(1)
كُنا نلهو ونلعب في الأرض الفضاء بين البيوت في الحي.واحدة من تلك الفضاءات التي انعدمت وسط أحياء اليوم ،بعد أن تم استغلالها لتنهض مكانها بنايات تنظر بغضب لما حولها ،بعد أن تنافرت تنافُر الطبقات الجديدة التي نهضت تصارع بعضها. كل المغامرين الصغار كانوا معنا . في الستينات كانت الأفكار الغريبة مشوِّقة تأخذ طفولتنا إلى متعة حقيقية ، لم نكُن نعرف أنه ربما تقودنا إلى الفوضى التي لا تنظر العواقب المُقبلة.
أول مرة رأيت " ناجي " جالساً على طرف ناءٍ يشاهدنا ونحن في زحام اللعب بكرة "الشرّاب" ، نقلد كرة القدم الحقيقية في ملاعب الطفولة بقدر ما يتيسر. خناقٌ و صراخٌ وصراعٌ وغبارٌ يعلق بالمكان، أكثر مما هو محاكاة للرياضة الدولية المعروفة .نساعد طفولتنا في تنمية العضلات وتفريغ الطاقات الكامنة .
(2)
على المسطبة الغربية أمام صف من بيوت اللّبِن التي تلتصق غرفها على الأسوار،يجلس " ناجي ". شاب في مقتبل العمر . قمحي اللون ، وسيمٌ هادئ الطباع . إنه مكانه المفضل الذي لا يفارقه .ظِلّ العَصر يرتمي عليه، يحجب عنه لهيب الشمس. ساكناً يجلس يرتدي قميصاً " بلدياً "وسروالاً من " الدبلان ".يبدو أكبر منّا سناً ، بل و ربما هو في سن البلوغ ، ستة عشر أو سبعة عشر عاماً . تقاطيع وجهه يافعة مثلنا. استحينا أن نطلب مشاركته لنا اللعب ،فقد وجدناه يتأملنا بفرح ولكنه أكبر حجماً من أن يلعب معنا!. عندما نفقد الكرة بعيداً ، يحضرها لنا بطيب خاطر وسعادة نحسها في قسمات وجهه. طلبناه مرةً أن يكون حَكَماً أو حارس مرمى. استمع إلينا بنصف انتباه ،بلا انفعال أو رد فعل. تركناه يكتفي بالمشاهدة. لا يتحدث هو إلا جملة قصيرة من كلمتين أو ثلاثة ولا يتلعثم ، كأنه يهاب الاسترسال في الحديث. بعد تعوُّدنا عليه أحسسنا أنه غريب عن الأحداث من حوله، كأنه طفلٌ في الرابعة قد تخلَّق في جسد شاب في مُقتبل العُمر !.
حالما أحسسنا أنه طفل كبير ، بدأنا نستأسد عليه ، ومع طيبته لا يقاوم تلك الجسارة المتدفقة عليه من الجميع . بعضنا يتعاطف معه ويطلب أن نتركه وشأنه ، والكثيرون منا يجربون مشاغبته ويستلذون لذلك . في حزمة قطيعنا، وسريان المسلك المشترك ومحاكاة بعضنا ، نبهنا واحد منّا أنه يعرف أهله ،فتهيبنا . وبدأنا ملاطفته. قال مُحدِّثنا أن أسرته سكنت بالجوار منذ شهرين ، ستة بيوت إلى اليّسار من مكان جلوسه.وذكر أن أسرته اشترت البيتَ الذي يقيمون فيه الآن ، وهم أناس متوسطي الحال ،طيبون كما يقولون عنهم ويستلطفهم الجيران ، وهم على درجة من التهذيب الذي كُنا نحسبه من جهالتنا ضعفاً وغرابة مسلك.
(3)
"ناجي" نراه رجلاً في بِنيته الجسدية كما يبدو من البعيد ، وهو طفلٌ في تقاطيع الوجه والتعبير والحديث عندما نختبره عن قرب، بل قدْ لا تحس تغيّراً في طبيعة صوته الطِّفل!.
