نيكولاي غــوغــول ( 1809 – 1852 )

 


 

 

 

" كلنا خرجنا من معطف غوغول " 

دوستويفسكي في إشارة لرواية غوغول " المعطف "
نيكولاي فاسيليفتش غوغول كاتب روسي يُعد من آباء الأدب الروسي و يعتبر واحدأً من مؤسسي المدرسة الواقعية في الأدب الروسي في القرن التاسع عشر.
بالإضافة لروايته القصيرة الشهيرة " المعطف " له من الأعمال التي لا تقل شهرة رواية " النفوس الميتة" ( 1842 ) بالإضافة إلى المسرحيتين الكوميديتين" المفتش العام " و " خطوبة " وكذلك رواياته القصيرة " الأنف " و" مذكرات مجنون " و" تراس بولبا " (1835).
ولد نيقولاي غوغول في مارس 1809 في قرية قرب مدينة بولتافا الاوكرانية. تأثر في صغره بطريقة حياة الفلاحين في الريف الأوكراني ، وتقاليد شعب القوزاق وفولكلورهم الغني .
بعد تخرجه من المدرسة في عام ( 1828 )غادر غوغول الى العاصمة سان بطرسبورغ باحثاً عن وظيفة في السلك الحكومي ، لكنه لم يجد عملاً ، وتعرض للكثير من المتاعب المادية . حاول العمل ممثلا ، ولكنه لم ينجح في الاختبارات ، فحاول أن يسلك طريقا أخر ويعمل شاعراً ، فنشر على حسابه ديوان شعر عاطفي سرعان ما فشل فشلا ذريعا ، فقام على اثرها بجمع كل نسخ الديوان وحرقها . وفكر أن يغادر روسيا ويهاجر الى امريكا . استقل غوغول مركباً وسافر الى المانيا على أمل ان يكمل المشوار الى امريكا من هناك . ولكنه أفلس في المانيا ، ولم يبق معه من المال ما يكفي ليتابع السفر الى امريكا . فقرر الرجوع الى مدينة سان بطرسبورغ حيث وجد وظيفة حكومية بمرتب متواضع جداً لكنه تركها أيضا بعد مرور عام ليدرس التاريخ في مدرسة داخليه للبنات.
ابتدأ غوغول في نفس الوقت يكتب قصصاً في بعض المجلات وكانت مواضيعها عن قرى أوكرانيا وعن عيشة الفلاحين هناك وأدخل في القصص حكايات عن العفاريت والسحارين استخلصها من الفولكلور الاوكراني بأسلوب مضحك استعمل فيه ألفاظ وامثله شعبيه أوكرانية.
في تلك الايام كان هذا الاسلوب جديدا في الأدب الروسي مما لفت أنظار القراء والنقاد اليه. في الفترة ( 1831 - 1832 ) كتب ثمانية حكايات انتشرت في مجلدين بعنوان " أمسيات في مزرعة قرب ديكانكا " وفجأة لقى غوغول نفسه من بين المشاهير من الكتاب والنقاد الكبار أمثال بوشكين ، وچوكوڤسكي ، وبلينسكي .
في سنة(1834) تعين غوغول في جامعة سان بطرسبورغ استاذا مساعدا في أدب العصور الوسطى ولكنه تركه بعد سنة وبدأ التحضير لنشر مجموعات قصصية جديدة في كتابين هما " ميرجورود " و" ارابيسك " اللذين نشرها سنة 1835 استبدل فيها اسلوبه الرومانسي بالأسلوب الواقعي التشاؤمي الذي يعكس انعدام القدرة على التجاوب مع الحياة، وفي نفس الوقت انعدام القدرة على الهروب منها. وتجلى ذلك في قصة " مشاجرة إيفان ايفانوفيتش وإيفان نيكيفوروفيتش " التي كانت فكاهية ،ولكن مليئة بالمرارة من قسوة الحياة.
