نيالا المدينة الخلاسية …. بقلم: محمد الشيخ حسين

 


 

 

abusamira85@hotmail.com

 

كم وددت أن أكتب عن نيالا وكم أمسكت بالقلم ثم تركته، كان قلمي كالجواد الحرن يأبى علي ذلك ويسلمني إلى خدر وإلى كسل كبير فأرجئ الكتابة إلى وقت آخر لا أعلمه، بالرغم من أنني زرت هذه المدينة الجنة منتصف العام الماضي، وبقيت فيه يوما وثاني وثالث ورابع ويوم هو يوم الفراق خامس. وما كنت أحلم أن أزورها في يوم ما ولكن الأقدار رتبت لي رحلة ثانية وادخرت لي بين ثناياها ذكريات سعيدة فلها المنة.

كانت الطائرة تطير فوق صحراء شاسعة تكتسي في بعض الأحيان ببقع خضراء كأنها قطعة ضخمة من الأشجار.

ومن إحدى نوافذها كنت أراقب المشهد ولا أصدق أنني بعد أقل من ساعة ٍأحط الرحال بمطار نيالا، وفي النفس قلق غريزي من تغيير المكان والحلول في آخر وما تدخره الأيام من مصادفات قد تكون غير سارة.

وتقترب الطائرة من المدينة، وهي تحلق منخفضة في أجوائها، كنت مندهشا من سحر المنظر وروعته وقلت في نفسي منظر عناق الرمل والأشجار على ضفتي وادي برلي ( لا يصلح له إلا شاعر)!

الوادي المشهور ساكن بلون الذهب والشمس مشرقة وأراض خضراء والطيور تطير وتهبط على تلك الأرض في هدوء وثبات وشفافية بلورية.

كانت رحلتنا أشبه بمهمة تفتيش في الضمير الدار فوري، لكن كثيرة هي تعقيدات الأوضاع في دار فور على مختلف الأصعدة. ولمجرد الاعتراف بواقع لا يمكن إنكاره، فإن التعقيد المتزايد يبدو أن حلقاته باتت تفكك بحذر يوما بعد يوم.

أما الذين يفسرون التاريخ بالمنحني الصاعد حتى الذروة أو حتى الذين يتابعون التاريخ بالمنحنى الهابط إلى السفح، فلا يسعنا المجال لنرصد معهم ظاهرة واضحة للكل تتمثل في أن النتائج الإنسانية وتداعياتها المستمرة من الأهوال التي عاشتها دار فور تمثل تجربة كابوسية كاملة عانت منها العباد والبلاد.

ومن المفارقات أن الزائر لمدينة نيالا حاضرة ولاية جنوب دارفور قد يتملكه الشك من أن هذه المدينة ذات الرمال الناعمة والأشجار الباسقة الخضراء قد شهدت أو عاشت شئيا من أهوال دار فور أو تداعياتها التي سارت بذكرها الركبان.

غير أن الذي يسعدك أن الأستاذ علي محمود محمد أبن رهيد البردي الذي كان يشغل في نيالا حين زرناها وظيفة والي ولاية جنوب دار فور يخرجك من هذا الشك بسؤال فحواه إلى أي مدى ترى حاجتنا إلى أن نتعامل مع قضايانا بوصف مسئوليتنا نحن عنها؟

ويعيد السؤال ونحن على مائدة إفطار دار فورية دسمة، هل نحن بحاجة إلى أن نعيد النظر في مستوى وعينا، لنعرف كيف نتعامل مع ممارسات جماعية أو فردية نعرف أنها ممارسات خاطئة؟

ويطرح الصديق القديم علي محمود  السؤال تعليقا على وصف الزيارة  بمهمة تفتيش في الضمير الدار فوري، لأن أصل المهمة في تقديره أن الظروف الحادثة في المسار الإعلامي المتعلق بأحداث دار فور تحتّم إيجاد مقاربة جديدة تضمن لهذا الإعلام الانخراط الهادئ والسلس في مسار التحرّر والتعدّد مع الحفاظ على سمة الالتزام والتقيد بمتطلبات المسؤولية.

دعك من هذا العناء، فقد كانت نيالا المدينة الناعمة على موعد مع المطر حين هبطت بنا طائرة البوينج 737 في مطار المدينة الواسع الأنيق.

وتستحق حاضرة ولاية جنوب دار فور أن يطلق عليها لقب المدينة الناعمة، فمعظم شوراعها مكسوة بطبقة خفيفة من الرمال البيضاء وتغطيها غابة من الأشجار الضخمة الباسقة الخضراء.

