نستحضر الغياب .. عن ذكرى رحيل محمود درويش وايزاك هيز

 


 

 

عفو الخاطر:
أنا الذي نظر الاعمى الى أدبي
واسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملئ جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
"المتنبي"

مبدعان اثنان غادرا الى ربى الخلد منذ أربعة عشر عاماً في مدينتين من مدن الجنوب الأميركي الذي تصدح فيه الابواق حزناً تارة وفرحاً تارة اخرى، همساً ذات مرة وصخباً مراراً وتكراراً؛ وتهتز فيه الطبول عند ما تحدث عما جرى وما زال يجري في كوخ العم توم الذي تركته الريح خلفها ولم تذهب به فهي ما استطاعت حمله. سكنت دقات قلبيهما باكراً وهما في أوج العطاء فلم يصد غائلة الموت رنين الكلمات، ولا صوت التطريب والترعيد. رحل محمود درويش بعيداً عن فلسطين، ثم عاد اليها محمولاً على الاعناق ليواصل غنائه للأرض الطيبة من مرقده، وترجل ايزاك هيز هنيهة ثم سافر مع ألحانه الى جمهورية فيلا كوتي وحط رحله هناك. عاد الى النبع مرة أخرى يرتشف من مائه ما يطفئ ظمأ الاخرين! حبس الناس انفاسهم لما علموا أنهما لفظا انفاسهما الأخيرة.

فيما يلي رسالة بعثت بها الى صديقي السفير الاديب جمال محمد إبراهيم في الذكرى الثانية لرحيل المبدعين، ثم توقفت فيها عند مبدع ثالث وثائر قوي الشكيمة، ماضي العتاد، ذخيرته لا تنفد، بل تنفذ حيث صوًب. فيلا كوتي لحن وعزف وغنى وقرن القول بالعمل حتى الرحيل الابدي. ما زالت أغانيه تلهم الكثيرين في بلاده والجوار ويتردد صداها في بلاد بعيدة ترتجف برداَ لولا دفء لحن من الحانة. مؤخرا زارني ضابط في الجيش الكندي من الجيل الثاني من المهاجرين النيجريين ينتمي الى قومية الايبو في جنوب نيجيريا التي انخرطت في حرب بيافرا ستينيات القرن الماضي وسلمت قيادها الى الكولونيل اوجوكو، وحيث يتدفق النفط انهاراً وتتبخر عوائده لتمطر مدراراً في مصارف اروبا.

كان متشائما من استمرار صمود وحدة البلاد التي ولد فيها، وكان لدهشتي أنه يعرف دقائق ما يجري هناك، وتاريخ البلاد وسكانها ومجموعاتها القومية وما يتصل بها من احقاد دفينة وجراح غائرة لم تندمل بعد، وهو أمر ينساه أو يتناساه، ليس الجيل الثاني من المهاجرين فحسب، بل المهاجرون أنفسهم. قال: إن الذنب يقع على المؤسسين بعدما خرج الاستعمار. أليس هذا ما حدث في السودان أيضاً؟ كان حزيناً لما يجري في النيل الأزرق. قال ان الهوسا أمة طيبة، مسالمة، ولاؤها دائماً للأرض التي احتضنتها، الا انها لا ترض الضيم ولا تقبل الهوان، ترد على العدوان أضعافاً مضاعفة؛ أسست ممالك زاهرة ونشرت الإسلام في بقاع بعيدة وهو دليل سلام ومسالمة، وأنا المسيحي أقول لك، كان ذلك ميراث حضارة وثقافة نفتخر بها. الهوسا أمة ممتدة ليس في أفريقيا فحسب، بل عبر البحر في جزيرة العرب. أقامت واستقرت وأصبحت من نسيج مجتمعات تلك البلاد، ترفده بالعمل والأمل. ثم فاجأني بالقول إن أفريقيا في حاجة الى فيلا كوتي، بل عشرات من أمثاله لترتقي الى مصاف الأمم وتترك صفوف العشائر المتناحرة:

السفير الأديب الأريب جمال

في البدء، أرجو المعذرة عن تأخري بالكتابة إليك خلال يومين كما وعدت.