وفي قصة " مُلاك زمان " على الرغم من كل الفكاهة كانت تشوبها سخرية من عجوزين عاشا عاجزين عن فعل أي شيء غير الأكل وفي قصة " مذكرات مجنون " موظف صغير قليل القيمة يعاني من الكبت، فعوض عنه بجنون العظمة ( ميجالومانيا ) -الذي تطور معه الى أن دخل مستشفى المجانين.
قصة " تراس بولبا " تحكي عن الصراع الذي دار خلال القرنين الخامس عشر والسابع عشر بين أوكرانيا الأرثوذوكسية وبولندا الكاثوليكية لقيت القصة نجاحا كبيرا في روسيا واعتبرها غوغول واحدة من قصصه المحظوظة.
كان غوغول يثق جدا في رأي وذوق بوشكين الأدبي ، ونشر في مجلته الأدبية قصة " العربة " التي تعتبر بلا منازع من احسن قصصه الساخرة .. وقصته الغريبة السريالية الفكاهية " الأنف " واستوحى غوغول من بوشكين فكرة مسرحية " المفتش العام " وروايته " نفوس ميتة " التي تعتبر من أحسن الروايات المكتوبة في تاريخ الادب الروسي بشكل خاص والأدب العالمي بشكل عام.
أما كوميديا "المفتش العام " فتحكي كيف أن المسؤولين والموظفين الفاسدين في أحد أقاليم البلاد احتفوا و استقبلوا رجلاً سمينا جميل الهندام على اعتبار أنه " المفتش العام " وأخذوا يقدمون له الرشاوي ويدعونه على المآدب لكي يغض بصره عن فسادهم الوظيفي. وبعد مغادرته احتفلوا بأنهم تمكنوا من الضحك عليه .. وأثناء احتفالهم بنصرهم وصل " المفتش العام " الحقيقي فأصابهم الرعب.
كتب غوغول الجزء الأول من رواية " نفوس ميتة " خلال ثماني سنوات فقد كتب جزءاً منها في خريف 1836في سويسرا وكتب جزءا أخر لاحقاً في باريس لكن روما كانت المكان الذي كتب فيه معظم روايته العظيمة و كان يطلق على روايته هذه اسم " الملحمة " التي تصور روسيا الإقطاعية بنظامها البيروقراطي الفاسد بالإضافة لنظام القنانة الذي كان سائدا فيها تلك الايام.
و عندما قرأ غوغول الفصول الأولى من الرواية على بوشكين شعر الأخير بكآبة شديدة لدرجة أنه صرخ:
" يا إلاهي ! يا حزن روسيتنا ! "
مختصر الرواية إن بطلها " تشيتشيكوڤ " رجل نصاب ماكر أراد أن يغتني ثانية بعد أن خسر ثروته فأعد خطة إجرامية وهي أن يشتري من ملاك الإقطاعات أرواح العبيد الذين كانوا يعملون عندهم وماتوا من فترة قريبة ولكن لم يتم تسجيل وفاتهم في السجلات الحكومية ، وبذلك فهم لا يزالون على قيد الحياة .. و يقوم برهن تلك الأرواح إلى البنوك ويستقرض مالا ليتمكن من العيش كرجل محترم في إقليم بعيد لا أحد يعرفه هناك.
في هذه الرواية خلق غوغول شخصيات كتيرة بسلوك ونفسيات مختلفة ، اشتهرت في روسيا بأسمائها.
