقَدْرِي ياشَرِمَيْ بلا اللّتنين
كمّلتِي المراديخ والمترّك زين
الجبل المِدقِّن قالوا:ممحول شين
وفكْرِك يا أم غراديف ننجَدِع ب وين!!؟
الشاعر المطعون السليماني الكباشي ،عضاه جمله في يده
وحرمه من المساعدة في أعمال البادية،العقال للمطلوق والقيد لجمل الرحيل والراوية وجز الرّق وكذا كسر الرّسن،و"تكنيك" رسن أم كبجوو...الخ،وجميعها تكون بالمُسدار فقال:
(أمانَة آ إيدِي مابِتسوِّي عُقُل ؤقيود
وجَزَّاً مِندَمِج فوق صفحة المفرود
مابِتعرفِي!! رسن الطايع المو قعود
مساوقة أُم جنايا نَيْ وليها زنود)
شعراء البادية،الفضاء الممتد حد البصر،وملء الطرف ،وتضاريسهم المتنوعة منحتهم نباهة عجيبة،لاحظوا هذا الشاعر،يُآسى يده ببداوته!! وبعد ماذكر ماتصنعه، كان نابها في القفلة أو(حُسن التخلّص):
مساوقة أُم جنايا نَيْ وليها زنود))
والجملة الشعرية بها عز ومعزة وصاحبها "مِدرِّج" فصيلها"حوارها"، وبها بطر بداوة،في حنينها وقرواحها،وحميميةفي حداءه لها وهذا كلّه حقله الدلالي ومسرحه (المُسدار):
(دو..دو..دو....دو) "نغم "أو دلالة صوت (الدّوداي)
يقول شاعرهم الدّليل أُمْحُمّدأحمد ودسعيد الربيقي الكباشي:
(كسَّارة الحِدود شِق العَدُو بِتمشيلُو
ياعفَّاسة ل الهَبَج المجوِّخ نيلو
أُم حُكما تُركي ل البِتضفرو مابتقيلُو
تَفُرق العاشقين دي يحِن ودي يداويلو)
(خلاَّفت ظنون الغاوي
ياعفَّاسة لي الهبج البقوم متساوي
عانس ناس علي اللّفالِك الهبقاوي
تفرقي العاشقين دي بِحن وداك بداوي)
و(الدوداي) أو(الدوّاي) كما ذكر الشاعر،يختلف عن (الواواي) في النَغَم واللّحن وحتى في الدلالات الشعورية.
(دو...دو...دو.....) دائما يكون للناقة التي ولدت فصيلها لتوّها، ولا تستطيع الرحيل مع الإبل،لأن فصيلها رخو، لذا صاحبها،عندما "تنزل" إبله في المراح، أو تكون رتوع علي تخوم وجهته أو فلاته،(المُسدار)أو مكان ومنزل مراحه، يرجع لها،وعندما يصل حول مظانها،يصدر صوتا رخيما:(دو..دو...دو)
فتسمعه وتجاوبه حنينا،قال شاعرهم:
(أخوي موهو السفيه فجّر مع سِت رَي
كرّب سرجو فوق شوشة السّديس مو تْنَيْ
أخويا برابع العكصة المعاها المَي
أخويا بداوي ل أم فلج أم جنايا نَي)
قالت شاعرتهم ومن غنا الجراري:
(سيد تاسْمير لي الرَّاوِي
وسيد الدَّبسة تِلاوي
حِسْ عبدالله بِدَاوِي
لي الوالْدات شَتاوِي)
أها العز والبطر في حنين ناقته و(دوّاي /دوداي/داداي) صاحبها لها،مثل (البطر الرزين) للمادح ودبلّة:
في سِيدِي سيد العرشكول الشيخ السماني الشيخ برير راجل شبشة:
(نحاسُو نَقَر
سمّاني البيهو عِز وبطر
جابْ لِيَّ فنون)
والمساوقة(ل أم جنايا نّي) في الإبل تختلف عن السّوق ،لأن السوق يكون حارا،أحيانا بمخباط مبربح،وأحيانا بسوط العنج،مثل إبل "الدبابيك" المسافرة لمصر عن طريق الصحراء،أو إبل المحلاية من محل محول.
المساوقة كثيرا، تكون بمُخباط طويل وليّن ولايخلو من الطَرَق،لاحظ برضو قلت"طَرَقْ" ،ولم أقل"صفق".