ملومكما يجل عن الملام ووقـع فعـاله فـوق الكلام
ذراني والفلاة بلا دليـل ووجهي والهجير بلا لثام
فإني أستريح بذي وهذا واتعب بالإناخة والمقـام

لكن غدرت بي علة ظننتها مما يطرأ في الصيف عارضاًً ثم يزول بُعيد أيام قلائل، الا إنها تمكنت مني، حينما أخذتني على حين غرة. وهي ليس تزور في الظلام وحسب، بل تمضي اليوم كله؛ لا تستحي من ضوء الصبح وهو يغري بها، فلا تنثني، بل تتمدد أثناءه في أنحاء الجسم، عظماً ولحماً ودما. ثم تهيّج العصب وتشعل العيون والجفون لهبا، وتضرم النار في الجلد سياطاً من سعير. بذلت لها المطارف والحشايا كما فعل أبو الطيب، وأمطرتها بعصائر من حمضيات المتوسط لا تتوافر الا في الشتاء، جلبتها من هنا وهناك فلم يرقها، بل زادت من ضرامها، حتى إذا ما أيقنت أنها قضت حاجتها آثرت الرحيل بعد أن أنهكت الجسد وذرته ضعيفاً واهنا. لذلك تجد الحديث في هذه الرسالة مرسلاً، بلا ترتيب، لا ينتقي، فيه من كل نبع قطرة.

فاتت، في الأيام القليلة الماضية، الذكرى الثانية لغياب مبدعين، رحلا في اليوم ذاته وبالعلة ذاتها، وفي عمر يكاد يكون العمر نفسه، كلاهما ناهز الخامسة والستين. غادرا الفانية في بلد واحد، ولكن في مدينتين من مدن الجنوب الاميركي. أحدهما رحل في ممفيس بولاية تنيسي بالجنوب الغربي من الولايات المتحدة الاميركية، والآخر بهيوستن، عاصمة صناعة النفط في أميركا.

حينما ولجت البيت ذلك المساء، كانت ملامح وجهي وعبوسه تدل على حزن وأسى، حاولت جهدي إخفاءه فلم أستطع. كان ابني ورفاقه هناك. هم في بداية العشرينيات. عاجلني جعفر بالسؤال عما يضيق به صدري. قلت له رحل اليوم مبدعان تركا أثراً في عالمنا وأثريا ثقافتنا حتى آخر رمق في حياتهما؛ لعلكم تعرفون العربي منهما فلن أحدثكم عنه كثيراً، أما الاميركي فقد كان ممن طرب له جيلنا، ولا أحسبكم تعرفونه. لكن الدهشة ألجمت لساني حينما أخذوا يحدثونني بتفصيل الخبراء والعارفين – والألم يعتصرهم – عن آيزاك هيز Isaac Hayes، أيقونة موسيقى "العاطفة والروح Soul" وملك ملوك أغنية "التناغم وايقاع”R&B”العِرق Rhythm & Blues” والروك آند رول. الا أنهم (وكلهم من ديار العرب) لم يتعرفوا، للأسف الشديد، على محمود درويش. أحدهم ذكر انه سمع به من قبل لكنه لا يذكر في أي فن من الفنون كان ناشطاً. كنت قد أعددت نفسي لأحدثهم عن آيزاك هيز وأترابه عمالقة موسيقى تلك الحقبة من الزمان أمثال استيفي وندر وآل قرين وجيمس براون، فأمسيت أحدثهم عن محمود درويش وصاحبيه، سميح القاسم وتوفيق زياد، الثلاثي الذي ظهر بعيد هزيمة 5 يونيو/حزيران 1967. ثم توقفت ملياً عند توفيق زياد وديوانه “أم درمان: المنجل والسيف والقلم" مستحضراً قوله:

أعطني حبة سكر
منذ عامين وفي حلقي مرارة
أعطني حبة سكر
"أم درمان" تناديني
وفي قبضتها سيف معطر
وأنا أشعر نفسي سيداً
ينهى ويأمر
رايتي تكبر في الشمس، وتكبر

طلبت من جعفر أن يقرأ هذا الديوان فقد يشعر من خلال ذاك الفلسطيني الجميل بأم درمان التي لم يرها قط حتى الآن. لكن هذا الجمع من حولي أدار دفة الحديث، بعد هنيهة، نحو هيز وموسيقاه. تحدثوا عنه بلهفة العاشق وولع المحب المتيم، فكان وهج الحماسة يندفع مع كل خلجة من خلجاتهم، لا سيما حينما يتكلمون جميعاً في وقت واحد، فتحسبهم من أبناء جيله وهم ليسوا كذلك!

في سبعينيات القرن الماضي ذهب هيز الى لقاء "فيلا انيكولابو كوتي" في لاقوس، بحثاً عن جذور موسيقاه وأغانيه. غنى هيز مع هذا المتمرد الفريد والثائر الملتزم بما يؤمن حتى الموت كما لم يغن من قبل. هناك وجد نبعه الصافي، وأكتشف الحبل السُري الذي أمد أفارقة أميركا عن بعد بألحانهم وشعرهم وأغانيهم وموسيقاهم وقرع طبولهم وأصداء أبواقهم. هناك وجد أيضاً وادي عبقر يمتد أمامه متمثلاُ في فيلا كوتي وفرقته وأنغامه. الإيقاع الأفريقي أو الافروبيت Afrobeat الذي استلهمه فيلا كوتي من بيئته القديمة - المتجددة فتحت أمام كثير من مطربي السول والجاز والروك آند رول ينابيع الأصول، وكان هيز منهم.

