نانجور .. قصة حب … بقلم: امير حمد /برلين*

 


 

د. أمير حمد
11 August, 2009

 

Amir Nasir [amir.nasir@gmx.de]

وهمت أن تنصرف، فإذا به يهتف بها:" بحق السماء يا ماري"

تبادلا نظرة عميقة طويلة، فإذا الذي خيل إليهما منذ لحظة مستحيلا، صار فجأة حقيقة لا مناص منها.

تولستوى "الحرب والسلام"

ادين بدين الحب فالحب ديني وايماني

                                الامام محي الدين ابن عربي فيلسوف  المتصوفة     

 

كان الخريف في تلك القرية المهجورة أشبه بحلم قديـ يـ يـم بذاكراتي سألت نيانجور عن مزيج الأعشاب الذي ضمدت به جرح رصاصة في كتفي... سألتها وأنا أنظر اليها لأول مرة... كانت سيدة رائعة الجمال سامقة بقامتها الأبنوسية اللامعه، يطوق خاصرتها  الباليه، وساقيها الممتلئين وجيدها الطويل عقود من الخرز المزركش. كان بعينها حزن، وجمال شفيف ذكرني بذاك العطر حينما لامست قدماي لأول مرة أرض الجنوب الحمراء قالت: 

كان جدي منذ صغري يعلمني أسماء بعض الأشجار، وفوائد ثمرها، واستخلاص أوراقها كوصفة طبيه. لكم كان عسيراً عليّ أن أعي كل ما قاله، لقد أذهلتني إحاطته بكنة الطبيعه .

عند كل فجر أحدٍ كنت أرافق جدي، في رحلة صيد الأسماك... لكم عاد كثيرا خالي الوفاض... لاسيما عندما يرتفع مد النهر، ويجرف مركبنا العتيق، بعيداً عن حل القريه، فننصرف إلى محاولة إيقافه، وإعادته إلى الشط ثانية. أثارت تلك الأيام حفيظته، وأضرمت فيه السباب، ولعن حظه، حتى وجدتني أتردد من التجذيف معه، ثانية، خيفة أن يعزي النحس إلى إصطحابي معه غير أنني لا زلت أذكر ذاك اليوم البهيج، الذي إصطدنا فيه سمكة ذهبية ضخمه، أوهنته في سحبها من الماء... ياإلهي لكم كانت ثقيله، فهمّ بتركها... غيرأنها قفزت بغة إلى الهواء، فاغتنم جدي الفرصة هذه... فأدار كوثلة المركب بسرعة  فهوت  على سطح القارب... وأخذت تتقلب كثعبان جريح... إلى أن هدأت حركتها. لم أر في حياتي جمالاً ما يضاهي غبطة جدي، البريئه، وإتلاف أساريره، في تلك اللحظة.. اخذ يرقص بخطوات بطيئة إلى أن تعثر على أحد ألواح المركبة المهمله، وسقط في الماء، ثم تعالى منه ضاحكاً، وإرتقى المركب آخذاً بيدي... رقصنا إثنتينا، تحت أشعة الشمس الذهبيه التي إنعكس بريقها  الوهاج على السمكة فبدت كسبيكة ذهب.

لم نشعر بمضي الوقت... أثناء إندفاع مركبنا المنقاد للنهر... إلا حينما إرتطم بجذع شجرة غارق نصفه في الماء... فتعالى ضحكنا مع خرير النهر .عقد جدي حبل القارب حول جذع أحد الأشجار الكثه المتراصة جنباً إلى جنب. ساعتها إنسابت الريح بعذوبة بالغة، بين أرومة الأشجار.... ظللنا نتوغل طي الغابة... تحت ظلالها الداكنة فتناهي إلينا حفيف الأشجار، وإندفاع النهر القوي، وصوت تكسر الغصون اليابسة تحت إقدامنا... كنت ألمح، لفترة وجيزة، بعض الضفادع، وطيور غريبة تطل فجأة ثم تتوارى كالثعابين متوحدة مع لون الأشجار... كان جدي يتحدث دون إنقطاع، ونحن جلوساً في الغابة تلك. لم أنتبه إليه، وحينما لاحظ شرودي عكف عن التحدث، وأخذ بيدي وأجلسني قبالته على كومة أعشاب يابسه، ريثما يهدأ النهر، فنرجع مجذفين.