نيالا مدينة ناعمة من جهة أن المطر يهطل فيها أناء الليل وأطراف النهار برقة متناهية، ولا يخلف الطين والأوحال، بل ينساب في لحظات عبر عدة أدوية طبيعية، بعد أن يغسل المدينة كأنما المطر يهطل ليغسلها ويكمل روعة المشهد.

 تموج شوارع المدينة بحركة الأشكال الخلاسية لدرجة اليقين أنها مدينة الخلاسيين أو حاكورتهم بغير منازع، يل يجول في خيالك أن الشاعر الفذ محمد المكي إبراهيم حين كتب قصيدته الأشهر (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت) قد عاش في نيالا أو عاشت في خياله نيالا. والراغبون في مشاهدة الساقين ذات الأطفال الخلاسيين، عليهم زيارة نيالا. وعندئذ لن تندم إن صرت أنت بعض الرحيق أو صارت البرتقالة هي.

من حيث الموقع الجغرافي تقع نيالا في جنوب دار فور الكبرى التي تمثل خمس مساحة السودان وتجاور ثلاث دول وتسكنها 86 قبيلة موزعة حسب التقسيم الجغرافي القديم  ما بين سافنا غنية وفقيرة وصحراء. لكن واقع حال هذا الموقع الجغرافي الآن، حسب الناشطون في منظمات المجتمع المدني يفيد أن كل اثنين من خمسة أفراد من سكان دار فور يحملون السلاح.

إذا كنت سعيدا ودخلت نيالا في أخر العصر، فسترى الدجى قبل أن يشرب من ضوء النجيمات البعيدة. والطريق من المطار إلى المدينة معبدا باسفلت يجعله ناعما مثل الحرير. تفترش كثبان الرمل حواشي الطريق برقة في شكل شريط مختلف الألوان يفصل الاسفلت من الأشجار  التي تلف جانبي الطريق على هيئة حديقة غناء. يبدو أن البشر قد صنعوا طريق الاسفلت بلونه الأسود، لتكمل الطبيعة روعة المشهد بزفة ألوان فيها أشكال من اللون الأصفر  للرمل وأنواع من اللون الأخضر للأشجار ودرجات عديدة من الأبيض بما فيها اللون الأبيض الذي دهن به البيت الأبيض الأمريكي للمنازل في معظمها.

أما المنازل في نيالا فهي مباني ذات عمارة منتظمة ودقيقة، اهتم مشيدوها بإبراز  المنظر الحسن. وتعني كلمة نيالا مكان المقيل وأصل الكلمة مأخوذ من لغة الداجو  التي يقلب فيها حرف الياء في نيالا إلى جيم. واعتبرت نيالا مكان المقيل من طقسها المعتدل وأشجارها الباسقة الخضراء. 

وتظل الرحلة إلى نيالا تجربة ممتعة وشيقة وشاقة، وقد يدركك ـ مثلي ـ عشق المدينة من اللحظة الأولى، وساعتها فهمت لماذا تصر عمتي أسماء بت أحمد الحسن على الإقامة في نيالا قرابة نصف قرن من الزمان، رافضة كل إغراءات الانتقال لمدن كبيرة وجهيرة. أراها تعشق مدينتها حين تحدثني عن أن زيارتها الأخيرة للخرطوم لبكاء إبراهيم عمر كان طريقها من المطار لمكان العزاء في الدروشاب ومن الدروشاب للمطار للعودة لنيالا. وعندما أسألها لماذا لم تزور الأهل في الخرطوم؟ تجيبني كل الأهل التقيتهم في بيت البكاء وأنا في الخرطوم (بحرق روحي الزحمة والحر).

نيالا حاضرة الخلاسيين مدينة ذات لطائف وأسرار، وتعيش في الضمير، ففيها ترى كل جميل وربما تنكوي بالنار من غير (فصود في خديد). 

رفيق الرحلة أبن نيالا الأستاذ الصادق الرزيقي كان دليلنا في الرحلة بدرجة عاشق، يظهر عشقه في لهفته على التجوال في كل معالم المدينة أحيائها، طرقها، أسواقها، خيرانها، مدراسها، وناسها التي بدا لي أن الرزيقي يعرفهم فردا فردا.

التجوال مع الصادق الرزيقي في نيالا تجربة ممتعة في تلقي المشاعر الصادقة من الصنف الفاخر الصادر من القلب مباشرة، وهي حميمية تزيد من حبك للمدينة، رغم أنها قد ترهقك من كثرة السلام وقوة المودة في تبادله.

 

آراء