البداوة في الطبع وأهل البادية يشكل طبعهم المناخ بتضاريسه المختلفة،والمكان وهنا "جغرافية الحركة" ثم وَعْي ذاكرتهم،وهنا يدخل حسهم الشعوري بقوة مثلا "المساوقة"،يقول الشاعر الفلتة
الأستاذعبدالوهاب ودالسميتاوي الكباشي الربيقي:
(ساوقناها جات مِنكبِّي
برا الصيد والوحش ما معاها لوكان حّبِّي
اللّنقيبها تقَّل فوق سناب الدَّبِّي
هرعا ساق سحابو وما ركز للصبِّي)
وصاحب الدُّرّة اليتيمة ودعبدالرحيم الشكري العيشابي:
(قبليك ساوْق أم بَرَد البرمّي سقطّا
ضُهْريك سابق السارية وصبيبو انحتّا
سُحبك دودا في علّاوه ضهورك ختّا
جبّالِك جَبَد كُجر التّعول وإتخطّا)
ومازال صوت ودكوع النمر ونمّته الشجية،"تهقش " بذاكرتي منذ أواخر الثمانينات:
(تَرعاها النِّفوس فوقها الرِّقاب مشبوكة
سمحة سوق حنينها بوقِّف القلب روكا
ولدها إن خلَّف الهَدرة التِّقول دَلّوكة
بوليس عندو حادث والبلد محروكا)
ولله در العُبّاد البِسوقو الليل سوق،ولقد صدق سيدي البرعي:
(كل واحدا قام علي طولو
ويسوق الليل ب طولو
قايسين عرضو مع طولو
عزّوبو وطالو ب طولو)
لا أدري!! ولكنني أجد التصوف السوداني،عميقا في حياة البدو،وكذا المديح السوداني ،
سلوكهم وفنونهم وألحانهم وغناهم وإيقاعهم و......الخ.
وحتي تكيّة المسيد أجدها في ظعنهم وحلهم وترحالهم،وتحديدا أجدها في (المُسدار)مثالا:
من نفل البوادي المتجذر في حياتهم الإجتماعية،وفي فلاتهم (المسدار)،وأنت راكب في زاملتك ومسافر"خاطر"،أينما تجد الإبل،رتوع في مُسدارها ،بلتلقائية وعفوية تبحث عن جمل "العَدَّاد"،حتي قبل أن تعرف وسمها،وبدون إستأذان،تنيخ الجمل، وتخرج السِّعِن،تسقي جماعتك ورفقتك وكل من معك،ثم تشرب جيدا حتي الرواء،ثم توكي السّعن أو القربة،وترجعه في مكانه"شبكته"،وتطلق الجمل وتذهب في طريقك حامدا شاكرا.....
بربكم ألم تكن هذه (تكيّة ظاعنة)!؟،وهذا كله (بالمُسدار)
ماأسمحها وماأجملهم،ولقد صدق شيخنا وعمدتناالفرجوني:
(بَعايِن في سماح كونك جميع جيهاتو
واسأل روحي اسمح في شروفك ياتو؟؟؟)
دفق محبة ومحنة ومعزة عجيب...........
الشاعر ودالأطرش:
(كفل اللّتبهبهت واتربّت
مالها الليلي كسرت من ضمانا وغبّت
وينها! الظاهري كيف نجمت هلالة الشّبت
لامي فضيلها مانهروها قالوا: انسبّت)
وردت ايضا(كفل الحَمْحَمت واتربّت
ولقد رسم المضعون السليماني لوحة من تضاريس هذه اللغة الفنجرية في جغرافية الورود والسِّدور"الصدور":
(سفيه الدِّكي غسَّل شالو سِمع الغاني
مرقت ليهوعيل تزلَّق العرضاني
هو..ناغمها..مِنُّو إتبلَّمت زهجاني
وطرتلُو النَّارو تلَّت في العُلُو الفوقاني)
وردت ايضا (العلو الغرباني)
يا سلااام جمال الإسلوب
هوناغمها..مِنوُّ إتبلمت زهجاني!! وشوف الرَّد الملان نفل
(طَردتلُو النارو تلَّت في العُلُو الفوقاني)
والربع الأخير هو سِر هذا المربوع،وهنا النار التي تشبًّ(تلّت) في العلو الفوقاني (السّناف) دليل أن لامكان ل"سوّاحي" الفريق وسفيه الدِّكة،في قلوب العذارى وأنسهنّ ،وإنما حناياهنّ تشرئب للدخري.