لكم أحب جدي قريته، وقبيلته، غير أنه لم يجعلها قبيلة مختاره كما صنع الآخرون، ظل يذكرني بأن الكل يرى في ذاته، وعشيرته الجنس الأسمى... ثم شرع يقص عليّ قصة من مأثورات القرية حفظتها عن ظهر قلب(

 في عهد قديم حيث كانت الأشجار تتناغى في الليل، وتنفلت العصافير من أوكارها، والقنافد لتحتكم إلى الأسد الكهل... في ذلك الزمان هبطت روح    أشول من سماء الجدود، على حين غفله، لتأنس بالماضي السحيق وتصغي لهدير قطيع الأبقار مندفعاً على السهل، ولتجمع العشب الرطب، وترقص عارية تحت المطر، ثم تحث السير إلى الأكواخ العتيقة خوف حلول الظلام. عندها إغتاظت روح الأجداد فوق عرشها الإستوائي وأعلنت اللعنه على "أشول". ولم تتفق فيما بينها حول أمره فإستشاروا التوتم المقدس.... راعي أرض الجدود والأبناء، ومبارك أحلامهم...قال أحدهم أيها التوتم الجليل، لقد بارحنا (أشول) في الخفاء إلي حلّ الماضي، دون أن يخطرنا، فنزوده بالوصايا إلى صغارنا متفيئة الشجر الحفيّ، ونساءنا الأرملات، ايه لو يأتنا من هناك، بكأس مغدفةً من ماء النهر المقدس... أيها التوتم الجليل لقد حقت اللعنة عليه.. ها نحن أقعدنا التفكيرفي ما نصنع به. في خضوع تام أنحت روح التوتم الجد، ثم إنصرفت دون أن تدير ظهرها له... قالت روح جد ثاني... مبارك أيها التوتم المقدس مبارك عدلك بيننا، وما تقضيه في شأن (أشول) الخائن... ماهكذا يغدر الأخ بأخيه... يبارحه دون وداع، خيفة أن يثقله بطلب ما ...  وهل كنا نود سوى السلام... السلام من أرواحنا المتشببة شوقاً إلى فوضى الغاب الجميل، إلى نساءنا المتطيبات..  يطحن القمح بسواعدهن القويه... إلى نبيذنا المعتق في الجرار... ما كنا سنثقله بشئ. غير أقداح من سلسبيل نهرنا المقدس... لنتقوى به على التذكار... ثم إنحنت روح الجد الثاني، بخضوع... وإنصرفت دون أن تدير ظهرها له.غاضبة قالت روح مصارع

 توتمنا المقدس، لقد أساء أشول إلى تسامحك، وتقريبك له... فأعلن تمرده عليك، ورفض بقاؤه بيننا فهبط إلى الأقاصي... أيها التوتم المقدس، سدى أن تنتظر إيابه، والتآمر عليه في غيابه... لذا أستمحيك الإذن بالهبوط إلى الأقاصي... حلّ ماضينا، فآتي به أو إقتص منه، حيث ثقفته، لقد إستحق اللعنه لهبوطه... من منا لا يود الرجوع ثانية... مبارك أيها التوتم المقدس هلا أذنت لي بالهبوط قبل أن يعلن أشول عودته بين الأبناء هناك... فيختصونه إلهاً بدلاً عنك فيظلم حلّ ماضينا وتنبجس الدماء، ويطوق الغرباء. هلا أذنت لي بالهبوط... فقد خبرت الحرب، ولي اكسير في الدم  ثم إنصرف، بتهذيب ... بخشوع جم نظرت الأرواح إلى التوتم... وهو يقول

كلكم يود الأوبة إلى الأقاصي. وتظاهر  بمحبتي، ورغبته الجارفة في البقاء، جوارى في مملكة الأرواح... ولكن ها أنتم تنقضون عهدكم فمنكم من يسعى إلى نيل الخلود، بشربة من النهر المقدس، ويؤثر الهبوط قبل أن يرتد طرفه... منكم من يود نسيان حزنه، برشفة من النبيذ المعتق، وآخر تشده الدماء، أيما شد، فالتهبطوا جميعاً إلى الأقاصي تلاحقكم اللعنه، حيث ثقفتم، إلا أشول فإنه كان صادقاً، جريئاً لم يماطل، ويكتم خبثاً مثلكم... لقد هبط وأعلن تحديه، صراحةً فليهنأ في الأقاصي... ملكاً عليكم والأبناء.

 مذعنة باركت الأرواح التوتم ثم هبطت إلى حلها الإستوائي جوار النهر... منذ ذلك العهد... حيث كانت الأشجار تتناغى في الليل، وتحتكم القنافد والطير إلى الأسد الكهل، ساد أشول قبيلته برمتها... ويقال أنه لا يزال يحكم هناك ... يحظى بلقاءه من شغف قلبه، بحب موطنه.)