في يوم من أيامنا حضرتُ مُبكراً وقلت انتظر رفاقي .وجدته جالساً هادئاً في ذات المكان الذي عوّدنا عليه . تركته وأسرعت إلى "البقالة"المجاورة واشتريت قطعتي حلوة ، وأعطيته واحدةً . تقبّلها بهدوء وبفرحٍ شديد وربّت على كتفي شاكراً بلا كلمات. أحسستُ بألفةٍ بيننا .بدأتُ أحكي له ما كان يَشغلني في البيت والمدرسة وبين رفاق الطفولة من معارك وخصام وجدال ،ولم أجد إحساساً مُشتركاً بما كنتُ أحكي من القضايا اليومية التي تمرّ علينا. أنا المُتحدِّث دائماً وهو الذي يبتلع الحديثَ بلا هضم !.كان ردّه نصف ابتسام . يفرح لأنك تخاطبه ، ولا شيء آخر . يبدو أن هناك قضية فهم أو سوء فهم بيننا،لم أتبينها .فهو يصمت وينظر ويكاد يتحدث ، ثم يصمت. تكسو وجهه انفعالات مُرحِّبة ومُستبشرة ، ودٌ يبوح من نظرته يحُثني على الاستطراد .لم أميِّز ما يجول في خاطره، فهو لا يسأل ولا ينتقد ولا يُعلّق. يتبسّم بعاطفةٍ حقيقيةٍ ولا يستخِف بمحدِّثه.انتبهت وأنا أسردُ التفاصيل ، وقلت له فجأة :
أتذهب إلى المدرسة ؟
قال بعد تفكير طويل : لا .
تعجبت ، وسألته عن السبب ، فلم يجبْ . وأنا أحاول أن استجمع معرفتي به بكثرة الأسئلة ، إلى أن انقطع حديثنا حين سمعتُ امرأة يبدو أنها قريبته ، تدعوه بصوت عالٍ فانتبه. نظر إليَّ بحيّرة منْ لا يريد مفارقتي،بلا حزن وبلا غضب، ولم يقل شيئاً. ومع إلحاح قريبته،نهض ببطء وذهب إليها ، بلا ضجيج. رافقها قليلاً وأنا أرقبهما ، فتحت السيدة باب بيتهم وأدخَلته أولاً ، ونظرت حول الطريق يمنة ويُسرى، ثم دخلتْ وأغلقت الباب خلفها.
(4)
سألت صديقي "حسن " أن يقُص عليّ سيرته ، فهو الذي دلَّنا على التفاصيل :قال أنه ظلَّ زماناً يحمل عقل طفلٍ في الرابعة وجسد ما بعد البلوغ .وأهله يعتنون به في البيت ، ويراقبون حركاته وسكناته وهو يجالسنا أو يشاهدنا نلعب في الطريق العام دون أن نشعر ، ودون أن يحسّ هوّ بالمراقبة اللصيقة، لأن حياة البيت قد تصبح كارثة إن لم يتيسر للطفل الرجل أن يتحرك فيها بحرية . يبدو كأن وجوده قربنا أمرٌ تطمئن إليه عائلته.
أصدقاء " ناجي " الأطفال الذين كانوا أنداداً له ،يتغيَّرون ويتبدَّلون ، يكبرون ويدخلون الخلاوى أو رياض الأطفال وهو محروم من كل ذلك . انقطع عن الذهاب لخلوة "الشيخ عبد الهادي " بعد أن تعثر في حفظ القرآن والتلاوة ، وقضى مع الشيخ أتعس أيام حياته ، تأنيباً وتعنيفاً ، ثم انتهى مضروباً بالسوط وسط عامّة الأطفال ، عادة يومية يمضغها مثل طعامه .منعه صمته عن الإفصاح ، حتى زار والده "الخلوة " يوماً يسأل عن حال ولده بعد أن علم من والدته "الحاجة فاطمة " آثار العذاب على جسد الطفل . وبعد مقابلة الشيخ ، أقرّ المُعلم بالمعاملة ، وأضاف أنه ليس كالأطفال ، لا يحفظ ولا يردد آي الذِّكر الحكيم كأنداده ، ولم يحفظ عن ظهر قلب إلا سورة الصّمد وبعُسرة ،ولا يعرف غيرها .حزن والده حزناً شديداً وقرر أن يبقي " ناجي "بالبيت .استراح الطفل من عذاب الدراسة ، لأنه الوحيد من دون الأطفال كان يتعذب من السُخرية، في حين يتوجع من آلام ضرب السوط على ظهره . وانتظر الحال به في البيت سنوات ،وبعدها قررت أسرته الرحيل إلى حيِّنا .
(5)
الآن تغيرت الدنيا ، واستراح في البيت كما أراد والده. يخرج أحياناً ويجلس في مكانه المعتاد يراقب أجيال الأطفال ، وقد سارت بهم عجلات الزمن ، و تغيرت أحوالهم بقدوم رياض الأطفال إلى الوجود وانزواء "الخلاوى" أو الكتاتيب القرآنية التي قلّ عددها في المنطقة، وصار لباس الأطفال زاهياً ومميزاً ، غير القمصان "البلدية" وسراويل " الدمّورية " أو " الدبلان " ،كما كان الحال وفق نظام العالم القديم الذي كُنا نعيشه!.