ولقد مُحط صديقي،بإشبوب من تضاريس هذه اللغة،لغة ( الورود والسدور)،عبر فتاتين،تشبهان مزنتي أم بشّار ،وجدهن بأضاة،ذات "خريف رتوع"،وكان أفندي الملبس:
(مُو فَندي بي ساعتو
ولُو تاجر بي بضاعتو
سِعنو الحليب زاعتو
وعايط لي رباعتو)
(الواواي) (الدّاداي) أنغام حنينة وشجية وبها شجن،وكلاهما دلالة صوت،مخاطبة أنغام الإنسان للأنعام ،وتحديدا لل(النَّعَم) بفتح النون وبها شدّة وفتح العين وسكون الميم،وهي (الإبل).
وهذه الألحان أو الأنغام الشجية،تكون بالمُسدار أو الفلاة،واصبحت عميقة في تراثهم ،حتى صارت(لودة) في ضرب الزّمبارة، وهنا أتذكر صديقي البدويّ الكباشي الحاذق الماهر من عجائب الزمبارة،أن الأيّام "البيض"، جمعتني مع هذا المبدع الطروب،كان في لودِه،يضرب لودة ويتفنن فيها ويخاطبني طربا:
(دي قدلة فلاني).....
أصاب بالدهشة!!!
إبداعا اصدقه....
لأنني أعرف براعته. ويقينا لا
وعندما يلتقي بصديقه الشّقي الآخر
أيضا يعزف لودة أخرى مختلفة
فيخاطبه صديقي صاحب اللودة الأولي:
(دي قدلة فلاني)
اضحك بهولة.....
وأخاطبه: ماالفرق بين هذه وتلك!!؟
يمسك زمبارته ويعزف
ثم يوميء لصاحبه فيعزف أيضا
بذائقتي لاحظت وسمعي أيضا
الفرق في اللود، ولكنني لم أعرف كيف عرف مشيتها!؟
ضحك بطرب ثم قال:(هسع أنت كتابة بزُّورك ديل بتعرف تفرزها)؟
نعم أعرفها جيدا،وأكثر تلاميذي أميز خطهم إن لم يك جلهم.
أها إنت دي سرحتك ونحن دي سرحتنا...
درب بهائمنا بنعرفه،ومشيت البنريدهن بنضربها لودة
ياللجمال والرّيد اللّصم:(مشيت البنريدهن بنضربها لودة)
ياخ دي إختصر صاحب هريرة وأهل خيل دنقلا وناس العانس و...الخ.
ثم أردف قائلا هسع أنا عندي ناقة عَادِي وكافرة
بتسوق الرّق(صغار الإبل) من "المُسدار" نحو المورد والمُشرع.
أها اسمع دي مشيتها ومسك زمبارتة ولوّد ببراعة.
*عادِي دي صفة للناقة القلبها قوّي ونوّايا وبتسوق لها حدرة وبتناطر كان برق وكان فلاة وكان مشرع .
وقبل أيام، وفي مؤانسه بيني وبين الأستاذ الحجّة النابه عبدالرحمن مساعد سألته؟
فذكر:(دي إسمها محاكاة الجوهر
فيها خيال....
تحويل الصورة إلي صوت)
تمتمتُ في سرِّي:
(ما أبدعهم،ويالروعة وعمق ثقافتهم، وكل هذه الثقافة بالمُسدار)
وهذه الأنغام ودلالاتها الصوتية(الواواي/) (الدوداي/الداداي)(الشاشاي)
إرتبطت إرتباط نفسي ودلالي وثيق وعميق في حياة الأبّالة:
(مِن واوى الكجيك ل أُمّات عيونا سُود
دليلهن صبّح السّرْج فوق كلال مشدود)
(أزرق واواى ل اللّبكار بنات عَنْتَارة
كيرهن طبّق الزومة ورمى الهدّاره)
ولله در هذه الشاعرة :
(رَزَمت تحت الفَحَل
وقامت عُقْدة نَحل
أم رقّا ماضاق مَحَل
عِلَيْ واوالْها ورَحل)
*لاحظوا الصورة الفنية المدهشة في:(قامت عُقْدة نَحَل)
النّحل يرحل مجموعة"كرتلّة" كما يقولون منصمّة وله طنين والإبل المعتنى بها ترحل مجتمعة ولها حنين،وفي الأنساق الخفية ومدلول اللّفظ نستشف أن الوقت رشاش والإبل شامت بروق الجنوب و"تشاشي" لمخارف الصعيد.