وسط هذه الغابة التي تراءت كبحيرة طي صحراء كنت استمع الي نيانجور. وهي ساهمة في الافق المفتوح خلف الغابة .قالت مواصلة حديث جدها(

بنيتي فلتصغي مليا إلى ما رواه الرث مجوك وهو مقتعد، في الليل صخرة كساها الطحلب بلون شذري، وسط العشب البليل، ولفيف أشجار الجميز، على مقربة من النهر

ابنائي إنني ذاهب مع أدراج الرياح، كما الجدود، ولن يبق من ذكرى سوى قصصا ما تلوكها الألسن. أبنائي تحت هذه الأرض يجري دم مبوء، ستقاتلون من أجله، فتقاتلون دفاعا عنه وعنكم، إلى أن تستمرون قتال بعضكم لبعض وتكون فتنة بين القبائل. مالي أراكم تضربون في التيه؟ ثم خط الرث بعصاه على الأرض خطوطا متقاطعة، ونظر إلى النجوم التي بدت كأقراص ملتهبة وقال: الأمر أعظم من بغض غيركم لكم، وإحكامهم للسلاسل حول سيقانكم. أعظم من ترككم لتوتم القبيلة وتمجيدكم للصليب والبيض. سيأتي اليوم الذي تأتمنون فيه من تثقون فيه وحاشيته. إلا أنهم سيزكنوا إلى مطامعهم كشأن المتآمرين هناك،  ثم أشار  الرث بعصاه إلى الأفق المفتوح خلف الغابة. في تلك اللحظة كان النهر يمور بحدة ويلفظ الطمى كالسمك الميت، وهو متجه شمالا)

.صمتت نيانجور بغة ونظرت الي دخان حريق متسامق خلف الغابة.

 هي الحرب تشعل نارها في الغاب,فتحرقه وحيوانه والمراتع.

 

واصلت نيانجور حديث جدها وقد اكتسيت ملامح وجهها بحزن شفيف

(هم الساهرون رماة الحدق، برماحهم التبر _المروى_   .با لعشب النهري   مغدقة اكواخ القرية  .غابة من حريق وغزالة مفزعة.  نسوة يتمايسن كالقصب البري في مهب الريح..هي  السماء جاحدة بالفصول  .قلبي عليك قريتي حل الأستواء. جراح ورسوم ونقوش رجل أفرده الخوف يلوح بالعبور، أمة معطوبة وسواعد من خشب. تكاد تترجل الأواني المعلقة ، القووس، والبومة المحنطة . أتذكرهم؟ هؤلاك الملوك الحائطيون، وريح مدله يطعن خاصرة النهر.....يطلي بريشته  الموج  ؟ ربما تستنطقهم ذكرى السلاسل والبوق النحاسي ململم آخر المحاربين الأقوياء. هو الزند المطوق بالتمائم ووشم ملكي على الجبين من يراقص بندول الموج بعد؟ النوارس بارحت والحالمون  ّّ!

ايه فردوس قريتي! هو الأبنوس عاري مكتسي باهابه. رب  أطلال كنيسة تتناسل وتكون على عدد الأشجار. دقات الطبل تنتظم الساحة بالفتنة الهائجين خلف القطيع. رب  توتم يتدلى فتنفرط الأساطير من سمر الجدود. قافلة تتراقص في قرص الشمس قافلة العرق الأنقى مثقلة بالعاج بالتاج وهزبر مقتول. .مساء غريب يلتحف الدرب , يهدهد على ساعده قريتي خل الاستواء  . رضيع يتوحد بالحزن يفتتح حياته بالذكرى. هاهو الحاجب المتعب بباب المدينة, والعمى  وفوضى الضياء..من يقتفي من؟ ، حذاري! شراك فهود وألغام تتوالد في لحم الأرض. هو النبيذ المعتق في الخوابي ونسوة ماهرات يتحدين بالكأس العشرين الندماء. مولود ذو شأن يلقى في النهر، يقول وداعا أيها الجنوب الذي أفقده سيكون بعدي لغط كثير.  كقناع مهرج تسقط الحرب فناعها  يستيدر العذاب تطول الحظوظ، العاثرة . وفيلق لا ينام. قلي عليك قريتي حل الاستواء!بالعرس البربري ، محاصرة سماءك والنهر....نهرك المقدس استقال ! ماله استمرا الالتفات!!! قدما يسير إلى الوراء، ماله!

عجبت كيف حفظت نياتجور كل مأثورات جدها وقبيلتها .