حينما أعلن فيلا كوتي استقلال "جمهورية كالاكوتا" التي أسسها في حي من أحياء لاقوس وأنشأ فيها مستوصفاً طبياً يقدم خدمات علاجية للجمهور بلا مقابل، ومحترفاً فنيا لتسجيل الأغاني والموسيقى، وفوق هذا وذاك، بؤرة ثورية نشيطة، تمتلك وسائل اتصال بالجمهور يستعذبها العامة، ويردد شعاراتها، طرباً، البسطاء من الناس، أصبح الصدام مع السلطة والعسكر لا مفر منه. تحيّن هؤلاء صدور أغنيته الأشهر (زومبي) التي هاجم فيها الجندرمة وسخر بها من العسكرتاريا لينقضوا ببساطيرهم وبنادقهم على جمهوريته فيدمروها تدميراً تاماً ويقذفوا بأمه من الشباك، كما قطع الأثاث، فتدخل في غيبوبة ثم تموت. مصير كالاكوتا لم يصبح مثل مصير كومونة باريس، وجمهورية الإسكندرية التي أسسها الثائر المصري حسني العرابي في العام 1908، فورة سرعان ما هدأت، وشرارة لم تنطلق حتى خبت، وفقاعة تبددت. فرغم إن عنف عسكر نيجريا ضد هؤلاء الفنانين الحالمين كان منقطع النظير، تمالك فيلا كوتي نفسه وعض على جراحه، سائراً فوق ساقيه المثخنتين بالجراح خلف نعش أمه حتى منزل الجنرال اوباسانجو، زعيم الزمرة العسكرية التي أصدرت أمر الغارة على "جمهورية الفن والموسيقى". مضى – كما تعلم – فيلا كوتي في دربه غير هياب ولا خائف ولا وجل يلملم بقايا حلمه ليطلق أغنيتيه "نعش لرئيس دولة" و "الجندي المجهول" اللتين سرتا في أفريقيا كالنار في الهشيم تستنهض الهمم. أليس اوباسانجو هو من يُطلق عليه اليوم حكيم من حكماء أفريقيا؟! ألا يذكرنا حال هذه الجندرمة بغيرها في أماكن أخرى؟! حاول فيلا كوتي، أيضا، أن يتبع نهج الحكام، فأنشأ حزباً سياسيا يخوض به الانتخابات الرئاسية في العام 1979 بعد عهود من حكم الجنرالات، الا أن ترشيحه رُفض ورد على أعقابه فحُرم من خوض السباق الرئاسي. ألا يذكرنا هذا بما جرى منذ عهد قريب؟

ظل كوتي يخرج من حبس ليدخل سجناً، ومن زنزانة أُغلقت أبوابها عليه بتهم ملفقة الى معتقل بلا سبب حتى وافته المنية؛ لكنه ظل يغني ويغني ويغني. يوم أعلن شقيقه، وزير الصحة النيجيري الأسبق، وفاته خرجت نيجيريا لوداعه. لم تشهد البلاد حشدا متلاطماً يمشي وراء جنازة مثل تلك البتة، لا من قبل ولا من بعد. ويلي سوينكا، الحائز على جائزة نوبل للآداب، هو ابن خالته، كما تعلم. هو أيضاُ طريد آخر!

فيلا كوتي لم يكن همباتياً وليس صعلوكاً على طريقة صعاليك العرب يأخذ أموال الأغنياء غصباً ليقتسمها مع الفقراء

لقد كان صاحب مشروع للتغيير، أيّاً كان رأينا في هذا المشروع وطرقه ووسائله. فقد ترك بصمات واضحة حتى اليوم (على الأقل في الجانب الثقافي)، بل أثر في وتأثر بحركة الفهود السود والقوة السوداء الاميركية، ناهيك عن أنحاء اخرى من أفريقيا وبعض الكاريبي. هل يملك دعاة الافريقانية في السودان مثلاً واحداً ناصعاً يشبه هذا؟ وهل الافريقانية لون بشرة؟ أم هي مشروع تغيير وإضافة لموروث ومساهمة في بناء مدني كان أو حضاري؟ هنالك أسئلة كثيرة تتدافع اليوم بينما السودان يندفع نحو المجهول. ليس المطلوب اليوم إجابة حاسمة قاطعة عن كل الأسئلة المتتابعة، بل حوار جاد ورصين يفضي الى شيء.