في نفس السنة نشر غوغول بعضاً من رواياته القصيرة ، كان من ضمنها رواية " المعطف " التي وصفها الأديب دوستويفسكي بأنها " الرواية اللي طلعت من عبايتها كل الروايات الواقعية التي ظهرت في روسيا " . هذه الرواية تحكي العلاقة بين المعطف ولابسه إلى حدّ أنّ المعطف تحوّل على يَدَي غوغول إلى شخصيةٍ نابضةٍ بالحياة . الرواية أشبه بسيرة ذاتيّة ومرثية لحياة "أكاكي" الموظّفٌ بسيطُ الشخصيّة، وضعيف العيش والمعاش الذي وظيفته النّسْخ لجمال خطّه، حيث نراه يقضي عُمْرَه كلّه نسّاخاً لا تتعب أصابعه من عِشرة الأوراق والأقلام، بلْ من فرْط ولعه بالنّسخ كان يأخذ ما يتبقّى له من عمل إلى بيته المتواضع ليؤنس به عَشِيَّاتِ عزلته الباردة. قرّر أحد المسؤولين، ذات مرّة، ترقيته في عمله إلاّ أنّه امتعض امتعاضاً عكّر عمره إذ اعتبر ذلك زعزعةً لرتابة ألِفَها أشدّ الإلْف. كان قانعاً خانعاً، وكان الموظّفون الآخرون يستخفّون به استخفافاً يقابله بلامبالاة وكأنّ هذا الاستخفاف الذي ينهمر عليه يمسّ شَخْصاً آخر.
الحياة بلا معطف، في صقيع روسيا، كالجحيم. وكان لـ"أكاكي" معطف رثّ أكل الدهر عليه وشرب، ومعاشه الضئيل لا يسمح له بشراء معطف آخر، فكان كلّما تمزّق منه جانب أو انفتق جانب يذهب به إلى جاره الخيّاط لِرَتقهِ أو ترقيعه، إلى أنْ جاء وقت صار فيه المعطف من فَرْط تَهَلْهُلِهِ عصيّاً على الإصلاح والرَّتْق ومع هذا كان "أكاكي" مُصِرّاً على إصلاحه ولكن الخيّاط رفض في الأخير حتّى مجرّد لمسه مقترحاً على "أكاكي" أنْ يخيطَ له معطفاً جديداً. هنا جنّ جنون "أكاكي" لأنّه بكلّ بساطة، لا يملِك من المال ما يسمح له بتفصيل معطف جديد. ولكن بعد أنْ فقد معطفُه القدرةَ على مواجهة سياط البرد اللافح، قرر اختصار العشاء وعدم اشعال شمعة في المساء من أجل توفير مبلغ من المال لتفصيل معطف جديد عند جاره الخياط. وظلّ لعدّة أشهر يذهب يوميّاً بعد انتهاء عمله إلى الأسْواق لتفقد أسْعار القماش، إلى أن اكتمل المبلغ وتحققّت أمنيته بعد طول تقتير، بتفصيل معطف جديد لبسه بسعاده والخياط يراقبه ليملي عيونه من اتقانه عمله بتفصيل المعطف الجديد .. وكان اكاكي اكاكيفيتش يسير في اشد مشاعره ابتهاجاً واحتفالاً وكان يحس في كل ثانية من الدقيقة ان على كتفيه معطفاً جديداً.. واستطاع غوغول أن يجعل القارئ يعيش في أجواء روحية مع اكاكي اكاكيفيتش ومع كل الفقراء على شاكلته الذين يحلمون بالدفء ولقمة العيش. وبنفس المستوى من التاثير يصور لنا هذه المشاعر ولكن بشكل مغاير حين يصف احباطات هذا الانسان حين تتم سرقة هذا المعطف – الحلم : "احس كيف نزع المعطف منه، وجهت اليه ركلة وقع على اثرها في الثلج على ظهره ولم يحس بشئ اكثر من هذا.. وبعد بضع دقائق صحا على نفسه واستوى على قدميه. ولكن لم يعد أحد موجودا لقد احس ان الجو بارد وان المعطف غير موجود فجعل يصرخ، ولكن بدا ان الصوت لايبلغ اطراف الساحة فانهد يركض مستميتا دون ان يكف عن الصراخ" .. مات الفقير ودفن كاي نَكِرةٍ او حَشَرة في المجتمع. حتى دون ان يعلم به زملاؤه في المديرية حيث كان يعمل.