نهضت مشرعة ساعديها، كأنها تود عناق غائب عزيز، عاد، ثم شرعت ترقص تحت المطر الذي تجمعت غيومه بسرعة. كانت تتثنى بقامتها الأبنوسية اللامعة. فالتصقت  _تحت المطر_ تقاطيع جسدها وتكور أثدائها على تنورتها  المبتلة. كانت وكان المطر بصوته الثاقب وفوضى الغاب الجميل. ساءلت نفسي ساعتها عن جدوى الحرب التي دعتنا إليها بشعاراتها الغامضة "الجهاد وحدة التراب وقمع التمرد.... ساءلت نفسي  عن رفاقي الجنود اللذين سقطوا في جبهة القتال، مخلفين وراءهم إيتاما وذكرى. "الحياة حلوة وثمينة لو ندرك كنهها. هكذا أفضي الي  أحد الجنود  وهو يعالج سكرات الموت.في جبهة القتال . كان الافق حولنا ممزق بدوي الطلقات الطائشة وقصف المدافع لاندري من اين يثب الموت.القث عيناي مصرع عديد من رفاقي الجنود وبعض الذين ناشدونا متوسلين بان نطلق عليهم رصاصة الرحمة تحت وطاة جراحهم المروعة

 

_اضغط علي الزنادا ازرني لم اعد اطق مرارة الالم

 

_اصبر لاتياس بحق السماء

 

كان هذا كل مانملكه لتضميد جراحهم

 تبدد كل شيئ من حولي وذكريات الحرب وجنون البطولة حينما  ابصرت نيانجور راقصة امامي في دعة   ولااكتراث. اعتراني وله فوددت ان اراقصها  فنذوب معا، كتمثالي شمع، تحت قرص الشمس الملتهب.وددت الا ان جرح رصاصة في كتفي اقعدني  بقدح المه ووخذه رغم تضميد نيانجور له.

كنت أبصرها بدثارها المبتل، وهي راقصة تحت المطر وضياء البرق المتقطع فبدت  بين الظلام  والضياء، كفراشة حائرة. هنا التقيتها... "نيانجور" حواء الأزلية المتأبية، التي لم يهبن لها قدري إلا كقربان في جبهة القتال. وأنا محاصر تحت قبة السماء الإستوائية بلفيف أشجار الجميز،وأعشاب المانجروف "الطويلة الكثة، ورائحة الطمى والصفق المبتل

طافت بذاكرتي أبيات شعر حفظتها منذ أمد قديـــــــــم:

عند الغروب

عندما يضج الدم

في عروق غابات قصية

ذينك ذات الظلال الداكنة

عندما

تلتحف السماء

بزي حريق خافت

تؤوب الئ اوكارها

  طيورافريقيا

ويبدأ ثملا

\ حوار الليل

من عقد اللغة

تنفرط الكلمات.

جلست نيانجور بهدوء لصقي وقد اوهنها الرفص ووخذ المطر ثم تابعت حديتها

(لكم أغدقني الحنين لرؤية جدي وأبي والتوج في (واو) الذي كنت أرتاده وقتذاك. لا أدري ماذا صنعت الحرب بعد بأمي، وعما إذا كان أبي على قيد الحياة أم أهلكه المرض، والكبر! لم يكن يهاب الموت ككل محاربي القبيله، فنشأ أخي على مقولته، توهب الحياة لمن لا يحرص عليها.كان اخي عاطلا عن العمل ككثير من ابناء الدينكا اثناء اندلاع الحرب في الجنوب.ظل يتكسب من اجور يومية زهيدة الي ان تبرعمت المقاومة هناك في الاستوائية,مغرية ابناء الدينكا ومحاربي القبائل بمستقبل زاهي وكفالة من العوز والتسيب ,فانضم اخي اليها. كنت احس بتفضيل ابي له علي شخصي ,لا ادري لماذا بحق السماء! ما من مبرر او سبب.

 رغم تزوج ابي بنساء عده قبل أمي، وبعدها غير أنه كان يؤثرها عليهن كما يبدو فكم كان يعود من معسكر الأبقار ليجلس معنا إلى منتصف الليل. لم يكن يعر طقوس القبيله والحراب المقدسه، والزعامه إهتماماً مثل حبه لقطيعه وقطعه المسافات الطويله، راجلاً مترنما. ً

حينما شعر جدي بنفوري منه، لتزوجه على أمي، وتظاهري بالنوم حين قدومه، حاول تزكيته بالكرم وحبه للسلام كاللعرب ، إلا أن بعضهم كانوا  يتاجرون  بالأخشاب وجلود الفهود، والعاج على الشريط الرعوي الفاصل بيننا وبينهم. كان جدي يحذره من مصاحبة العرب، وائتمانهم، خيفة أن تتربص القبيلة به، إلا أنه كان يجيد الحديث ولا يفتأ يحوره، ليبرر هفواته.. حتى لقبه جدي ( بالحرباء ). كنت أحسه كالغريب بيننا لا سيما حين يحتد النقاش بينه وبين أمي... إلا أنها كانت تطيب خاطري وتقول لي بأنه كغيره من رجال الدينكا1 مزواج، ومزاجي ... وأنه ما من ثمة سبب يحملني على الحقد عليه، فقد تزوجته دون إكتراث بشعور زوجاته الأوائل... وهكذا تقبلته، حينما تزوج عليّها... كانت تتحدث كأن لم يكن شيئا.

