نساء أمدرمان زمان وما بعده

 


 

 

أمدرمانيات


لو عاد بنا الزمن الي قرن مضي وأبصرنا أجساد أجدادنا الطاهرة من الأنصار الشهداء التي امتلأت بها السهل والجبل في كرري والذين قضوا نحبهم دفاعاً عن الوطن الغالي وعقيدتهم الأغلي مستعذبين الموت وكأنهم يستقبلون حبيباً غائباً بينما الردي ينصب عليهم انصباباً كغيث غزير من أفواه آلاف البنادق والمدافع الرشاشة التي كانت الأحدث في العالم من آلات القتل والدمار ومنها مدفع المكسيم الرشاش والذي أستعمل لأول مرة في الحرب ، وحصد هذا السلاح مئات الأنصار من علي البعد ولم يكونوا يمتكلون ازاءه غير أسلحتهم البدائية من السيوف والحراب والبنادق العتيقة التي غنموها من جيش الغزاة في شيكان في كردفان بقيادة هكس والذي أبادوه سوي القليل منهم ، وكان يشق أجواء كرري هتافاتهم الهادرة (لا اله الا الله – الله أكبر – وفي شان الله) ، وسارعوا متسابقين ولم يترددوا أو يفروا ولم يديروا ظهورهم لعدوهم ، وكأن الجنة صارت قيد أنظارهم فاتحة أيديها للترحيب بهم ، وصارت شجاعتهم وجسارتهم أمثولة تُحكي وأنشودة في فم الزمان والناس .
وأشاد بها الأعداء قبل الأصدقاء ، وكتب عنهم تشرشل والذي أصبح رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالمية الثانية وكان شاباً وحضر
المعركة مراسلاً حربياً بصحيفة التايمز البريطانية ، وكتب عنها كتاباً بعنوان (حرب النهر) The River War ، قال فيه ( إننا كسبنا المعركة ولكن النصر كان للأنصار) .
وقال عنهم نعيم شقير في كتابه تاريخ السودان (ص 943) ( عرفت الواقعة بواقعة الخرطوم وواقعة أمدرمان وواقعة كرري وهي أكبر واقعة رأها السودان منذ قام العالم ، ولقد أظهر السودانيون فيها من البسالة واحتقار الموت والاستهلاك في سبيل الغرض ما لا نزيد عليه ).

ودامت المعركة سبع ساعات وانتهت بإستشهاد عشرة آلاف رجل وجرح مثل ذلك أو أكثر ولقد استحدم فيها الجنود الانجليز والمصريون رصاص (دمدم) المحرم دولياً مثله ومثل الغازات السامة ، وقد غطت أكداس جثث الأنصار سهل وسفح جبل كرري ، ومن بقي من الرجال انسحبوا مع الخليفة عبدالله ووقفوا وقفتهم الأخيرة واستشهدوا جميعهم في أم دبيكرات ، ومن صور البطولة الرائعة أن الخليفة عبدالله علي صهوة حصانه ظل يطلق النار علي الأعداء من بندقيته حتي احمرت والتوت من حرارة النيران بينما الأمير أحمد فضيل يحيط بالخليفة ويطلق نيران بندقيته في كل اتجاه وهو يقول بصوت عال (يا الله نصرتك) ، ويكررها عدة مرات ، وترجل الخليفة والخليفة علي ود حلو وافترشوا فرواتهم ليصلوا ، ونادي الخليفة علي أحمد فضيل قائلاً ( الله ولا أطرش يصيحوا ليهو متل ده – صل صلاتك وموت موتك) ، واستقبلوا الموت ببسالة ينحني لها التاريخ اجلالا واكباراً.
وعقب هذه المجزرة الدامية في كرري خيم الحزن الممض والحسرة الاسية والبكاء وعويل النساء أرجاء أمدرمان وخرجت النساء مهرولات الي كرري يبحثن عن ذويهن بين جثامين آلاف القتلي ، وأخذن جثث شهدائهم ورجعن بها الي أمدرمان حيث واروها التراب .
وصارت أمدرمان مدينة يسكنها النساء والأطفال والجرحي المقعدين من مجاهدي الأنصار ، وتحملت النساء إعالة ورعاية وتربية الأطفال وصرن يتكسبن من بيع ما تيسر من أشياء بسيطة مثل الطواقي والمناديل المطرزة .
وأذكر ونحن أطفال في الأربعينات من القرن العشرين أنه كانت تأتينا في المنزل امرأة عجوز تعدت الستين من عمرها تحمل قفة تبيعنا منها الفول والقنقليز والنبق والتمر ، وهي من النساء اللاتي عشن بعد المهدية وبعد واقعة كرري ، ولقد فقدت عائلتها وأصبحت وحيدة وتعيش في (دردر) وهو قطية من الطين لها باب صغير وفتحتان في أعلاها كنافذتين ، وكانت بيوت الدرادر ما تزال منذ المهدية موجودة في أمدرمان ومبثوثة بين البيوت الطينية ، وكان ما يميز حبوبة (أم جدوداً مية) ، وهكذا كانت تسمي نفسها وكانت فارعة الطول مرهاء نظيفة الثوب الأبيض والفستان الأبيض الطويل بأكمامه الطويلة وتغلب علي لغتها العربية لهجة عرب دارفور وكردفان وكانت امرأة لطيفة حلوة الحديث .
ورجل آخر كان يكسر الحطب الذي يستخدم في طهو طعام وعواسة الكسره بإشعاله ووضعه تحت الحلل أو الدوكة ، وكسار الحطب ذاك كان يسمي (جدي دراج) ، وهو من جرحي مجاهدي معركة كرري وكانت كلا ساقيه مكسورتان ويمشي بصعوبة حاملاً فأسه علي كاهله وكان يكسر الحطب لأهل الحلة وهو جالس علي الأرض وكان من التعايشة ، واستبدل جُبة الدراويش بعرّاقي وسروال من الدمورية ، وكان يأتي الي منزلنا لتكسير الحطب ، وما زلت أذكر عينيه الثاقبتين وصوته الجهوري ، وكنا ونحن أطفال نقلد صوته فيما بيننا .
وتولت نساء أمدرمان تلك المسئولية الجسيمة من تربية واعالة فأنشأن رجالاً ونساء صالحين وصالحات في كل المجالات ، فعوض الله أبناء وبنات الشهداء خيراً كثيراً في هاته النسوة الأمهات اللاتي قمن بمهمة التنشئة والتربية خير قيام .
وعندما تقدم بهن العمر وصرن حبوبات (جدات) كانت لهن القيادة والمشورة في كل عائلة والتي استحققنها عن جدارة واستحقاق .
وتعاقبت أجيال وأجيال من النساء في امدرمان ولعله قد ورثن جينات النضال في دمائهن وظلت أشواق المقاومة كامنة في صدورهن وتفجرت في اشتراكهن في المظاهرات مع الرجال ضد المستعمر وذلك بإصطفافهن علي جانب الطرق التي تمر بها المظاهرات واطلاقهن الزغاريد وكلمات التشجيع للمتظاهرين .
وبإنتشار التعليم والوعي اشتركن فعلاً جنباً لجنب مع الرجال في المظاهرات وامتدت مشاركتهن لاحقاً الي النضال ضد المستبدين والظلمة من حكامنا السودانيين في اكتوبر وابريل وما زالت مستمرة الي مقاومة النظام الحالي وإن تنوعت أساليب وطرق المقاومة .
أمة هذي نساؤها لن تضام ولن تذل .
هلال زاهر الساداتي
Helalzaher@ Hotmail.com

 

آراء