كما تحمس القراء والنقاد في روسيا للجزء الذي نشر من "النفوس الميتة " وشعروا أن غوغول من الممكن أن يملأ الفراغ الأدبي الذي حل في روسيا بعد وفاة أمير الشعراء بوشكين المفاجئ في عام 1837 .. بدأ غوغول النظر للموضوع من زاوية مختلفة وتسللت لرأسه فكرة دينية فحواها ان الرب حباه بموهبة أدبية كبيرة ليس فقط ليعاقب الفساد عن طريق اضحاك الناس ولكن ليُظهر لروسيا الطريق الصحيحة للعيش في عالم شرير. وعلى هذا الاساس قرر غوغول ان يكمل روايته على انها مثل " الكوميديا الإلهية " واعتبر الجزء الذي نشر يمثل بالنسبة لروسيا جحيم دانتي.
و بهذا دخل غوغول في متاهة دينية ، ووجد نفسه غير قادر على اكمال الرواية.. كتب غوغول في اعترافات مؤلف: " جلست لكي أكتب فوجدت نفسي غير قادر أن أكتب شيئاً . في كل مرة كنت أحاول الكتابة كان الموضوع ينتهي بمرض وتعب ، الى أن توقفت عن الكتابة لمدة طويلة ".
خلال عشر سنين كتب غوغول الجزء الثاني من روايته ولم يكن راضيا عما كتبه. وخطرت في دماغه فكرة ان الرب ، لسبب ما، لا يريد أن يكون هو من يرشد الناس لحياة أكثر خيرا . لكن على الرغم من ذلك قرر انه ممكن أن يقوم بتوصيل الفكرة والعمل كمعلم وواعظ بدون أن يستخدم قدراته الفنية ، فكتب " مختارات من مراسلاتي مع اصدقائي " وهي عبارة عن مجموعة من الخواطر. وكانت النتيجة عكس ما أراد حيث قام القراء والنقاد بمهاجمة الكتاب و بهذا الهجوم شعر غوغول انه فعلاً مذنب كبير وأن الرب قد تخلى عنه بالكامل، فأصيب بوسواس ديني كان من نتيجته أن قام قبل أيام قليلة من وفاته في عام 1852- وهو مصاب بلوثه شبه جنونية- بحرق مخطوطة الجزء الثاني من " نفوس ميتة " .
ختاماً يجمع نقاد الأدب على أن غوغول يعتبر واحداً من أكثر الكتاب الروس موهبة و أنه أحد دعائم نهضة روسيا الأدبية في القرن التاسع عشر بسبب أسلوبه المتميز الذي جمع بين الواقعية و السخرية القاتمة و أنه بهذا كان سابقاً لعصره إذ أن هذا الأسلوب لم يبرز بشكل واضح إلا في القرن العشرين فيما يعرف بأدب اللامعقول خصوصاً في مجال المسرح .
أسلوب كتابات غوغول انتقل لكتاب أمثال دوستويفسكى واندريه بيلي الذين اثروا بدورهم على كتاب كثيرين أخرين في فتره ما بعد الثورة الروسية.. أما مسرحية المفتش العام فتُصنف في عداد المسرح العالمي ولا تزال تُعرض في مختلف أنحاء العالم.. فمنذ البداية جاءت المسرحية فريدة في نوعها - فأحداثها تتمحور حول النظام الاجتماعي القائم والبلدة التي تدور فيها الأحداث يمكن أن تكون أية مدينة في الامبراطورية الروسية بل يمكن أن تكون نسخة مصغرة لهرم السلطة القيصرية ! يقول غوغول عن مسرحيته:
" أردتُ أن أجمع فيها، في كومة واحدة ، كل ما كنت أعرف في روسيا من قبح وكل ما كان يمارس فيها من جور وظلم " .

مصادر :
1) وكيبيديا الموسوعة الحرة
2) المؤلفات المختارة لغوغول ترجمة غائب طعمة و د. أبوبكر يوسف
الخرطــوم في :
13 ينائــــر 2018 م


*****

abasalah45@gmail.com

 

آراء