مِن غُـبارِ الذّكريات: عَنْ السَّفيْر الرَّاحِلِ عَبْدالله جُبَارة وَ”جوْليَا روْبِرتْس”
(1)
في السنوات الأخيرة من عقد التسعينات، والضغوط الواقعة على حكومة "الانقاذ" وقتذاك ، تركتْ السودان في عزلةٍ تامة لا منفذ لها للتنفس اللازم حتى تبقى قادرة على الحياة. لا أودّ الخوض في مسببات تلك الضغوط ، فهي التي أفضت إلى إنهاك الحكومة وردتها عاجزة تمام العجز ، وانتهت بها إلى انهيار كامل على يد حراك الشباب الذي أجهز على دولة الإسلامويين قضاءاً كاد أن يكون مبرما.
عن تلك الضغوط ما كان ممكنا للدبلوماسية السودانية أن تناور لتجاوز ما حاق بها من فشل أقعدها عن إحداث أي اختراق يعين رئة النظام على التنفس لإبقائه حيا. في تلك الظروف القاتلة حاول وزير الخارجية السوداني وقتذاك أن يتحرك وفق مبادرات أقل وصفٍ لها أنها اجتهاد شخصي، فهو يشغل المنصب الوحيد في حكومة الطاغية البشير الذي تعينه وظيفته للتحرك نحو الخارج . الدبلوماسية المهنية لم تقف مكتوفة الأيدي بل بقيت بعثات السودان الخارجية تخدم الرئة التي أبقت النظام على الحياة. ذلك أشبه بإبقاء جسم مريض توقفت وظائفه ، ليحيا بمعينات وظائف الحياة الخارجية. .
(2)
عرفتُ سفيرا مهنياً في أواخر سنوات التسعينات، أشعل أصابع دبلوماسيته شموعاً أضاءتْ لوزير خارجية السودان المحتار في أنفاق المقاطعة التي رزحتْ فيها البلاد سنوات وسنوات. إبتدر ذلك السفير المهنيّ طريقا ضيقاً بمجازفات جريئة، أمكن عبرها من ترتيب زيارات شخصية لوزير خارجية السودان إلى عددٍ من الدول الأوروبية .
الفتح الأكبر الذي أنجزه ذلك السفير هو سعيه لتهدئة التذمّر البريطاني بعد اضطرارها لسحب سفيرها قبل أن تبلغه الخرطوم قرار طرده. بقيت سفارتا البلدين في كل من الخرطوم ولندن ، تعملان بلا سفراء يديرون نشاط البعثتين. ظل وزير خارجية الانقاذ الهمام في رحلاته لحضور اجتماعات هيئة الأمم المتحدة الراتبة في سبتمبر من كل عام ، يمرّ عبر مطار "هيثرو " في لندن ولكن دون أن تعيره السلطات البريطانية نظراً، إلا قليل اهتمام تقوم به السفارة السودانية ضمن واجباتها المراسمية نحو ضيوفها، كطلب فتح قاعة كبار الزوار ليتم استقبال الوزير السوداني فيها . يتم ذلك ويا للأسف دون حضور ممثل من وزارة الخارجية البريطانية. .
(3)
في نهاية عقد التسعينات وببذلٍ مشهود لذلك السفير المهني الهمام، بدأ الدفء يلقي بحرارة نسبية على ملف العلائق بين الخرطوم ولندن.. حتى جاء "ميك بيس" سفيرا اعتمدته الخرطوم على عجل وكأنها لا تكاد تصدق. ولأن لسفارة السودان في لندن مكانتها الخاصة في تراتبية السفارات السودانية ، فقد ظلت هي بعثة وكلاء الوزارة لسنوات عديدة. لم يكن لافتاً اختيار الراحل حسن عابدين سفيرا فيها، بعد أن عمل وكيلا للوزارة لنحو عامين . ولأهمية تلك السفارة وحجم العمل الذي يتوقع أن يتضاعف ، فقد اختارني عابدين لأعمل سفيراً مساعداً له بمسمى نائب رئيس البعثة، وذلك بعد نحو أعوام ست قضيتها في رئاسة الوزارة لها قصة ليس وقت نشرها هنا.
قـدِمَ وزير خارجية السودان لزيارة لندن، بعد أنْ عادتْ مياه العلاقات مع لندن إلى مجاريها. لكنّ الضوء الذي أشعل شمعته ذلك السفير المِهنيّ، بقي خافتاً وإن لم يكن خفوتاً مستداما. الأيام الخمسة التي قضاها ذلك الوزير السوداني، كانت على ضيافة السفارة السودانية وحدها، إدارة وسكناً وتنظيما .