ها هي الأطياف من زملائه السابقين ينتقلون بسلاسة من المرحلة الأولية إلى المرحلة الوسطى ثم الثانوية .اخشوشنت أصواتهم ، وتضخمت ما يحملون من حقائب بالكتب والأسفار ودفاتر الكتابة ، وصاروا يتحدثون أكثر من لُغة . يجتمعون ويفترقون ويتحدثون حديثاً مركباً يصعُب على " ناجي " أن يتبيّن . يعلو صخبهم وأصوات غضبهم وأفراحهم وضحكهم وبكاؤهم وحزنهم وشِجارهم.عالمٌ يتغير بتغيُّر الحياة . فيه الأطفال ينتقلون من حال إلى حال ، ولكنّه وحده ،يجد نفسه لا يتغير ، لا يتقدم ولا يتأخر !.
(6)
حياة ثابتة بدأنا نتحسسها في شخص " ناجي "،و نحن وما حولنا في تغير دائم ، من النظام إلى الفوضى ،ثم نعود مُجبرين على احترام النظام من حولنا ، فالحياة الاجتماعية ضاربة جذورها،تتدخل في تفاصيل حياتنا تلك الأيام. نلتزم وننقاد ، ونهرب من الخلف بالالتفاف .
" ناجي " رغم طفولة مسلكه ، فهو منتظم في سكونه ، هادئ الطباع، قليل الحراك. تدور الفوضى من حوله وهو الكائن الغريب الصامت المبتسم. ملابسه وحذاؤه ، تصفيف شعره ، كلها تكشف أن هناك أيد تتدبر حياته وتقوم بالتفاصيل التي نحسبها من الدّلال وأثر النعمة ،لأن ما نراه عليه من صورة، تبدو كأن هناك من يجهّزه ،فهو في الحقيقة التي نعرفها عنه ،أضعف من العناية بلوازمه الشخصية و الهندام.
(7)
لم نكُن نعرف أن في الدنيا بمثل غرابته، أو أن هناك أطفال يختلفون عنا ذلك الاختلاف ، يكبر جسدهم ولما يزالون أطفالاً في عقولهم . لا مدرسة يقضون فيها النّهار ، وليست لهم واجبات مدرسية ، أو مهام منزلية يُكلفون بها . نَحسُد " ناجي" على عطلته الدّائمة ، وخلوّه من المسئوليات ، ولكن كنا نجهل الأعباء التي تتطلبها الطّفولة الدائمة وتتحملها أسرة " ناجي " إنابة عنه ، حيث لا يمكنه القيام بأي شيء . ووجوده لوحده في البيت خطر عليه وخطرٌ هو على كل شيء في البيت . فالجسد ينمو والحاجة تزيد والمستقبل مجهول. وليس مأمولاً أن يتصرّف كما ينبغي ،فكيف ينظرون إليه ؟، وماذا لو طفر إلى حياة البلوغ فجأة دون مقدمات؟ . كيف يستحم أو يقضي حاجته ؟ .أ لوحده أم هناك من يساعده؟. وما هو المصير الذي ينتظر مستقبله ؟ ، وأي حياة سيحيى؟، أيظل مرتبطاً بأخته وربما أمه إلى الأبد؟ . حياة دون شك محفوفة بأغلال وقيود كثيرة تطوِّق أسرته . إن بقي طفلٌ فسوف تتغير حياة أسرته أمام الأضياف ،فالبيوت في زماننا مضيَفةٌ عامة ، لا مواعيد للزيارات . يدان تصفقان ، ثم تجد صاحبهما بينكم في وسط البيت!. ولحسن الحظ أن " ناجي" هادئ الطبع ، قليل الحديث ، يجلب الرأفة والمحبة لأضياف أسرته وضيفاتها . وتقابل أمه ملاطفة الآخرين بشفقة وحزن وقلق، فهو الابن الوحيد ، الذي كانت الأسرة كلها قد فرحت به أيام طفولته الأولى. ذاق طعم الدلال ، وفتنة الفرح بالذكورة . ثم خبأ لهم الدهر في منتصف الطريق إلى الفرحة واغتالها.
(8)
وفي يوم من الأيام التي لا تُنسى ، تبِع " ناجي " نعشاً " لميت قدم به أهله ، عبروا الطريق جوارنا عصراً . أوقفنا اللّعب ، تبعنا " النّعش " حتى خرج به أهله خارج الحي ، وفي أذهاننا ما تعلمنا: أن نتتبع الأجر أينما كان ، فهو جزء من الإخاء والرحمة حسب عُرفنا .