لقد تزوج أبي بخمسة نساء، كلهن من اسر  فقراء الدينكا. لم يكن ذلك محض صدفه، وإنما لعدم توفره على قطيع أبقار ضخم يفدم جزءا منه كمهر لهن .ظللت أرافقه في مراعي القرية، فقال لي في ذات مرة ، من لا يملك بقره لا يملك إمرأه.... لم أفطن إلى ما أسر به إلي إلا حينما أردت  مدرسة يقوم على أمرها رجال الكنيسة. قال القس لنا، في حديثه عن الدين المسيحي بأن الإنسان لا يقيم بأي شيئ. فتذكرت قول أبي "من لا يملك بقرة لا يملك إمرأة". فأخبرت جدي بالتباث الأمر علىّ، فقال لي: إبنتي ثمة من لا يفهم كيف نعيش، أو لا يريد أن يفهم... لا عليك إن أباك ككل أبناء الدينكا. وأشجار الغابة تلك تنمو كما الأخريات، وتشيخ مثلهن. حينما أبت من الخرطوم، لم يسألن أبي، أين كنت أو ماذا صنعت في غيبتي. إبتسم إبتسامتة الباردة تلك، ومسح بيده الخشنة على خدي، ثم إنصرف. سألت أمي عن كنهه الغريب، فقالت وهي تنظر في كفها كأنها تستقرأ قدراً: كثيراً كنت أسأل نفسي عنه، عن كنههه، لا سيما حينما يكتمل قرص القمر فتومض عيناه، فينشد مأخوذاً بشيئ ما ويهمهم ببعض أسماء رفاقه، قتلى الحرب. كنت أمنّي نفسي بأنني زوجته الوحيدة، فأحسبه  دافئاً كالحليب المتدفق من ضروع الابقار 

ثمة إحساس ما انتابني، بأنه شخص آخر... حرباء كما وصفه جدك. لا أدري ربما هي الحرب التي تميت شعور الرجال، ربما...

                                   

صمتت نيانجور وقد كان  صوتها الاسر طوال حديثها يتناهي  الي   مسمعي بين تحفاف الشجر  كنداء بعيد  . كيف استحالت الحرب الي سلام في هذا المساء بحق السماء! كيف استحالت نيانجور جندية في المعارضة الي مدنية تضمد جراحي ,ؤانا جندي من السمال مناهض لتنظيمها¬¬!انها تعلم كل هذا واخطاء الحرب وفدرينا.نظرت الي نظرة عميقة فهممت ان اعانقها .. وافض لها ما يختلج في  دواخلي  الا انها نهضت قائلة

_ لانتعطف يسارا فوحداتنا المعارضة بالمرصاد 

,تم توارت بين الاعشاب الكثة الطويلة مقتفية شعاع مصباحها اليدوي الكابي وهو يطلي بساط العشب بلون تبري . تابطت سلاحي وذخيرتي  وسرت يمينا ناشدا كتيبتنا عند طرف الغابة بين المتاريس وتخوم قرية مهجورة .سرت قدما   وخواطري  ترتد بي الي الوراء مقتفية اثر نيانجور.

  

 

فازب هذه القسة ضمن اعمال ادبية اخري بجائزة من منظمة اشتراوب الالمانية,كما قرء جزء منها بالالمانية في دار ثقافات العالم ببرلين

 

                      امير حمد

                          كاتب وصحفي سوداني مقيم ببرلين

.

إشارات:

 

الرث : هو الزعيم الروحي للقبائل النيلية بجنوب السودان

التوح: منخفض في المرتفعات العالية تتجمع فيه مياه الأمطار

رماة الحدق: هكذا وصف العرب الفاتحون نصف ساكني شمال السودان (النوبا) لإجادتهم إصابة الهدف.

مروى: اسم مدينة أثرية شمال السودان، حاضرة مملكة مروى

المقطع الشعري المذكور هو جزء من قصيدة للشاعر صلاح يوسف                              

 

آراء