لم تكن روث فيرست سوداء، بل بيضاء البشرة، وهي تكافح في صفوف مناضلي جنوب أفريقيا. ليس هذا فحسب، إنما كرست حياتها في سبيل نصرة القضايا الأفريقية كلها. لم تكن روث وحدها في ذلك، بل أفراد أسرتها جميعا، أباً وأماً وزوجاً وكريمات، وفي رواية ابنتها جيليان سولفو (روابط الدم) تفصيل ذلك. سجنت طويلاً، وتركت في الحبس الانفرادي شهوراً، وطوردت سنيناً، ثم اغتالتها قوى الظلام (البيضاء) بطرد بريدي. وصف الكاتب والناشر والمناضل الجنوب الأفريقي، رونالد سيقال، موتها التراجيدي بأنه "أشد أنواع الرقابة فظاعة وقسوة! ذلك هو أن تحذف صاحب القلم من صفحة الحياة!"

أغنت روث فيرست الفكر الإنساني بسيل فياض من الكتابة في شتى ضروب المعرفة، لكن كتابها "فوهة بندقية: سياسة الانقلابات العسكرية في أفريقيا" يبقى فريداً. لم تأبه روث فيرست لسياسة المؤتمر الوطني الأفريقي الرسمية التي كانت تكن العداء لحركة التحرر الوطني الإرترية وتساند إثيوبيا قلباً وقالباً التزاماً منها بقرارات منظمة الوحدة الأفريقية. فقد شاركت في الجلسة التي عقدتها محكمة فيلسوف اليسار الإيطالي، ليليو باسّو، التي عرفت "بمحكمة الشعوب الدائمة" في جامعة لوفين ببلجيكا، وذلك لنصرة الشعب الإرتري. شدت مرافعة فيرست انتباهي أكثر من أي ورقة قدمت حينذاك. محكمة ليليو باسو، كما تعرف، هي النسخة الثانية للمحكمة التي شكلها الفيلسوف البريطاني، برتراند رسل، لمحاكمة جرائم اليانكي في فيتنام.

قرأت في هذا الصدد مقالك الضافي الذي نشر مؤخراً عن السودان ودوره العربي والأفريقي. أرجو أن تسمح لي بأن أزيد عليه أن السودان في (فسحاته الديموقراطية) التي مرت كلمح البصر كان فاعلاً في أفريقيا، لا سيما حركة التحرر الوطني الأفريقي. أتذكر وزير الخارجية المعمم الذي كان يرتدي الكاكولة والجبة؟ أنعقد في عهد الشيخ على عبد الرحمن أهم مؤتمر للتضامن مع شعوب المستعمرات البرتغالية وتلك الرازحة تحت أنظمة الفصل العنصري. وكانت منظمات المجتمع المدني من نقابات واتحادات وجمعيات تقدم في بعض الأحيان نضالها في سبيل أفريقيا على كفاحها المطلبي.

قدم السودانيون الكثير أثناء مسيرة الكنقو للانعتاق من ربقة الاستعمار. ذهب ضباط سودانيون لتدريب ثوار الكنقو، وعادوا بقصص وحكايات تستحق أن تروى. صحيح أن هنالك جانب مظلم عن مساهمة بعض السودانيين في هذا الفصل من تاريخ تلك البلاد، بعضه يتعلق بما تردد طويلاُ عن ذهب ثوارها و "ضياعه"، وآخر عن سرقة وثائق جيزنجا أثناء توقفه في مطار الخرطوم وهو في طريقه الى القاهرة حاملاً خطة مفصلة لإنقاذ باتريس لوممبا والبلاد بأسرها. هذا الجانب لم يكشف عنه الستار بعد. وغير الكنقو قدمت الحكومات الديموقراطية والنقابات دعمها للتشاديين. فقد كان الدكتور أبّا صديق، على سبيل المثال، يأتي من باريس الى الخرطوم ليلتمس الدعم والمساندة؛ ناهيك عن كينيا وبلاد انزوت بعيداً عن الخريطة.

لا أريد أن أثقل عليك أكثر بحديث النقاهة هذا. قد أعود إليك عما قريب لنتحدث عمن رحل في الشهور القلية الماضية وعن حديث "الأدب وقلة الأدب"، وهو عمود كان يكتبه في سبعينيات القرن العشرين الصحافي والناقد الفلسطيني – الأردني، أسامة فوزي في صحيفة ظبيانة. أسامة صاحب قلم مسموم، لكنه خفيف الظل، ليس عنده كبير في هذا العالم سوى البعير.

مع فائق المودة والاعتزاز.

عمــــــر

elsouri1@yahoo.com

 

آراء