(4)
الجديد هذه المرّة أن الخارجية البريطانية بعثت بممثل عنها لاستقبال وزير خارجية السودان ولوداعه. أما لقاءاته الرسمية فقد شارك في تيسيرها السفير"ألان قولتي" ، ذلك الذي بادرتْ حكومة ،الإنقاذ" أواسط التسعينات بانهاء مهمته في الخرطوم. السفير "قولتي" ظلّ وفياً للبلد الذي أحب. هوَ الآن رئيسُ "مكتب شئون السودان الخاص" في الخارجية البريطانية. لعلّ تخصيص ذلك المكتب تميزاً له عن الإدارة الأفريقية وإدارة الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية، يعيد للذاكرة مسلك لندن التي كانت شريكاً في الحكم الثنائي مع مصر، في معالجتها الشأن السوداني في وزارة الخارجية في "هوايتهول" على نحوٍ خاص، وليس في وزارة المستعمرات.
(5)
لكن لنأتي على ذكر تفاصيل الدعوة الرَّسمية التي قدمها وزير خارجية بريطانيا لوزير خارجية السودان لزيارة لندن. من الملاحظ أن الدعوة جاءتْ على خلفية تطور مسيرة التفاوض حول مصير جنوب السودان، والتي ظلّ السفير "قولتي" مشاركا فيها بصفته المبعوث البريطاني الرسمي في تلك المفاوضات الدائرة في "نيفاشا". لعل الجدية التي لمسها الرجل قد دفعته للتوصية بدعوة الوزير السوداني لزيارة لندن. ذلك جهد شارك في ابتداره ذلك السفير السوداني المهني الذي كان يشرف على العلاقات السودانية الأوروبية في وزارة الخارجية في الخرطوم. ولأنّ "الانقاذ" درجت بطريقتها على مكافأة من يجيدون أداء مهامهم وإنْ لم يكونوا من الإسلامويين، فقد بادر وزير الخارجية بترشيحه سفيراً للسودان في انجمينا. ومع كل التقدير لعلاقات البلاد مع ذلك البلد الشقيق، إلا أن عاصمة أفريقية مثل انجمينا ، كانت آخر ما قد يتوقع ترشيح سفيرٍ لها عمل في إدارة العلاقات السودانية الأوروبية لسنوات، وأحدث في جدار المقاطعة السميك ثغرات شكلت بداية للبلاد لإنهاء عزلتها، وأمكنت وزير خارجية السودان من أن يزور العديد من الدول الأوربية. ذلك أمر والأمر الآخر أني كنتُ أعرف وظني أن الوزير- وهو طبيب بالمهنة- يعلم أيضاً عن ذلك السفير المهنيّ الهمام، أنه مريض بالسكري والقلب. لكن ما خطر بالبال أنّ مكافأة وزير "الانقاذ" لذلك السفير المهنيّ، أن تبعث به إلى تشاد حيث لا يضمن المرؤ توفر علاجٍ يبقيه قادراً على أداء مهامه هناك.
توفي ذلك السفير المهني الهمام في الخرطوم قبل أن يغادر لسفارته بأيام .
(6)
ثم جاء الوزير السوداني تلبية لدعوة رسمية من قبل وزير الخارجية البريطانية السيد "جاك سترو". كانت ترتيبات تلكم الزيارة من مهامي بحكم مسئولياتي الإدارية في البعثة. ولأنها أول زيارة رسمية لوزير خارجية سوداني منذ سنوات طويلة، فقد طلب مدير عام الخارجية أن أزوره للتنسيق حول الزيارة. وضعت مراسم الخارجية البريطانية خيارات لوجستية حول الإقامة والسكن والتحرّك ومجمل اللقاءات الرسمية وغير الرسمية. من عديد الفنادق المميزة التي اقترحتها الخارجية البريطانية، طلبت حجز جناح للوزير في فندق "ريـتــز" المطلّ على شارع "بيكاديللي" في قلب لندن، بحكم انه بجوار سفارة السودان في شارع "كليفلاند راو"، قبالة بلاط "سانت جيمس" التاريخي. .
سعيتُ أن يعلم وزيرنا أنّي اخترتُ له جناحاً مميزاً حلتْ به الممثلة الأمريكية الشهيرة "جولـيا روبرتس" في فندق "ريـتـز"، وكان موقعاً لتصوير بعض مشاهد الشريط السينمائي الشهير "نوتينج هيل". صديقنا الوزير لم يكن مهتما بذلك. أما لتنقلاته في لندن، فقد رأيت أن ترتب الخارجية البريطانية صاحبة الدعوة للوزير، سيارة ليموزين سوداء ، تعدّ عادة لكبار زوّار وزارة الخارجية البريطانية الرسميين.
(7)
هل كان مناسباً أن أقدم للوزير تعزيتي الخاصة في رحيل ذلك السفير المهني، وقد كان رحيله قبل أسابيع قليلة من تلك الزيارة الرسمية . . ؟ أو لعلي كنتُ أنتظر أن يعزينا نحن السفراء أهل المهنة، في رحيل ذلك السفير العزيز. .؟
لكن حدثتُ نفسي أنّ من لم يسمع بـ"جوليا روبرتس" التي كانت تحلّ في ذات الجناح الذي أقام فيه هو، قبل أشهر ليست بعيدة. . هل سيهتم كثيراً إنْ عزّيناه، أو إن قدّم هوَ عزاءاً لنا في رحيل السفير العزيز المرحوم عبد الله جبارة. . ؟
الخرطوم- 21 يتاير 2021