نصال تكسرت على نصال: والآن عزت الديب

 


 

 


من أحسن ما يقال في مقام العزاء قولة:"اللهم اجعله آخر الأحزان" وهي كلمة حلوة تعرب عن أمنية جميلة لكنها عسيرة التحقيق فقد كتب الموت علينا جميعا وما دمنا أحياء فلا بد إن يفجعنا الدهر في أخ  أو أخت أو صديق فتعاودنا أحزان جديدة أشد وطأة وأكثر مضاضة.ويظل ذلك دأبنا مع الدهر   إلى أن يستفرد بنا ذات يوم فنذهب عن الدنيا ويكون ذلك –حقيقة لا مجازا- آخر ما رأينا من أتراحها وأحزانها.ولا جديد في ذلك فهو سبيل الأولين والآخرين إلا أن الآلام تتضاعف حين يرمي الدهر بنباله خبط عشواء وبتواتر وإسراع كأنه مكلف بإخلاء الدنيا   من أهل الفضل والمرحمة.
هكذا كان الحال يوم فقدنا حبيبنا وشاعرنا سيد احمد الحردلو وما كدنا نستغفر ونستعوض الله فيه حتى فجعنا بنجم آخر من نجوم الدبلوماسية السودانية هو السفير محمد العباس ابا سعيد عليه الرحمة والرضوان سفيرنا الأسبق لدى لبنان الذي عرف منذ خطواته الأولي في عالم الدبلوماسية بالكرم والمسئولية والتعمق في فهم الأمور وتحليلها.ولقد زاد في حزني عليه طول المدة بين رحيله وآخر ما كان بيننا من لقاء إذ كان ذلك في مدينة القاهرة قبل عشرين عاما وانأ أتوكل على الحي القيوم خارجا من وطني في هجرة قاصية مجهولة المدى متمثلا كلمة العباسي في خطابه للدهر:
زد عتوا أزدك من حسن صبري         وأذقني كأس العذاب الأمر
لست يا دهر نائلا من شبا عزمــــــــــــي  فتيلا ولا  قلامة   ظفر
ولقد أكرمني بتلك الزيارة وأقرني على ما أزمعت من الخروج من وطن لا يعرف أقدار الرجال ويسعى في إذلالهم بقطع الأرزاق غير عالم أن ارض الله واسعة الفلا  ولنا فيها مراغم كثيرة كما قال أصدق القائلين.ولا أكاد الآن أتذكر ما ألم بي واستعرضه في خيالي دون أن يقفز آبا سعيد إلى خاطري  ضمن كوكبة من الفرسان على رأسهم العزيز الوافي العلامة حسن ابشر الطيب أطال الله بقاءه وحياه.
ما كدنا نفرغ من صدمة رحيل اباسعيد حتى دهمتنا الدنيا بصدمة أخرى هي رحيل الشاعر الضخم صديق مدثر وغيابه النهائي عن عالم البشر الفانين.وكان صديق ملكا متوجا على الشعر الغزلي السوداني إلى جانب أمارته للشعر الغنائي وفوق ذلك ما عرف عنه من خفة الروح وحضور البديهة وحسن الدعابة.وعلى أيام انتظام لقاءاتنا كان يسألني عن الشعر فأقول له قد غدوت شاعرا بالمعاش فارتجل هذا البيت:
يا شاعرا بالمعاش
أخشى عليك التلاشي
ولا اعرف الآن كيف تستقيم الحياة من بعده لأصدقائه القريبين ومنهم فناننا الأكبر عبد الكريم الكابلي حيث جمع بينهما حب الشعر والفن فزينا دنيانا بالروائع الخالدات.ومبلغ علمي أن مكانه سيظل شاغرا وان محبيه الكثيرين سيمضون في اجترار ذكرياته واستعراض قولاته لأجيال وأجيال
ومعروف  أن لأبناء الجيل معزة خاصة ولأبناء الكار معزتان وفقد أي منهما يترك القلب غارقا في دماء القلب.ومدثر من أبناء ألكار الشعري حيث جمعتنا جلسات وجلسات وتساقينا مودة صافية وإعجابا لا تشوبه الشوائب ولكنني بذات الوقت انتمي إلى الكار الدبلوماسي وفيه نفر من أصدقاء العمر ممن زينوا الكون منهم أي تزيين.وما كنت أظن أن المقادير من ظلمها وطيشها ستفجعني بالسفير عزت الديب فقد كان عليها أن تتروى قبل أن تفجعنا به وهو الذي أصابه من ظلم الدهر ما أصابه.
عزت  الديب من أكبر السفراء السودانيين في جيلنا عمرا وعقلا وأحسنهم خلقا وأبرهم بالعاملين في الخدمة الخارجية وقل أن تجد دبلوماسيا سودانيا لم ينل من حسن رعايته ونصحه وقدرته الفذة على حل المشاكل وإصلاح ذات البين . وظني انه كانت له هواية في عمله الإداري إذ انه لم يستغل موقعه الإداري وخبرته الدبلوماسية ليستأثر لنفسه بفرص العمل بالخارج بل ظل يقدم الآخرين وحين تقررت إحالته للمعاش ألجمت الدهشة السنة عارفيه فقد كان وسيظل بنظرنا عين إنسان الفضل والكمال.وليس أسخف من إحالته للمعاش سوى التبرير الذي سيق يومها من أن له نشاطا سياسيا خفيا يمارسه في السر وتلك فرية لم تنطل على أحد سوى من اخترعوها فقد عرف الرجل الجليل بالحياد السياسي المطلق والاكتفاء بأصدقائه وعائلته الممتدة عن مجالسة رجال السياسة والعمل في رحابهم.والله نسأل أن يتولى أمر من ظلموه أحياء وأمواتا .
نسأل الله له الرحمة والمغفرة وحسن العزاء لعائلته وذويه وعلى رأسهم زميلنا طارق الكاشف ونسأله اللطف بمحبيه وأصدقاءه الكثيرين الذين فجعوا برحيله من ظلام الدنيا الى عوالم الرحمة والنور حيث لا يضيع حق ولا يهنأ الظالمون.
Ibrahim elmekki [ibrahimelmekki@hotmail.com]

 

آراء