شاهدهم ناجي ، وتبعهم معنا غرباً حيث المدافن بعيدة عن بيوت الأحياء . عُدنا من مسيرنا وانتظمنا في اللعب إلى الغروب . انتبهنا فجأة أن " ناجي " لم يكن في مجلسه الذي اعتدنا. جاء أبوه وأخته وأمه يسألون ، وضجّ المكان.ارتفعت الأصوات ، وتبارى الجميع بحثاً عنه ، فقد عرف الجميع الخبر، ولم ندر شهرته بين الناس ولا قيمته، إلا حين فقدناه ذلك اليوم .عبرَ منْ عبرَ غرباً حيث اتجاه المدافن يبحث . قصصنا على الجميع مسيرتنا من خلف النّعش لعلها تكون دليلاً إليه، ولكننا لم نتأكد إن سار هو مع النّعش إلى مثواه الأخير أم تخلف ،فهو لا يعرف الطرق ولا الأمكنة .
كان المساء قطعةً من الجّمر على أنفُس الكثيرين،فقد اكتشفنا محبة عظيمة له وشفقة عليه من الجميع ،و ذهبت ببعضهم الخيالات مبلغاً ، ودبَّ الخوفُ على الأوجه، والليل يكسو المكان بحُلة الريبة والغموض والحزن والسواد.سيرته الطيبة على كل لسان ، تتمنى أن يعود معافى .
(9)
انتهى ضجيج يوم الخميس ، وانقلاب حياة أهل الحي كل الليل ، يسألون عنه .كأن المعركة الضّارية حكاية ليلٍ ذابت وانقضت. فقد عِلمنا أنه قد عاد منتصف الليل وحده . طرق باب بيته، وهزت المفاجئة أسرته ، وارتفعت الزغاريد بالأفراح.غطّت على تفاصيل لم نعرفها ولا أحد يعلم بما جرى لناجي تلك الليلة.
في صباح الجمعة كان " ناجي "هادئاً يجلس في ذات المكان الذي اعتدناه. مددت يدي إليه بالسلام . مدّ يداً متعرِّقة باردة ولكنها خشنة . نظرت الوجه ،وجدته متصلباً على غير العادة . العينان بقرصيهما الأسودين،قد انقلب لونهما إلى حلقتين صغيرتين مُحمرَّتين بلون الدم. نظر إليّ كأنني غريب عنه . دُهشت ،ولكنني تصنعت مُداعبته ، فوجدته صامتاً ووجهه متصلباً كحجر. كأنني أسمعُ أزيزاً خافتاً، أخذ يعلو كغليان يفور في صدره، لا يصدُر إلا عن وحش كاسر جريح. وجهه خالٍ من التعبير الذي عهدتُه .أحسستُ برعشة خوف . سحبت يدي من قبضةٍ حديدية مُحكمة صارمة ما عهدتها من قبل، وكأنني أنفلت من بين أظافر كائن متوحِش . تراجعتُ مذهولاً ببطء إلى الخلف ، وكدت أهمُّ بالفرار، لولا أن رأيته يطأطئ رأسه . غطى وجهه بيديه وبدأ ينشج في بكاء مُر. لأول مرة أراه بهذا الضعف .صورة ملونة تكشف الكثير من العوالم الخفيّة. كأني أشهد زلزال أحاسيس يقذف حممه .
غالبتني أحاسيس متناقضة، مزيج من الخوف والدهشة وقليل من ذكريات صحبتي له ، وهي تُناديني أن أكون رحيماً به ، رفيقاً كعهدنا الأول . أحسست حاجته إليَّ، وهو في القوة الساكنة والنحيب يهزّ جسده . ذابت فوارق العُمر ، وصَعدتُ إلى حيث تلتقي الإنسانية و هي تختلط بالطفولة في مواكبها الراحلة. نعرف أننا رجال صغار ، وأن من يكبروننا أطفال كبار مهما امتد العُمر .اقتربتُ وربّت على كتفه ،وقد زالت غشاوة الحجارة ، وانسلخت القشرة الميتة التي كانت تُغطي جسده وتفتقت الينابيع الدافئة بيننا . قال بنبرٍ تام وأنا أكاد لا أصدق :
" إن الموت يا صديقي قضيةٌ أكبر مما كنت أعرف "
عبد الله الشقليني
12/04/2014
abdallashiglini@hotmail.com
/////////