ولاتنسي لاتقرأ(علي) وإنما قالت إستملاحا وتصغيرا وهي طروبة:(عِلَيْ).
ولقد أرتبط (واواي) الأناقيب/اللناقيب/الوانقيب)) ب (قوقاي) القمري في ذاكرة البادية الجمعية،فمثلا في سنة 1984(سنة الجفاف)ونكبة البادية ورحيلها جنوبا،وتفرقها أيدي سبأ،وهاجر معها القمري، وبصدفة وجدت الشاعرة أم ضعينة بت دياب،قمرية تشدو علي فنن،فتذكرت الأبّالة في الجنوب البعيد،وخاصة شقيقها ورباعته،فكان إستلهام لغناها الأروع،ومن ثم إستلهام،للشاعرين الأستاذ علي الشيخ ودالمروالشاعر حنفي حاج الطيب(مُسدارالقمرية)
ومن غنا الشاعرة أم ضعينة بت إبراهيم وددياب:
(نجعت يا أم نهيدا حُق
أوكت السموم بتجُق
بريت جقلة النورها يبق
أني أقوقي وسيدها يدق)
*يدَق اي يصنع حوض لسقْي إبله،كما ذكرنا عاليه.
(نجعت بفكري وعُمري
وبريت أسياد أم نِمْرِى
إتّي صح يابكيرة حِمْرِي
وين! قوقاي القِمرِي)
وشاعرنا الفلتة أستاذنا عُمَر الشيخ رباح:
(يابروق الصباح الغايسة أمْلَن وسُوقَن
في القِيع والغفار القحطة ب اللّيل فوقَن
نسيمكَن هب وزاد قلب المتيّم شوقَن
وواواي الوناقيب والقماري القوقن)
و(الشّاشاي) أعمق هذه الدلالات الصوتية،لأنه فن روابطهم الإجتماعية،وبه تظهر البادية في أبهى تجلياتها،في التكاتف والفزعة ،و(الشّاشاي) يصاحبه الغنا بنمته الشجيّة،وتجدني مفتوتا ب(شاشاي) البطانة أيام بهاءها،ونقاء بداوتها،فشاشاي أهل البطانة من أروع غناهم،لوضوح حقله الدلالي وروعة إسلوبيته،في التناغم والتناسق والترابط والموائمةوالتلقائية والعاطفة الجيَاشة ووعي الذاكرة،ومدلول لفظه،التي تتجلّى ثقافتهم في أنساقه وصوره النفسية والذهنية ودلالاته الشعورية والحسية،الشاعر شيخ العرب علي ودالمصطفى،يشاشي لإبله:
(ياقطَّاعة الحوض العليهو القول
وياعفّاسَة الوادي أب أرايلا شول
مداخيرك مَضُو مالقيتي فيهم زول
سداد ظلمك بِقوا أهل الملاعِب دول)
(ياسَدّارَة الحَدَب البِصِيح بانْدَيلُو
ويارتّاعة القفر المِفشِّق فِيلُو
أنْعَدَمُو العَشيرهُم مافي مِن بدنيلو
الله يسامحهم فوق العلاويى بشيلو)
*العلاوي هنا الشيل فوق الدّبر،أو يطبق حموله وحموله غيره، (العلاوي) بتكون حمول ردف فوق الرحل ،الرحل بكون في "صفاح" البعير وهذا مألوف والعلاوي فوق الرحل من فوق وهذا غير مألوف والجمل الذي يحملها (نادر) والمدهش فوق هذا كله بشيل زيادة،حمل أهله وأسرته وجيرانه وعشيره ومن حوله،ثم العشمان والمحتاج،وسوف تكون عندي وقفة،بمقال منفصل عن هذا الشاعرالرائع والرجل العامر والفارس المقدام ،حفيد الدّغُم
شيخنا علي ودمصطفى إن مد الله في العمر.
