نظرة عبر الركام

 


 

عمر العمر
23 May, 2023

 

مجاراة لمقولة المؤرخ الألماني كلاوزفيتس (الحرب هي ممارسة السياسة بوسائل مغايرة) في وسعنا القول كذلك :التفاوض ممارسة الحرب بوسائل مختلفة .أحد أبرز الدروس المستقاة من ملحمة الروائي الروسي الخالدة(الحرب و السلام) ان التاريخ لا يكتبه أدعياء البطولات ، بل هو إنجاز من صنع كل الطبقات الإجتماعية. لذلك ينبغي علينا توسيع بؤرة أبصارنا حتى نتجاوز حصر عملية التفاوض الجارية في جدة من مجرد تفكيك نطاح بين مغامرين اثنين ، إلى أوسع من ذلك من منظور نصب مائدة للتفاوض بغية التصالح بيننا وبين الماضي والمستقبل على الصعيد الوطني بأسره. فماضينا مشحون بكثير من التشوهات ،التوترات والمنفرات مما ينبغي تفكيكه أو كنسه تمهيداً لصناعة غد مفعم بالحياة و بالأمل .فكما يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا (مهما كبرت مآسينا فلا يزال أمامنا فسحة للتحرر من وطأة الذكريات البغيضة).
*****

كم هي قاسية وطأة منعطفنا الراهن على ذاكرتنا الجماعية ، خاصة الأجيال الناشئة ، ممن استيقظوا على حين فجأة ليشهدوا أحلامهم البضة المسقّاة بالدم والعرق في الكرامة ،العدالة والحرية تحولت بغتة إلى كوابيس تطارد النوم من عيونهم وتكحلها بالرعب والقلق . أشد وقعاً مشهد الدمار والحرائق والجثث المهملة حتى غدت جزأ من مشهد النفايات المبعثرة في الأزقة والطرقات داخل المدينة المترهلة بالأحزان .هو منعطف حرج على ذاكرة طرية مشوشة بأدخنة الحرب وغبارها وأسراب النازحين من المنازل المهشمة والمنهوبة الضاربين في فجاج فضاء الأرض. هي حرب بغيضة لكنها لم تكن قصية عن التوقع .ربما شراستها فقط إذ زلزلت المسرح العام حيث التبس المشهد فلم يعد ممكنًا الفرز بين الواقع والمتخيل .
*****

لكنها هي الحرب كما وصفها تولستوي تبتلع البشر ،الشجر والحجر.هي كذلك كما وصفها الكاتب المغربي الطيب بوعزة ايغال في توحش العنف بما في ذلك من فظاعات تناقض الفطرة الإنسانية ، قرائن العقل والشرع. مع ذلك في السرد التاريخي الإنساني علائق بين الحرب والاستبداد مقابل النضال من أجل الحرية والانعتاق. لذلك يشدد عديد من الحكماء على شرعية اعلان الحرب من أجل السلام. هي ثنائية ظلت تشكل قضية حيوية تشغل اهتمام الفلاسفة منذ أرسطو. القديس أغسطين تحدث عن الحرب العادلة . كانط تشبث بأطروحة السلام الدائم عقب تراجعه عن حلم الدولة العالمية .
*****

الرهان الرابح على مفاوضات يبدأ من حيث النجاح في بنائها مصدًا أمام هذا التدهور المريع على المستوى الحياتي المعيش. لا شيء يعلو في الهم السوداني الراهن فوق إطفاء ألسنة النار والحقد والغضب . مع ذلك ما ينبغي حصر المسألة الوطنية في اللهاث وراء شرارة هذه الحرب الكريهة .فشرار إشعال الحروب ليس بواعثها الحقيقية . ذلك درس عالمي خالد منذ اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند شرارة اشعال الحرب العالمية الأولى.كما التحرش بمعسكر الدعم السريع في سوبا لم يكن غير النفخ في كير الحلفاء الأعداء..لكن بلوغ النهائيات السعيدة لعملية التفاوض العسكري لن يحدث ما لم يمتلك الجيش زمام أمره،والكف عن مواصلة الحرب بالوكالة
*****

علينا الاعتراف بخطيئاتنا مجهضة الثورة الباسلة المتجسدة في مراوغة مواجهة حتمية مع مكامن وبؤر الطغيان والفساد. تلك المواجهة وحدها هي السبيل الآمن لتفادي مراكمة عاهات عديدة ضاق بها صدر المرحلة الانتقالية مما أفضى بنا إلى هذا الانفجار الأحمق .الآن فقط أدركنا كم هو الجبن أفدح كلفة من الجرأة. الآن فقط اكتشفنا غباءنا حينما لم ندرك فجر الثورة ان وضع السلطة بين يدي حفنة عسكر يناقض فكرة انتقال سلمي مدني للسلطة .فمن منطلق عقيدة العسكر بان الحرب خدعة باشرت الحفنة السلطة بقناعة كل شيء خداع. ربما من أبلغ دروس هذه الحرب البغيضة ضرورة امتلاك قبس من الوعي يمكننا من تصنيف الأعداء والأصدقاء .
*****

أبلغ من ذلك أهمية حصر تفاوض طرفي الاقتتال داخل ميدان الشأن العسكري .أما حين ينتقل الحوار إلى الهم السياسي فلا ينبغي لهما إتاحة دور أبعد من التسليم والاستلام. فل— (المشاركة الذكية) باع طولى في مأساتنا السوداء وتشريدنا في الفضاء. نحن مطالبون حاليًا أكثر من أي وقت مضى باسترداد يقظتنا الوطنية في عنفوانها المطلق نقية من كل عاطفة أخرى. المرحلة الانتقالية علمتنا ؛التهاون ازاء المسؤولية الوطنية في اللحظة التاريخية أفضى بالشعب والوطن إلى الخسارات الماحقة .ذلك التهاون جرفنا لجهة الخيارات الخائبة من منطلق انها الخيارات الممكنة ،من ثم فهي المريحة! لنتذكر دومًا أن المستقبل البهي يصنعه الشجعان .!
*****

 

aloomar@gmail.com

 

آراء