ومن شاشاي(الطُّلا) أو (شاشاي الجرب) الشاعر الراحل المقيم الطيب ودالطاهر:
(مَيلك والبخالتو بفسّلن قُو قلبي
أبشري بتشفي منُّو وغالبة مابتنغلبي
مقنية وعصاية عِزّة مابتنغلبِي
قنبار النّطِح دوحيو زين وأنقلبِي)
(سعدك يابلولة الرّيق بريقك لاح
بتضوقي البهتّف فوقك البيّاح
قهبون الهرور وتقطِّف الميّاح
منُّو بتنجلي البِترُد كشيشة صباح)
وهذا شاعرٌ من البطانة وجد إبل (ضايحة) تضوح في المُشرع عطشى،فعرف وسمها، والوسم كوديفتح شفرات إجتماعية كثيرة،لذا سقاها في الحال،وطرب لذلك فشاشا لها بصوت طروب:
(تَشربي إتي ياالفوق الميَع مِنحمته
دَينِك وجّبوه أهل العرض والسّمْته
كِيرِك كل يوم بدّي الضرايب عَمْتَه
وسيف أهلك بِحل يوم الزّحيم أبوكَمْته)
لاحظوا الموائمة والترابط مابين(كيرك كل يوم بدّي الضرايب عمته) وبين
(سيف أهلك بِحَل يوم الزحيم أبوكمته) ولاتنسى الدلالة النفسية لصولة الفارس وصوال الفحل.
*ملاحظة ثقافية:
قرأت للكثير من الباحثين،رووا وكتبوا،"غنوة" للشاعر شيخ العرب الحردلُّو هكذا:
(هاج فحل أم صريصر والمنايح بشّت)
وهذا صحيح، لأن المنايح تعني كل بهيمة كانت غارز في الصيف، وجاها الخريف درّت اللبن،أهل البادية يقولون:(الحمد لله منايحي درّت تب)
و(المنايح) أيضا تعني البهائم الذي تُمنح للفقير،ليستفيد من لبنها ،وهي من عبقرية البادية للتكافل الإجتماعي،وفي رأيي البسيط(المنايح) مصطلح إجتماعي بدوي خالد
أيضا المنايح بعضهم يقول:(تعني البشائر)
ولكن ذائقتي تقول:(الممانح بشّت)لأن المنايح بشّت مابها تفاعل جغرافي وتغير تضاريس،ملفت،لأن طبيعة الغارز،تدرُّ في الخريف:
(شُرّي عِينة الما صَبن
درّر الغارزة اللّبن)
وإن قال بعضهم:(المنايح هي البشائر)
شيخنا إستهلاله عجيب:
(الخبر الأكيد قالوا: البطانة أترشّت)
هنا وقت الرشايم والرشاش،وتحول تضاريسي،تتفاعل معه الأرض والإنسان والحيوان،لذا قال:(هاج فحل أم صريصر/ي))
و(الممانح بشّت)ويقصد بها البهيمة التي تدر اللبن ولم تلد بعد
يقولون:(النعجة/العنز) دي بتحلب ممانِح وماشق صلاها جنا،وحتي حِيال ماحالت)
(المنايح بشّت) عادية،لأن طبيعة المنايح اللبن، بمعني يعطوها أو يهبوها للفقير،لأنها تحلب، المنيحة) هي للحلب،إن كانت(مَرِي /خَلِي/لقح).)
ونعم صحيح (المنايح) مع الرشاش تَدُرُّ اللبن،ولكن( الممانح) فهي تحلب بصورة غير طبيعية،لأنها لم تلدبعد،شئ (خارق للعادة) والسبب التغير الجغرافي،بفعل المطر
ايضا مادام شيخنا قال:(هاج فحل أم صريصر/ي) فهنا تناسق الإسلوب،وحصافة شيخنا الحردلو يجعل ذائقتي تميل ل:(والممانح بشّت) لمجاورتها لطرائق صياغة أول الربع السابق أو الجملة الشعرية وإسلوبيته:(هاج فحل أم صريصر).
"المنايح" إجتماعيا عجيبة ولها مدلول تكافلي وإجتماعي
و"الممانح" من حيث الخطاب الشعري أو الجملة الشعرية مدهشة ومباغتة
المهم رأيي رأي متذوق فقط ،دارس في فننا الشعبي وتراثنا الأدبي،وباحث فقط والباحث طالب وتلميذ،يقول رأيه فقط ولدي إيمان قاطع ، بمانُسب للناقد الأديب
الدكتور إحسان عباس في معناه وليس حرفيا :
(قدرية الباحث في العلوم الإنسانية والتراث،أنه طالب)
ومربوع شيخنا الحردلو وجدته مدون فقط لذا مابين:(المنايح/والممانِح)"بشّت".

aubaidmagadam@hotmail.com

 

آراء